دمشق.. ولادة نظام عالمي جديد

الخميس, 12 أيلول 2013 الساعة 01:42 | مواقف واراء, كتبت رئيسة التحرير

دمشق.. ولادة نظام عالمي جديد

جهينة نيوز- بقلم فاديا جبريل:

على الرغم مما قدّمته روسيا للأمم المتحدة من وثائق تثبت تورّط المجموعات الإرهابية باستخدام السلاح الكيماوي في غوطة دمشق، إلا أن مسرحية الكيماوي التي أخرجها ونفّذها السعوديون واستثمرها الأمريكيون، طغت على أي صوت أو خطاب آخر، وكانت مادة إعلامية خصبة ومنصّة سعى أطراف العدوان وعلى رأسهم الولايات المتحدة إلى أن تكون شبيهة بمسرحية سلاح الدمار الشامل التي فتحت الآفاق لضرب العراق وتدميره.

الساحة الدولية تشهد اليوم تصعيداً صاخباً ومقبلة على منعطفات حادة وخطيرة، حيث تملأ الأفق تصريحات في لعبة تبادل الأدوار ما بين الأصيل والوكيل لعدم تفويت الفرصة واقتناص هذا العمل المسرحي للتدخل عسكرياً وبشكل مباشر في سورية، لأن ما رُتّب له يشكل لأمريكا وحلفائها طوق نجاة في أجواء إقليمية ملبّدة وساخنة وبالغة التعقيد، إذ يعاني حلفاء واشنطن من مخاطر كبرى تتهدّد دولهم وكياناتهم السياسية، لأن عامل الزمن وفق مخطط إطالة عمر الأزمة السورية يسير بعكس الرياح السعودية، ما يبدو أنهم أيقنوا أنه ليس في مصلحة المخططين الصمود الاستثنائي السوري الذي أسقط حلفاء أمريكا الواحد تلو الآخر، في الوقت الذي يراكم الجيش العربي السوري انتصاراته وإنجازاته العسكرية الإستراتيجية التي استطاع فيها كسر ذراع أمريكا العسكرية «القاعدة» في حمص وريفها وفي ريف اللاذقية الشمالي «باكورة غزوات آل سعود بعد تسلمهم قيادة المجموعات الإرهابية»، وأيضاً في ريف دمشق مؤخراً، ما يشير إلى أن الواقع الميداني للمجموعات الإرهابية بات عاجزاً عن إكساب الولايات المتحدة ما يحسّن من وضعها التفاوضي على شكل وخريطة الشرق الأوسط الجديد.

لم يكن بمقدور الرئيس الأمريكي «حليف القاعدة» أن يضع خطوطاً حمراء أو خضراء، إلا لأنه يتحرك ضمن سيناريو محدّد يتضمّن الخطة البديلة لإيقاف التقهقر الدراماتيكي لحلفائه وانهيارهم في الميدان، وهي تلك اللحظة التي ستؤمّن ذلك الخرق لخطوطه المفتعلة، فكانت تلك «المسرحية الكيماوية»، حيث أوعزت «الديمقراطية الأمريكية» للسعودية بتزويد قطعان «القاعدة» بالسلاح الكيماوي لاتهام الدولة السورية باستخدامه، لتكون بذلك قد أوجدت الغطاء للتعمية على حقيقة هدفها في ضرب سورية!.

وهنا لابد من التساؤل: لماذا لم نلمس حرارة ضوء أوباما الأحمر تجاه «إسرائيل» التي ارتكبت أبشع المجازر في فلسطين ولبنان، وتنتهك يومياً كل القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية، ولماذا لم تأذن واشنطن بقبول طلب دمشق إجراء تحقيق دولي باستخدام الإرهابيين للكيماوي ضد الجنود السوريين في خان العسل بريف حلب إلا بعد مضي ستة أشهر، وحتى تمكّن الإرهابيون من السيطرة عليها مجدداً لطمس الأدلة التي تدين الرأس الأمريكي وذيله السعودي؟؟!!.

إذاً, فالقرار الأمريكي القيام بحرب عدوانية على سورية جاء في محاولة متأخرة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتعديل ميزان القوى على الأرض لمصلحة العصابات الإرهابية لتفتح باب التفاوض وفق شروطها, وكلنا يعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتادت أن تقوم بحروبها العدوانية وفق مسرحيات مفضوحة وادّعاءات كاذبة، مستغلة وجودها كقطب وحيد في الساحة الدولية غير آبهة بالرأي العام العالمي الرافض لسياستها الرعناء التي تنطلق من استخدام القوة المفرطة في تحقيق مصالحها، والذاكرة الجمعية لشعوب العالم متخمة بتلك الادعاءات، من كذبة محاربة ربيبتها «القاعدة» إلى كذبة نشر الديمقراطية في العالم وصولاً إلى كذبة أسلحة الدمار الشامل.

أما اليوم فإن صورة العالم بدأت بالتشكّل من دمشق، وصار النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب حقيقة وواقعاً، وثبات سورية بشعبها وجيشها وقيادتها وصمودها قرابة ثلاثة أعوام في وجه أخطر إرهاب يمكن أن يتهدّد دولة، خلق المناخ الملائم لصعود قوى كبرى كروسيا والصين، بمواجهة عربدة الإدارة الأمريكية لإعادة الحدّ الأدنى من القانون الدولي الذي ينظم العلاقات الدولية. ومن هنا نستطيع أن نقرأ ثبات الموقف الروسي والصيني لجهة دعم سورية إلى النهاية، وهما يدركان تماماً أنه بسقوط سورية سيكون الفصل القادم من الإرهاب الأمريكي بقيادة السعودية في القلب الروسي والصيني، وهي التي عملت منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي على غزو الجمهوريات الإسلامية السوفييتية بالفكر الوهابي ونشر التطرف الإسلامي من خلال مئات المدارس الدينية التي يموّلها آل سعود بما فيها مدارس الداعية التركي فتح الله كولن.

في ظل هذا المشهد العالمي الجديد يبدو أن أمريكا وحلفاءها في مأزق كبير وسط خيارين أحلاهما مر، فإذا لم تقمْ أمريكا بضربة عسكرية سيؤدي ذلك إلى تقدّم أكبر للدور الروسي في المنطقة، وصعود إيراني أكبر، وإعلان انتصار سورية في معركة «الربيع العربي»، أما إذا أقدمت على ضرب سورية، وهذا لا يبدو ميسراً بالقدر الكافي لأن الغرب متأكد أن الردّ السوري سيطول أولاً «إسرائيل»، فإن الولايات المتحدة ستعوّل في كسبها الحرب على إشعال الجبهات الداخلية مع الإرهابيين للحدّ من زخم الرد السوري وحزب الله، حتى هذا الخيار –باعتقادنا- غير ميسّر لأنه سيدفع إيران آنذاك للتدخل العسكري المباشر ضد القواعد الأمريكية في الخليج، فضلاً عن أن روسيا ستتخذ قراراً بتزويد سورية بأسلحة كاسرة للتوازن مع «إسرائيل»، ما سيؤدي إلى نشوب حرب إقليمية واسعة النطاق لن تقف عند حدود سورية بل ستشمل المنطقة بأكملها، وسيمتد لهيبها إلى دول أخرى، حرب ستختفي معها دول عن الخريطة العالمية وأول المرشحين «إسرائيل» وحليفتاها السعودية وقطر ما سيؤثر على إمدادات النفط وهذا ما لا تستطيع تحمّل تبعاته الولايات المتحدة الأمريكية.

مع التشكيك بالقدرة الأمريكية في تحديد مدة الحرب ومحدوديتها ومساحتها الجغرافية ومن سيكون الرابح، كان أول المنسحبين من تحالف الحرب على سورية الحليف البريطاني الأهم لأمريكا ومن ثم تراجع ألمانيا أكبر اقتصاديات أوروبا، ولم يبقَ إلا فرنسا الدولة العجوز وعربان الخليج الذين لا يمكنهم تشكيل الغطاء السياسي المطلوب، لأنهم على الدوام وفي التصنيف الغربي أتباع وليسوا حلفاء، ما جعل أوباما عارياً يلتحف ورقة توت ويبدو أول مرة بلا غطاء عالمي!!.

ولمجمل هذه الأسباب تقدّمت فجأة اللغة السياسية على لغة الحرب، حيث أطلّ علينا وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الذي يدرك مخاطر الخسارة الأمريكية أمام التحالفات والنظام الدولي الجديد، ليطرح مبادرة تقضي «بتسليم الأسلحة الكيماوية السورية للمجتمع الدولي خلال الأسبوع المقبل كي تتمكن دمشق من تفادي الحرب». حيث التقطت موسكو المبادرة ودمشق رحبت بها لتكونا بذلك قد سحبتا البساط من تحت أقدام أوباما وجردتاه من ذريعة مسرحية الكيماوي وسعيه للانقضاض على الدولة السورية لمصلحة حلفائه في «القاعدة»، لتعيدنا الذاكرة إلى أزمة الصواريخ الكوبية التي نُزع فتيل حربها النووية في ربع الساعة الأخيرة عبر تسوية تتعهد فيها الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن توافق سراً على سحب صواريخها من تركيا، بينما تتعهد موسكو بسحب صواريخها من كوبا، ما يجعلنا نتساءل هنا: ما الثمن الذي ستدفعه أمريكا لقاء قبول موسكو ودمشق بمبادرتها؟!.

بناء على ما سبق يمكن قراءة حالة الإرباك الشديدة للرئيس الأمريكي أوباما الذي تتنازعه ضغوط داخلية وأخرى خارجية من حلفائه، فمن جهة بدأ يفقد ما حاول على أساسه تقديم نفسه للرأي العام الأمريكي كرجل سلام، حيث أُعيد انتخابه وفق وعوده لدافعي الضرائب الأمريكيين أن زمن الحرب قد انتهى، إضافة لوعوده بالانسحاب من العراق وأفغانستان نزولاً عند رغبة الشعب الأمريكي، ومن جهة أخرى وجد نفسه محوطاً بمخاطر حقيقية بسبب عدم قدرة فريقه الحكومي الذي أتى تفاوضياً على خوض حرب كبرى كالتي أعلن عنها، ما سيجعل أمريكا ألعوبة بيد الخليج، وستظهر بمظهر القاتل المأجور المنساق خلف الأهواء الخليجية الغبية، وما الاجتماع الذي عُقد بين الدول العربية الداعمة للحرب على سورية وجون كيري في باريس إلا لحسم التردّد الأمريكي لمصلحة الحرب، في حين يدرك عتاولة المنظّرين للسياسة الأمريكية مخاطر تلك الحرب على أمريكا والعالم كجون بولتون أحد صقور الحزب الجمهوري الذي أعلن معارضته لهذه الحرب التي لا يرى لأمريكا مصلحة فيها, وربما هذه المخاوف المتنامية دفعت بالرئيس أوباما للجوء إلى الكونغرس الذي تجاهله في وقت سابق ليبعد عنه مخاطر مسؤولية ما قد تدفعه أمريكا من أثمان باهظة، مشيرين أيضاً إلى أن كل القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية الكبرى في العالم تدرك مخاطر الضربة العسكرية وتداعياتها الإقليمية والدولية، ما قد يرجح عدم الإقدام على مثل هذه الحرب لتجنّب السيناريو الأسوأ الذي ينذر بحرب عالمية ثالثة.

أخيراً وبلغة واقعية، لا يمكن لأي محلّل استراتيجي مهما بلغ من الفطنة والرؤية البعيدة أن يقرأ أهداف التصعيد إلا ويأتي على صمود سورية الذي استطاع في كل مرحلة من مراحل المخطط العدواني حشر أطراف العدوان في زاوية تضيق معها المخارج إلا مخرجاً واحداً وهو إعلان هزيمتهم على الأرض السورية وهذا ما يحاولون تفاديه!!.

عن صحيفة تشرين

أضف تعليق



ولأخذ العلم هذه المشاركات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي إدارة الموقع
  1. 1 السّا موراي الأخير
    12/9/2013
    03:47
    صدقتِ و رب الكعبة!
    شكراً للسيدة جبريل. مقالة موفّقة و في مكانها الصحيح. المجد لسوريا العظيمة و الخلود للشهداء.
  2. 2 بادي
    11/9/2013
    20:17
    شكراً
    مائة بالمئة ( مقالة صادقة وتحليل رائع بلغة بسيطة )
  3. 3 سوري مستغرب
    12/9/2013
    05:59
    خير المقال في المقال
    ما قيل أجمل ما قرأت لبساطته وسهولة التحليل وسلاسة الأفكار شكرا أستاذة فاديا وشكرا لموقعكم الكريم بصراحة دخلت خلال الأزمة السورية على مئات المواقع فكان موقعكم في المقدمة لعمق التحليل الاستراتيجة وغزارة المعلومات ودقتها في كثير من الأحيان
  4. 4 سنا
    12/9/2013
    16:41
    تحليل مصيب
    تحليل موفق ومصيب ..نشكر السيدة جبريل على فهمها الأمور بدقة ونشكر جهينة نيوز الرائدة على المقالات التي تضيء لنا دربنا المليء بالمطبات
  5. 5 أبن البلد
    12/9/2013
    19:52
    ولادة النظام العالمي الجديد تتم في سـوريـا
    الشكر الجزيل للسيدة جبريل على تحليل الواقع على حقيقته وببساطة، بأعتقادي أن النظام الأمريكي لن يتخذ قراراً بالحرب طالما لن يستطيعوا تحييد إسرائيل من الأعتداء على سوريا لأن الثمن في النهاية سيكون أمن ووجود أسرائيل والمهم بالنسبة لنا والكابوس بالنسبة لهم (أميركا/أسرائيل/آل سعود)ما هو بديل السلاح الكيميائي؟هل هو تأمين التوازن العسكري الروسي للجيش السوري؟أو خطوة أولى لبدء رقابة على الأسلحة الفتاكة في المنطقة؟أو ثمن آخر سيدفعه آل سعود غير ثروات الجزيرة العربية المستباحة أصلاً لأميركا وأسرائيل؟!الواضح الآن هو أن لسوريا الدور الكبير في ولادة النظام العالمي الجديد لعراقتها السياسية بجذورها الأصيلة والتي لن تنتهي وآل سعود لا مكان لهم في هذاالنظام لأن نقودهم (وقود الحرب) ستنتهي قريباً وغداً لناظره قريب
  6. 6 محمد
    11/2/2014
    10:02
    شكرا
    شكرا سيدتي الكريمة على بعد نظرك في هذا التحليل الذي يبشر بنظام دولي جديد موفقة و أقدر الوعي بحجم انعكاس النتائج العلمية على المجتمع الدولي وأقدر أمانتكم في المقال العلمي

تصنيفات الأخبار الرئيسية

  1. سياسة
  2. شؤون محلية
  3. مواقف واراء
  4. رياضة
  5. ثقافة وفن
  6. اقتصاد
  7. مجتمع
  8. منوعات
  9. تقارير خاصة
  10. كواليس
  11. اخبار الصحف
  12. منبر جهينة
  13. تكنولوجيا