جهينة نيوز- بقلم فاديا جبريل:
لا نقصد بهذه المقاربة هنا رفع قدر أحد أو الحطّ من شأن وقيمة أحد عربياً كان أم غير عربي، بيد أن التحوّلات التي تشهدها المنطقة، ولاسيما بعد ما شهدناه في نيويورك خلال الجلسة 68 للجمعية العامة للأمم المتحدة، تستدعي قراءة جيوسياسية أخلاقية لما آلت إليه بعض الدول العربية مقارنة مع دول الجوار من حيث الوجود والثقل والموقع على خريطة المنطقة واستقلالية القرار السياسي.
ففي خضم التسويات الكبرى التي تشهدها المنطقة والعالم اليوم، ظهرت أحجام الدول وأوزانها وأدوارها المؤثرة على حقيقتها، ولمسنا بالمطلق حال الدول، فإما أن تكون طرفاً أساسياً في التسوية وتحقّق مكاسب تلبي سياساتها، وإما أن يكون رأسها موضع مقايضة ومساومة لا أكثر ولا أقل!!.
وقد برز خلال الأزمة في سورية وما تلاها من سعي حثيث ومحموم للبحث عن حلول سياسية، مشهدان متناقضان على المسرح الدولي المنهمك في ترتيب المنطقة والعالم من جديد، مشهدٌ بدت فيه الدول العربية أو «القبائل المستعربة» وخاصة إمارات وممالك الخليج مهترئة عاجزة فاقدة القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الكبرى، ومردّ ذلك كلّه –باعتقادنا- عائد إلى الحكام والأمراء الذي ارتضوا أن تكون دويلاتهم وممالكهم تابعة وملحقة بالسياسات الغربية والأمريكية، حتى تكاد لا تعرف معنى لوطن أو مستقبل أو وجود إلا من خلال المقايضة المخزية بين بقاء الحاكم وطاعة الغرب، لتتحوّل في قمة «تخطيطها الإستراتيجي» إلى بيت للمال أو التمويل للمشاريع الغربية في المنطقة، محركها الأساسي نزعتها القبلية وحقدها الجاهلي وضيق أفقها وعماها السياسي والأخلاقي.
وعلى الضفة الأخرى مشهد إيران الدولة بتاريخها وحضارتها وثورتها التي بنت وتبني أمجادها وقدرتها العلمية والعسكرية، وتسابق الزمن مع الغرب لتوظيف العلوم والتكنولوجيا وبناء الفرد بما يخدم إستراتيجيتها وأهدافها المختلفة، والأهم من ذلك كلّه استقلالية قرارها الذي ينبع من مصلحة إيران العليا، ما أهلها لتتبوأ مكاناً متقدماً على الخريطة الإقليمية والدولية.
في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مرّ زعماء العالم، ومنهم بعض العرب، بكلمات موجّهة للمجتمع الدولي وبصورة واقعية تفرّق بين أسياد العالم وأتباعهم، وفي تطور لافت لبعض الزعماء العرب أنهم نزعوا عنهم الجلابية الفضفاضة لمصلحة البذلة الرسمية، ليبدو حضورهم وتمظهرهم بالمدنية تماماً كأهمية «حضور ومدنية أحمد الجربا!»، خاطبوا المجتمع الدولي ليذكّروا بأنفسهم أنهم أصحاب المواقف الحادة تجاه سورية، مردّدين بشكل ببغائي هزلي ما كان يقوله الغرب في مراحل سابقة، ويتوقف لديهم الزمن ليضعوا من جديد خطوطاً حمراء لسورية تجاوزها قبلهم سيدهم في البيت الأبيض، يرعدون ويزبدون، لكأن أحدهم سيستل سيفه ليغزو سورية منفرداً يقتل شعبها ويدمّر مؤسساتها ويسبي نساءها، كل ذلك بهدف وحيد وأوحد هو نيل رضا الأمريكي الضامن لاستمرار وجودهم كحكام منتدبين له، وفي محاولة الخائف لتوسل العبد لسيده «لا تتركونا في تسويتكم فنحن خدم لمصالحكم»!!.
في حين برزت إيران كلاعب دولي يُحسب لها ألف حساب، يعرف تماماً متى يلتقط اللحظة المفصلية لتعزيز مواطن القوة والردع لزمن تسوية كالتي نشهدها اليوم، أو لزمن حرب كالتي كان يمكن أن تقع حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عزمها على ضرب سورية، حيث برز الثقل الإيراني وموقفها المبدئي إلى جانب سورية، وقدرتها على تغيير مجرى الحرب فيما لو وقعت، وبهذا القرار الإيراني الحاسم أدرك الغرب الوزن الإقليمي والدولي الحقيقي لإيران، لتنطلق تسوية كبرى على كل الملفات الإقليمية، ومنها الملف النووي الإيراني الذي اعترف الغرب اليوم، مكرهاً، بحق إيران في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، كل ذلك تبلور سعياً أمريكياً للتقارب مع إيران والذي سيدفع ثمنه بيت المال العربي، إذ في كل مرة يعيدون الكرة ليكونوا كمن ينتحر على مذبح الغباء والجهل والتسويات الكبرى.
يقول الرئيس الإيراني: قلت لأوباما إن البرنامج النووي يمثل الكبرياء والعزة الوطنية الإيرانية، وأن لا حل عسكرياً للأزمة السورية. فيما يقول الزعماء العرب وفقاً لسياساتهم البدائية «إن نص القرار الدولي لا يلبي طموحهم في معاقبة النظام السوري»، الذي لم يدركوا بعد أنه جعل للعرب اسماً ووجوداً على الخريطة الدولية!!.. مفارقةٌ لا تحدث إلا في «بلاد العرب أوطاني»، فحكامها مازالوا يتجاهلون أن سورية في قلب المعادلات الدولية وأن لا دور محورياً لهم ولقبائلهم المستعربة.
سورية اليوم هي البلد العربي الوحيد التي تنطلق في سياساتها من سعي حثيث لاستقلالية قرارها وسيادتها، ما جعلها أنموذجاً مغايراً في محيط عربي شعاره الاستسلام وقصر النظر والارتهان للآخر، ومن أسف أنهم يلهثون ويتكالبون على إضعافها حقداً ولغايات مصلحية ضيّقة وفردية، مهيئين للغرب سبل الانقضاض عليها ليتمّ إلحاقها بحظيرة المستسلمين، لكن وعلى الرغم من كل المحاولات الغربية الخليجية لتركيع سورية، إلا أنهم عجزوا عن إدخالها في فلكهم وهذا ما جعل من أحقادهم ودعمهم للإرهابيين والمرتزقة عنواناً لسياساتهم العدوانية.
بناءً على ما سبق، وبالنظر إلى الفارق الجوهري بين بعض العرب وإيران، يمكننا أن نقرأ مشهد العلاقات الأمريكية- السورية التي شهدت تجاذبات حادة سبب محاولات الإدارات الأمريكية المتعاقبة «إسقاط النظام السوري» أو إضعافه ومعاقبته بمساعدة عربية، والقناعة السورية أن التحالف مع أمريكا لا يمكن أن يكون إلا وفق القاعدة الأمريكية التي تجعل من الدول العربية، إما تابعاً كلياً أو دولة ضعيفة لا تقوى على التحدي أو المواجهة.
لقد أيقنت سورية مبكراً أن الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف والضامن الأول لأمن «إسرائيل»، لا يُعتمد عليها في بناء تحالف نديّ مبنيّ على المصالح المشتركة للجانبين، ما دفعها لنسج تحالفات إستراتيجية مع كل من روسيا والصين وإيران اتضحت اليوم، ولاسيما خلال الأزمة وتالياً التهديدات الغربية بشن حرب على سورية، قوتها ومتانتها.
نعم لقد تفرّدت سورية في أنها البلد العربي الوحيد الذي ينطلق في قراراته من بعد إستراتيجي بعيد النظر، مؤثر في محيطيه الإقليمي والدولي، عجزت عقول «العربان» البائدة عن التقاطه، ومن تمكّن من التقاط جزء يسير منه لا يملك اليوم قراره ليعرف ولو لمرة واحدة معنى الكرامة والسيادة والاستقلال.
أما الشعوب العربية، فمازالت ونتيجة خضوعها لمثل هؤلاء الحكام والأمراء الحمقى، تصرّ على بقائها قبائل متناحرة غارقة في ترهات وأوهام تضعها في الدرك الأسفل في تصنيف الشعوب، من «جهاد النكاح» و«إرضاع الكبير» و«فتاوى التكفير».. بينما الغرب يسابق الريح في العلم والنهضة والحضارة والتقدم.
لقد ارتضى هؤلاء الحكام أن تكون أمتهم منفعلة وليست فاعلة، لا تملك إلا التغني بماضٍ مزوّر وحاضر مخجل ومستقبل غامض، أمة نضب عطاؤها منذ سقوط الأندلس إلى اليوم، أمة يقودها عملاء ومرتهنون، تحركهم واشنطن وقتما تشاء وكيفما تشاء.
إن ما يدمي القلب أن سورية تغنّت بالقومية العربية وتبنتها قولاً وفعلاً، وكانت المحرك الأول في سياساتها، إيماناً منها أن العالم العربي خلق ليكون كلاً واحداً وكياناً تاريخياً وجغرافياً متكاملاً، أما إخوتنا في الضاد فما زالوا عاجزين عن أخذ العبر من دروس التاريخ عجز حكامهم عن القراءة بالعربية بلا أخطاء.. همّهم شيطنة إيران وتنزيه «إسرائيل» وتبرئتها من كل الجرائم والمجازر التي ارتكبتها بحق الشعب العربي.
شئنا أم أبينا لا بد من الاعتراف بحقيقة وأمر واقع أننا اليوم أمام تسوية كبرى ستحدّد مصير المنطقة لعقود قادمة، البقاء فيها للأقوى والأقدر على حماية وجوده وسيادته وقراره المستقل، وأن سورية التي طعنها «العربان» في ظهرها باتت جزءاً من تحالف دولي له وزنه وثقله على الساحة الدولية، تمثل فيه روسيا والصين وإيران الحلقة الأولى والمرتكز الأقوى، تحالف سيزيد من منعة سورية ويعزّز مكانتها على الخريطة الإقليمية والدولية، به ستستكمل انتصارها وتحقّق مسيرتها في عالم جديد، بينما «عربان» التبعية والعمالة والشلل السياسي سيظلون في غيّهم يعمهون.
عن صحيفة تشرين
07:05
12:33
12:53
17:26
18:15
14:50
00:19
00:13
00:26
05:33