جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
أعترف أن مهمتي اليوم في الكتابة صعبة جدا.. وأعترف أن الكتابة عن غزة اليوم تشبه الكتابة عن السقيفة وصفين والجمل.. إنه حديث عن متناقضات وجدل لا ينتهيان.. فمن منا سينصف حادثة السقيفة ومبررات أهلها ويهدمها من الذاكرة؟؟ ومن منا سيفهم آلام أهل صفين والجمل ودمهم ونحن صرنا نتقاتل على ملكية الجمل بل وصار بعضنا يفتش عن مشاعر الجمل وموقفه هل هو معارض أم مؤيد؟؟ هل كان فارسيا أم عربيا؟؟..
لا تشبه الكتابة عن غزة اليوم إلا الكتابة عن الحب والانتقام.. وعن الجرح والسكين.. وعن الذهب والرغام.. وعن الصليب والصالب والمصلوب وعن القيامة وعن من قام.. بل سيكون سؤالي هو: ماذا أفعل وأنا أرى الجرح يقطع السكين حتى ينزف نصلها ويختلط دمها بدمه؟؟..
ولكن ماذا أفعل وقلبي يتخاصم مع عقلي؟؟.. وماذا أفعل وعقلي ينتقم من قلبي؟؟ وماذا أفعل والجرح يتصارع مع الدم لا مع السكين.. وماذا أفعل إن كان دمي لا يريد أن يكون دمي؟؟ وماذا أفعل وجراحي لا تريد أن تسكت وتندمل بل يتدفق دمها كما لو كان انسياب الخواطر الحمراء القانية.. وهي لا تريد أن تنسى مذاق السكاكين التي رسمت لها شفاهها.. ولا تقدر أن تحب السكاكين؟؟
في غزة مجزرة وشهداء.. ولكن في غزة يبرك بين الناس شيء من الجمل الذي يثير الفتن.. البعض نسي الشهداء والضحايا وصار يبحث في موقف الجمل الذي في غزة.. والجمل الذي في الدوحة..
الأخلاق لا تسمح لأحد بأن يلقي محاضرة على من يموت في غزة ولا أن يقترب من الضحايا وجثامين الشهداء ليتحقق من موتها ويتلمس لزوجة دمها وحرارته أو ليلقي أمام عيونها المغمضة درسا عن اليقظة والإقبال على الحياة والتفاؤل.. ودرسا عن أرسطو وأفلاطون وسقراط.. والمدن الفاضلة.. كما يفعل الساسة الأتراك الذين تركوا القتلة يقتلون دون أن يزجروهم وانشغلوا بإلقاء الدروس والتشاجر مع الرئيس السيسي وليس مع القاتل نتنياهو.. صفاقة الأتراك لم تعد تحتمل في استحمار العرب والمسلمين وهم لا يقتربون من اسم نتنياهو القاتل بل يرون في غزة فرصة للثأر من الرئيس السيسي ويبدون مسرورين بزيادة الضحايا ليغرفوا مزيدا من أشلاء الغزاويين بأصابعهم القذرة ويقذفوها على السيسي حتى كدنا نعتقد أن السيسي هو من يقصف غزة.. لا إسرائيل.. وأن الجيش المصري هو من يقاتل في خان يونس ورفح وأن نتنياهو يفتح لهم المعابر ويرسل لأطفالهم المحاصرين الحليب والبطانيات في عبوات ترميها الطائرات الإسرائيلية..
في غزة وليمة عظيمة فيها لحم فلسطين.. وسماط لحم الغزيين المشوي على عربات السياسة صار بسرعة تلالا.. والمدعوون لم ينهضوا بعد عن ولائم أقيمت لهم في ليبيا.. وسورية.. والعراق.. واليمن.. وليمة إثر وليمة وهم يطحنون تحت أسنانهم شرائح اللحم حتى أصيب المدعوون بالتخمة وصاروا يتجشؤون بين خطوط التقسيم جشاءة من بطن داعش وهنري ليفي.. وفي كل زاوية في الشرق أكوام اللحم البشري.. التي تنهشها قطعان الكلاب الضالة.. والذئاب.. والرعاة الكذابون.. والثوار الكذابون.. إنه زمن التحالف بين الذئب والثائر الكذاب.. فليس أسوأ من الراعي الكذاب سوى الثائر الكذاب!!.
من يستمع لأوجاع الغزيين يضطر أن يخوض البحر ليعرف أسرار حرب غزة.. فوراء كل الحروب أسرار.. فهل غزة هي نهاية الانقلاب "الربيعي" في مناخ الشرق الأوسط.. وهل عصر غزة سيأكل عصر داعش؟؟ أم إن داعش ستدخل غزة من معبر كرم أبو سالم؟؟ أم أن غزة طوق نجاة للغارقين؟؟ ولكن.. من هم الغارقون؟؟..
من يتأمل المشهد يحس بالإهانة الشديدة واللاعدل لأن هناك افتراقا بين ماتقدمه غزة من بطولة ودم وما صارت تمثله من مقاومة وبين ما يمثله قادة المكاتب السياسية لحماس وغيرها في الخارج من ميوعة ثورية وتخمة سياسية وتخمة نفطية.. فهناك في غزة ملحمة بالمعنيين الأسطوري والفيزيائي.. بطولات وصمود الشعب ملحمة.. ومجازر إسرائيل تجعل غزة أكبر محل جزارة على الأرض و"ملحمة" لتقطيع وفرم اللحم البشري ولتعلم فرم المدن والبشر في خمسة أيام.. ففي 14 يوما بلغ عدد الضحايا قرابة 8000 آلاف بين شهيد وجريح.. أي بعد أسابيع سيبلغ عدد الضحايا مجموع ماسقط في سورية من ضحايا خلال أربع سنوات من الصراع بين الشعب السوري ووكلاء حلف الناتو.. ومع ذلك لم يتحرك الثوار والمسلمون الغيارى بل جلست مقاعدهم ومؤخراتهم على الأرض بكسل وصاروا يلومون حزب الله على "تخاذله" في غزة.. ويطلبون منه نصرة غزة بدل سورية وهم قاعدون.. ونسي هؤلاء أن يطلبوا من أصدقاء الشعب السوري الأوفياء أن يكونوا أصدقاء لغزة ويستدعوا الفصل السابع والحظر الجوي والجهاد.. وهناك في نفس الوقت وفي خارج غزة يجلس الراعي الكذاب.. أو الثائر الكذاب.. فمن سيصدق الثائر الكذاب بعد اليوم وهو يتمطى ويتثاءب نعسا في الدوحة على الأرائك ويحرص على رشاقته ويتقاتل مع شحمه بكل الوسائل في ظلال قاعدة العيديد وفي ظل دعاء مفتي الناتو الذي قتل كل أصدقاء الفلسطينيين.. من عراقيين وسوريين ومصريين وليبيين ويمنيين ولبنانيين.. وأبقى فقط أعداء الفلسطينيين يحومون حول جسد فلسطين من الأتراك والأوروبيين وأهل المال والنفط ليستروا على شرفها بجهاد النكاح كما يفعلون مع لاجئات مخيمات اللجوء في تركيا والزعتري؟؟
في غزة يبدو أن هناك حربين بين اتجاهين.. وفي خارج غزة هناك حرب أخرى أكثر شراسة بين نظريتين مختلفتين: النظرية الأولى تقول إن الحرب هي نتيجة اتفاق بين إيران وحماس منذ اجتماع أمير حسين عبد اللهيان مع سيء الذكر خالد مشعل والذي أبدى نوعا من الاعتذار المقنع والندم الخفي عن موقفه من الشعب السوري.. هذه النظرية تقول بأن الإيرانيين أفلحوا في استعادة حماس من محور تركيا وقطر بسبب تراكم خيبات القواعد الحمساوية من تراجع مكانة حماس بسبب مغامرات قيادتها الطائشة وقررت القيادة الطائشة امتصاص هذا الامتعاض في القواعد بالعودة إلى محور المقاومة جزئيا عبر إيران لأن باب دمشق أغلق نهائيا وإلى الأبد أمام القيادة الحمساوية الحالية.. وقد أفضى النجاح الإيراني إلى استفزاز خصوم محور المقاومة وإيران بسبب إدراك هؤلاء الخصوم لنجاح الدبلوماسية الإيرانية في الضغط على قيادة حماس عبر قواعد ميدانية تمردت بصمت ووصلت رسالتها الصارمة إلى المكاتب العليا.. وتعد استعادة حماس وجبهة غزة المغلقة شيئا محظورا في نظر محور تركيا والناتو.. حيث تقرر أن تعاقب قواعد حماس في غزة وأن تقلم أظافرها الإيرانية المتمثلة بكميات الصواريخ المخزنة في مستودعات غزة.. وتم الاتفاق بين إسرائيل وأردوغان والسعودية وأطراف عربية أخرى على ضرب العودة الإيرانية إلى غزة وعلى تلقين قواعد حماس درسا تأديبيا في العلاقات وإعادة القوة لمكاتب حماس السياسية.. فمحور تركيا لا يغفر مثل هذه التحركات والتذبذبات السياسية في لحظات حرجة وفاصلة ولن تكتفي بطرد حماس بل بقطع يدها.. وتطبيق الحد الشرعي بالجلد علنا.. فكانت حادثة مقتل المستوطنين الغامضة التي ركبت عليها الحرب..
أصحاب هذه النظرية يقولون إن إيران كانت مدركة أن الطرف الآخر لن يسمح لها بإلقاء القبض على زناد السلاح في غزة ولذلك قامت إيران سرا بالاستعداد لهذه المعركة جيدا وهي تريد من القوى المسلحة المنتصرة في غزة مثل حماس وغيرها والعائدة إلى حضنها أن تكون ردا على مشروع داعش الفوضوي في العراق.. بإطلاق مشروع حماس النادمة التي ستقدم عربون العودة ودليله القاطع بإذلال الجيش الإسرائيلي بمعادلة سلاح إيراني سوري وفرض تسوية بشروط فلسطينية وطنية.. ووعدت إيران هذه القوى أن تمنحها القوة الكافية لتبقى قادرة على فرض شروطها في أي اتفاق تهدئة مع الإسرائيليين.. بحيث تكون عودة هذه القوى وخاصة حماس مجللة بنصر مبين يعيد لها احترامها وهيبتها المقاومة.. وستستفيد إيران من تلقين إسرائيل درسا في غزة بأن تكون رسالتها إلى الغرب والأمريكيين بأن إسرائيل عاجزة حتى عن غزة الصغيرة المنهكة بالحصار فكيف ستكون قادرة على مواجهة إيران أو تقدم مساعدة للغرب ضد إيران.. وهذا ماسيسهل إنهاء مفاوضات المشروع النووي الإيراني أيضا.. أي باختصار ستصيب إيران عدة عصافير بحجر غزة: 1- إبعاد حماس عن محور تركيا وإعادتها إلى حظيرة المقاومة بعد شرود وضياع طالا.. 2- تثبيت وهن إسرائيل العسكري وإبعاد الأوهام عن رأس نتنياهو بأنه قادر على المشاكسة مع سورية أو إيران أو حزب الله واستعراض العنتريات وأن المواجهة حتما ليست في صالحه.. وهي تقول: ماذا بقي من جيش الدفاع الإسرائيلي الذي فشل في تخطي حاجز مارون الراس وحاجز غزة سوى طائراته التي سيتم تحييدها بصواريخ اس 300؟؟.. وغني عن القول بأن الحرب في سورية رغم خسائرها فإنها جعلت مقاتلي الجيش السوري وحزب الله من أفضل المقاتلين خبرة وتجربة في العالم بالحروب البرية والالتحام المباشر بالقياس إلى الجنود الإسرائيليين وقواتهم البرية التي فضحتها حربا لبنان وغزة وأظهرت الجنود الإسرائيليين مقاتلين قليلي الكفاءة ومثيرين للشفقة والسخرية 3- إعادة إنتاج نصر معنوي كبير يعيد رؤوس المسلمين في الشرق للالتفات صوب فلسطين.. الرؤوس المسلمة كانت تتجه نحو انتصارات وهمية وانتصارات على الذات.. لكن النصر على العدو الحقيقي سيكون دوما مثيرا للإعجاب. إلا أن هناك نظرية ثانية مغايرة تعاند تماما سابقتها تقول بأن الأمريكيين والإسرائيليين والمصريين والسعوديين والأتراك والقطريين اتفقوا على إنهاء القضية الفلسطينية بمسرحية دموية ومن هنا قال السيد حسن نصر الله إن القضية الفلسطينية تمر بأخطر مراحلها.. تقوم عملية إعداد المسرح وغرفة الإعدام للقضية الفلسطينية على حرب في غزة تخرج فيها حماس تحديدا منتصرة رمزيا.. ويعاد تعويمها وإعادة إنتاجها وإدخالها حمام الدم الفلسطيني لتغتسل ببطولات أهل غزة من عفن الربيع العربي والطين الذي علق بوجهها بسبب تورطها في مصر وسورية واعتناقها فلسفة الإخوان المسلمين وتيهها في الأناضول خلف السراب العثماني.. وبالطبع بسبب غياب سورية وإيران يمكن تسليم حماس الملف الفلسطيني بدل محمود عباس.. وحماس ستكون أقدر على مفاوضة الإسرائيليين كقوة منتصرة يكون رصيدها مرتفعا أمام الناس وتقدر على تبرير المرحلة الحالية بعكس عباس المنهك والذي صار رصيده صفرا بعد رحلة فشل تفاوضي استغرقت عشرين عاما خلت من أي نصر من أي نوع حتى من تحرير أسير واحد أو إزالة حاجز واحد..
أصحاب هذه النظرية يقولون إن إدارة اوباما تريد إحراج حكومة نتنياهو لدفعه إلى مفاوضات يقدم فيها شيئا يسيرا من التنازل ويمكن بعدها عقد صفقة سلام ما مع حماس التي ستتزعم العمل الفلسطيني تحت العباءة التركية القطرية حيث ستتولى قطر وتركيا الإشراف على حماس وعلى أنفاس حماس.. وبذلك يبدو أن الأمريكيين يعيدون إنتاج سيناريو حرب أكتوبر بين إسرائيل من جهة ومصر وسورية من جهة أخرى.. فكما هو معروف فإن هنري كيسنجر أدرك أن السادات صار جاهزا للسلام ولكن الإسرائيليين كانوا يحسون بفائض القوة التفاوضية لديهم ولذلك لم يبد عليهم الحماس لتقديم أي تنازل وكانت قيادات صهيونية أمريكية تريد اصطياد مصر واستخراجها من الأشداق السوفييتية لكنها جوبهت بعدم حماس إسرائيلي للتنازل عن الثمن في سيناء بلا مبرر.. فنصح كيسنجر السادات بتحريك الجبهة وإحراز مكاسب عسكرية تجعل مهمة إقناع الإسرائيليين أسهل.. ولذلك تم تحريك القتال في أكتوبر-تشرين 1973 وتوقف القتال على الجبهة المصرية بعد أيام بحجة ثغرة الدفرسوار التي كانت الثغرة التي تدفقت منها معاهدة كامب ديفيد وصارت واقعا بطول نهر النيل في مصر.. الحرب والعبور كانا ثمنا رخيصا مقابل معاهدة ثمينة مثل معاهدة كامب ديفيد التي لاتزال تلتف حول عنق مصر بل ودخلت الدستور والوعي المصري وصارت جزءا من الشعور بالقدر المقدس الذي يخشى من التخلي عنه.. فهي أول شيء يتعهد أي رئيس مصري بحمايته واحترامه لطمأنة الناس والعالم.. حتى قبل حماية الدستور.. ولذلك تبدو في نظر هؤلاء عملية صناعة حماس الجديدة تستحق هذه المغامرة خاصة وأن قادة حماس السياسيين صاروا يدركون أنهم انتهوا سياسيا بخسارتهم لرهان سقوط دمشق ومحور طهران بيروت.. وأن حالة التململ في قواعد حمساوية لم تعد مطمئنة وباتوا مرغمين على قبول أي طوق نجاة.. فعقدت الصفقة.. ولذلك تلكأ الأمريكيون في التدخل في أول أيام الحرب ريثما ينضج الإسرائيليون والفلسطينيون بنار الحرب.. وستنتهي الحرب قريبا.. وسيصعد الجمل الذي سقط عن الشجرة العالية يوما إلى قمة الشجرة من جديد.. وسيتصالح الراعي الكذاب مع أهل القرية الذين يعرفونه كذابا ويعود معهم إلى القرية.. ويترك للذئب رعي الغنم!!.
الصراع بين النظريتين شرس وكلاهما قد تكونان صالحتين للاستهلاك الشرق أوسطي.. فمما لاشك فيه أن حرب غزة ليست صدفة.. فقواعد حماس وبقية القوى المقاتلة اندفعت إلى القتال وكأنها كانت تنتظر حماقة أو تصعيدا إسرائيليا دون تردد.. ويبدو أن هناك مزيجا من النظريتين هو الذي يسير على قدميه فيما تبقى كل نظرية متعبة ومثقوبة من عدة جهات..
يبدو من سياقات الحرب بلا شك أن الإيرانيين لايزالون موجودين مع السوريين على مستوى كثير من القواعد والقيادات الميدانية في غزة التي لا تثق كثيرا بالثائر الكذاب خالد مشعل.. كما لا يثق به الإيرانيون.. وربما أطلعت هذه القيادات على معلومات بشأن الحرب التحريكية على غرار حرب السادات وكيسنجر.. وعرف الإيرانيون والسوريون أنهم قد لا يقدرون على معاكستها إذا ترك الثائر الكذاب يتولى أمر غزة بالكامل فقاموا بالدخول إلى السيناريو عبر القواعد الميدانية التي نسجوا معها علاقات خاصة.. وهذه القواعد وضعت في صورة اللعبة الأمريكية لتصفية القضية عبر حرب صناعية.. ووجدت أن القيادات الخارجية لم تعد قادرة على الرؤية السياسية إلا من باب العجز والنجاة ولذلك قررت هذه القيادات ألا تكون الحرب نزهة ولعبة وأن القيادات الطائشة للشعب الفلسطيني يجب أن تعرف حدودها دون مزيد من الانقسام والصراع الداخلي.. فأخرجت ما راكمته مؤخرا من سلاح إيراني وسوري وخبرات عالية قدمت لها من دمشق وطهران لعمليات تصنيع بعض الصواريخ بتقنيات سورية إيرانية وصعدت بالحرب إلى سقوف لم تتوقعها إسرائيل التي وجدت أنها تضحي بسمعة الجيش الإسرائيلي ومعنوياته وأنها تتعرض للإهانة والحرج وأن هذا خارج النص المتفق عليه.. ومن هنا دخلت إسرائيل إلى مرتفع جديد وورطة لأنها في كل حروبها التي فازت بها كانت تلعب على مسرح معد بعناية ونص مكتوب بدقة فائقة.. إلا في حروبها الأخيرة في لبنان وغزة.. فالمسرح خرج عن النص والممثلون ليسوا كلهم تحت إمرة المخرج وجنود نتنياهو يتساقطون بشكل مهين ومدنه بلا قباب حديدية.. وهي لاتعرف كيف تنزل عن خشبة المسرح وتوقف العرض اللعين..
يبدو أن إيران المصممة على استعادة حماس تغلبت على مشروع تركيا في غزة وأمسكت بخطام الجمل.. وربما صارت قيادة حماس تلحق بالقواعد وبدأت بالخضوع لها.. الحرب تشير إلى أن المكتب السياسي لحماس يخضع لتعليمات قيادات ميدانية (وليس العكس) لا تستجيب للمبادرات بل لتقديرات الموقف العسكري الميداني.. ولكن الملفت للنظر أن السوريين بدؤوا فعلا منذ أن أقفل ملف حماس في دمشق بالتركيز على القوى غير الحمساوية وغير الإسلامية في غزة ذات التوجه الوطني البعيد عن الإسلام السياسي لأن سورية أقفلت ملف الإسلام السياسي وأخرجته من قاموس علاقاتها.. ويجري تنسيق سوري إيراني محترف وتوزيع أدوار ميدانية بحيث تتولى إيران قيادة القوى الإسلامية في المنطقة لسحب البساط التركي القطري وطيه وإدخاله إلى المخازن.. فيما تقوم سورية بإعادة تنظيم كل القوى اللاإسلامية التي أثبتت الوقائع أنها موجودة ولكن بلا حاضنة في فلسطين وقطاع غزة والمنطقة عموما لإعادة إنتاج مقاومة وطنية لا تنتمي للتيارات الدينية بل للوطنية البحتة.. وكان من الملاحظ أن السيد أحمد جبريل في لقائه الأخير على الإخبارية السورية لفت بنوع من النقد إلى إهمال القوى اللاإسلامية سابقا وتركيز إيران سابقا على دعم القوى الإسلامية فقط وإغفال بقية القوى الفلسطينية.. وهذه الالتفاتة في معناها الباطني وصدورها من قلب دمشق وعلى لسان قائد فلسطيني مخضرم مثل السيد أحمد جبريل فإنها رسالة واضحة من القيادة السورية تعني أن إحياء القوى اللاإسلامية الفلسطينية عبر دمشق انطلق منذ فترة وأنها صارت حقيقة على الأرض.. ولذلك فقد وجدت حماس لأول مرة في حرب غزة قوى مسلحة بصواريخ سورية متطورة تقاتل معها بضراوة ولا تخضع لحماس وهي لا تنتمي لأي فصيل إسلامي.. وهي لا تعرف حجمها حتى الآن ولكنها تدرك أنها قوية.. والمشروع السوري لن يكون فقط مقتصرا على غزة بل هو مشروع ينشط في كل الهلال الخصيب حتى غزة.. لأن المنطقة قد اتخمت بالإسلاميين وتياراتهم مما تسبب في خلل توازن سياسي كبير وجعل البيض كله في سلة الإسلاميين التي اشترتها قطر والسعودية وفقست منها داعش والنصرة وكل هذه الرثاثة الإسلامية.. ولذلك لن يكون مستغربا أن تظهر قريبا في المنطقة قوى بعثية وقومية وعلمانية ويسارية متعددة عراقية وسورية ولبنانية وفلسطينية في موجة ارتداد بعد احتراق الإسلام السياسي وظهور نموذج داعش والنصرة وتقهقر الإخوان المسلمين..
مهما كانت النظريات فإن الأيام القادمة ستكشف أي النظريتين انتصرت.. ولكن بلا شك فإن حرب غزة لن تنهي القوى الإسلامية النقية وغير النقية في غزة إلا أنها كشفت انطلاق القوى اللاإسلامية غالبا وسيترافق ذلك مع تراجع وأفول نجم قيادة حماس الحالية ونجم الجمل الذي ركبته تركيا وقطر وأمسكت بخطامه أيادي العربان والعثمانيين الذين يقاتلون بضراوة لإبقاء اسم الثائرين الكذابين.. الكثيرون يرجحون أن أفول الجمل سيكون لصالح القيادات الميدانية المنتصرة التي لا يبدو أنها ستخسر المعركة بدليل تعهد حلف المقاومة بنصرها.. وبعض القوى الإسلامية ربما صارت في مرحلة مخاض قيادات جديدة.. والتي تتحضر للظهور وللقول علنا.. نحن لازلنا هنا يا سادة.. كش جمل..
حتى الآن لا نعرف الكثير عما يحدث أو عما سيحدث ولذلك كما قلت.. فإن الكتابة عن غزة اليوم تشبه الكتابة عن الجرح والسكين.. وعن الحب والانتقام.. وعن الصليب والمصلوب وعن القيامة ومن قام.. ولكن الخوض في بحر غزة سيكشف الحد بين الحب والانتقام.. وبين الجد واللعب.. والأيام قد تكشف الكثير.. إلا أن أهم ما قد تكشفه الأيام أن الجراح صارت تثخن السكاكين.. وأن أجساد الخناجر مثخنة وتنزف من طعنات الجراح لها.. فعندما يؤمن الجرح بدمه.. تستحيل حوافه الطويلة إلى رمح ممشوق طويل القناة والى نصل من لحم لا يضاهي صلابته نصل في الوجود.. ويستحيل فولاذ السكاكين إلى جسد نازف من طعنات الجراح الغاضبة لأجساد السكاكين الغضة.. إنه زمن بدأ.. زمن الجرح الذي يقتل السكين.
17:54
17:55
18:52
19:05
19:28
20:31
04:40
05:05
05:28
14:04
15:57
19:43
20:17
04:21
06:46
14:56
15:34
20:10
22:14