محمود جلال العشا مؤرخ زمن دمشق الجميل

الجمعة, 11 تشرين الثاني 2016 الساعة 06:00 | ثقافة وفن, ثقافة

محمود جلال العشا مؤرخ زمن دمشق الجميل

جهينة- د. محمود شاهين

(محمود جلال العشا) فنان تطبيقي تلقائي سوري، تعلم اجتراح فن خاص به، ضائع بين الفنون التشكيليّة والفنون التطبيقيّة والحِرفة، مادة ووسيلة تعبيره الأساس، الخشب المعاكس، وأدوات تنفيذه، قلم رصاص، ومنشار، وغراء، وجهد وصبر طويلان، إذ قد يستغرق إنجازه للوحة الواحدة شهراً من الزمن أو أكثر ، مع ذلك ، ظل هذا الفنان الصبور المجتهد، يمارس عشقه العجيب لهذا النوع من الفن (الذي تفرّد به وارتبط باسمه) وحبه لدمشق (التي أرّخ به ملامح من زمنها الجميل) عبر انكبابه على ممارسة هذين الهيامين حتى انهدت الحياة في جسده الناحل، وغادر الحياة قبل بضع سنوات.

فهذا الفنان الموهوب والخلوق والمحب والمجتهد من مواليد دمشق عام 1931 من أب دمشقي وأم فرنسيّة، عمل موظفاً مدنياً في الإدارة السياسيّة بالجيش العربي السوري، قبل أن يُحال إلى المعاش ويتفرغ كلياً لفنه الذي تعرّف إليه مصادفة، فتسرّب حبّه له إلى قلبه، وسكن روحه، واستوطن كل خلية في جسده الناحل المتهالك بفعل المرض والسن، مع ذلك كان العشا يُصرّ على الحياة من أجل الاستمرار بالاشتغال على فنه الذي تحوّل لديه إلى مصدرٍ رئيس من مصادر سعادته. عاش طفولته ويفاعته في حي دمشقي قديم وعريق، تسوده العلاقات الاجتماعيّة النبيلة، والروح الجماعيّة التي كانت تُضفي الألفة والمحبة على ساكنيه، الأمر الذي حوّلهم إلى أسرة واحدة تتعاون في السرّاء والضرّاء، وتتكافل في الأفراح والأتراح، وتمارس الحياة بكثير من النقاء والصدق والمحبة.

هذه الحالة الاجتماعيّة المفعمة بالحب أثّرت بالفنان العشا، فحفظها في روحه، وكتب سطور تاريخها فوق جدران قلبه، ورسم ملامحها الساحرة في تلافيف ذاكرته البصريّة، وعندما اهتدى إلى وسيلة تعبيره الفنيّة الشاقة والشائكة والفريدة، عكف على تجسيدها في العديد من اللوحات (أخذت طريقها إلى عدة معارض فرديّة وجماعيّة) أوقف موضوعاتها على ما تكتنزه ذاكرته البصريّة، وتختزنه عواطفه وأحاسيسه، من صور ومظاهر لهذه الحالة الاجتماعيّة النبيلة المرتبطة بالزمن الجميل الذي رحل أو كاد، من حيواتنا العربيّة المعاصرة، التي باتت تحكمها الفرديّة والأنانيّة، وُتقطّع أوصالها العزلة والتنافر والخلافات.

اهتدى الفنان العشا بالمصادفة، إلى وسيلة، تعبيره الفنيّة البسيطة، وذلك عندما قام أحد أصدقائه بتكليفه بتنفيذ شعار نافر من خامة الخشب، ولأن التجربة نجحت بشكل كبير، استيقظت الموهبة الغافية في أعماقه كجمر المواقد الذي مرت عليه الريح، لتأخذ طريقها إلى هذا النوع من الفن الذي سرعان ما تسرّب إلى روحه، مستوطناً كل خلية في كيانه، الأمر الذي جعله يعكف على ممارسته حتى الرمق الأخير في حياته، رغم اعتلال صحته أواخر سنوات عمره، و تكدّس الكثير من أعماله الفنيّة في بيته، إذ لم يبع منها سوى القليل، وبأثمان لا تغطي موادها ولا تعادل إلا الجزء اليسير من الجهد المبذول فيها، ما يؤكد أنه كان مأخوذاً بفنه والموضوعات التي يعالجها فيه، مكتفياً بالمتع التي يحصل عليها أثناء وبعد إنجازه لعمله الفني المتأرجح كخاصيّة تشكيليّة وتعبيريّة بين الفن التشكيلي والفن التطبيقي أو الحرفة.

كان الفنان محمود جلال العشا يبدأ عمله الفني باستحضار موضوع أو فكرة اللوحة إلى ذهنه مما تختزنه ذاكرته البصريّة، عن عمارة وحرف وعادات وتقاليد زمن طفولته ويفاعته الجميلة في حواري دمشق العتيقة، ثم يقوم بإسقاطها شكلاً وعناصر ومفردات فوق سطح ألواح المعاكس بوساطة قلم الرصاص، ومن ثم يقوم بقصها بمنشار خاص أو بمشرط حاد، بأناة وصبر ودقة. وبعد أن ينتهي من مرحلة قص مكوناتها من الخشب المتأرجحة ألوانه بين البيج والبني الفاهي، يلجأ إلى تثبيتها فوق سطح اللوحة الذي هو الآخر من الخشب المعاكس، وذلك بمادة لاصقة مناسبة (الغراء) في المكان المحدّد لها. وبعد أن يتأكد من أن الفكرة وضحت، وأخذت شكلها المطلوب، يصنع لها الإطار المناسب، ويركنها جانباً، ليباشر بعدها، مع عمل جديد، وسعادات جديدة، معمّدة بالتعب والجهد والصبر وصلابة الإرادة والتصميم. هذه المثابرة المتواصلة والسعيدة على إنتاج الفن وتقديمه للناس، دفعه إلى إدمان ممارسته له بشهية مفتوحة وكبيرة، لم تخف أو تضعف حتى آخر يوم في حياته، بل لعلّه أصبح يُصرّ على الحياة من أجل ممارسة فنه الذي كرّسه لتأريخ وتوثيق ملامح الزمن الدمشقي الشعبي الجميل التي اختزنتها ذاكرته البصريّة، وحفظتها روحه، واكتنزت عليها أحاسيسه، يدفعه إلى ذلك (عدا السعادة التي يحصل عليها من ممارسته له) هدف رئيس هو تسجيل وتجسيد جماليات هذا الزمن وقيمه النبيلة ووضعها بين أيدي الأجيال المتعاقبة، لحفظها وصونها والاستفادة منها.

رغم الوحدة المتجانسة المكرّرة التي سيطرت على تجربة الفنان العشا (المتفردة والمتميزة، ليس على صعيد الفن البصري السوري فحسب، وإنما العربي) فقد شهدت هذه التجربة محاولات عديدة

للتجدد، إن على صعيد وسيلة التعبير، أو الأفكار والمضامين التي تمحورت في البداية، حول موضوع دمشق القديمة، بعماراتها المدينيّة والدينيّة والأثريّة، ثم انتقلت إلى الحرف والصناعات اليدويّة التقليديّة، والعادات الشعبيّة، وبعض المهن التي شاعت في الحارة الشاميّة الشعبيّة كالسمكري، والحمصاني، وصانع الحصر، والقباقيبي، والمنجد، والفران، والكنفاني، والمجلّخ، وبائع دواليب الهوا، وصاحب صندوق الدنيا، والمولويّة، والسقا، والحارس الليلي، والباعة الجوالين، ثم أضاف إليها لاحقاً، موضوعات الطبيعة الخلويّة والطبيعة الصامتة، والموسيقيين، والزخارف المتنوعة. وفي مرحلة لاحقة انتقل لرصد وتسجيل بعض مظاهر الأعياد الدينيّة والشعبيّة كموكب الحج، والمولد النبوي، ثم توسّع في موضوعات لوحاته لتشمل الطبيعة والطبيعة الصامتة، وبلدة معلولا، عاشقة الصخر والتاريخ التي شكّلت ولا تزال، موضوعاً أثيراً للفنانين التشكيليين والمصورين الضوئيين والمعماريين السوريين وما زالت حتى اليوم شغلهم الشاغل. كما قام بإدخال بعض الوحدات الزخرفيّة العربيّة والإسلاميّة إلى لوحاته التي تواكب فيها وانسجم التنوع المضموني والتنوع الصياغي. ونتيجة للملاحظات الكثيرة التي وُجهت إليه من قبل زوّار معارضه عن سبب غياب الألوان من لوحاته، لاسيّما أنه العنصر الأساس الذي يُطرب العين العربيّة في الفنون التشكيليّة والتطبيقيّة، حاول العشا إدخال اللون إلى بعض أعماله، بأكثر من أسلوب، لإثراء سطح اللوحة، وإبراز التعبير فيها، ولإرضاء ذوق المتلقي، لكنه لم يستمر في ذلك، بعد أن اهتدى إلى إمكانية تحقيق هذا الخصيصة، عن طريق توظيف التباينات اللونيّة للخشب المعاكس نفسه (بني غامق، بني فاتح، سكري، بيج) للإيحاء بها، وللحصول على أكبر قدر ممكن من المقاربة بين موضوع لوحته والواقع، وهذا ما دفعه (في وقت متأخر من تجربته) إلى إدخال العنصر الإنساني إليها، والتأكيد على تفاصيل صغيرة (حجارة، أبواب، شبابيك، درابزونات) ما جعل عناصرها تنتقل من البروز البسيط (ريليف) مؤلف من طبقة أو طبقتين، إلى البروز الشديد (باراليف) مؤلف من ثلاث طبقات أو أربع أو خمس، الأمر الذي حوّل لوحته إلى أنموذج مصغر (ماكيت) للبيت أو الحي الدمشقي القديم (بمظاهره المختلفة)، وهو ما أرداه وطمح إليه،مدفوعاً بهاجس استعادة هذا العالم المتواري، الذي عاشه بسعادة مطلقة، وفرح حقيقي، وإعجاب شديد .

انكب الفنان محمود جلال العشا على ممارسة هذا الفن مطالع سبعينات القرن الماضي(إلى جانب وظيفته في الدولة) باجتهاد ودأب نادرين، مكتفياً بالسعادة الحقيقيّة التي تمنحه إياها عملية الخلق الصعبة لهذا الفن الذي أدمنه، وصار جزءاً من حياته وكيانه.

ونتيجة لتعلّق الفنان العشا الشديد بالموضوعات الشعبيّة الدمشقيّة التراثيّة الأصيلة والجميلة التي تموج بها ذاكرته البصريّة، وعشق روحه للقديم الجميل، وطرب أحاسيسه لها، تمكن بسهولة ويسر من استنهاض هذه الموضوعات في لوحاته، مدفوعاً برغبة عارمة لاستعادة وامتلاك هذا العالم الحنون الهارب من الروح وبها، بين ثنايا الأيام والأسابيع والسنين، بالفن ومن خلاله، هذا الذي شكّل للفنان العشا وسيلةً للتخفيف من فيض نفسه وامتلائها بالعواطف والأحاسيس النبيلة، الصادقة تجاه هذا العالم الحميمي المنسحب من الحياة المعاصرة. ولأنه مارس فنه بعشق وتفانٍ واجتهاد، تمت عملية ممارسته له بمثالية وسعادة غامرة، جعلته يتوالد بكثير من السلاسة، والوسامة، والعفويّة، والفطريّة، والبساطة، والغزارة: لوحة بعد الأخرى: لحمتها من القلب، وسداتها من التعب ـ السعيد، وهذه الخصائص والمقومات مجتمعة، حوّلت ممارسته له إلى متنفس لروحه، ووسيلة للتعبير عن خواطره وذكرياته. وسيلة أدمن التعاطي معها، والقيام بممارستها، بسعادة غامرة، حتى مغادرة الحياة لجسده النحيل الضامر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ مارس الفنان عشقه لفنه ولدمشق القديمة بنفس حميميّة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ كرّس فنه المتفرّد والصعب لتوثيق ملامح زمن دمشق الجميل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ ظل يمتح سعادة ممارسته للفن الذي ابتكره حتى آخر أيامه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ لم يبع إلا القليل من لوحاته، ومع ذلك واظب على إنتاجها بغزارة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ يستغرق إنجاز اللوحة منه شهراً أو أكثر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

■ أرّخ العشا لدمشق القديمة وناسها بالحب والخشب والصبر الطويل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن مجلة جهينة

http://jouhina.com/magazine/article.php?id=3767


أخبار ذات صلة


اقرأ المزيد...
أضف تعليق

تصنيفات الأخبار الرئيسية

  1. سياسة
  2. شؤون محلية
  3. مواقف واراء
  4. رياضة
  5. ثقافة وفن
  6. اقتصاد
  7. مجتمع
  8. منوعات
  9. تقارير خاصة
  10. كواليس
  11. اخبار الصحف
  12. منبر جهينة
  13. تكنولوجيا