جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
لا أدري لماذا يذكرني الرئيس الفرنسي بالشخصية الكوميدية السورية الأشهر "غوار الطوشة".. ربما لقصر قامته ومحاولته الوقوف كأنه ذو قامة مرتفعة.. كما أن حركاته والتفاتاته السريعة الكوميدية التي تبدو غير صادرة عن شخصية مرموقة متزنة توحي أنه ليس الرجل المناسب في المكان المناسب بل كاراكوز مناسب في المكان المناسب.. وأحس أن الرجل يحاول جهده ليبدو ذا هيبة وسطوة في المسرح الدولي عملا بنصيحة نيقولاي ماكيافيللي القديمة الذي وجد كتابه "الأمير" في عربة نابليون بونابرت بعدما تركها مهزوما في معركة ووترلو الشهيرة.. فوصية ميكيافيللي للأمير كانت أن "الهيبة أساس من أساسيات الحكم"..
ولا أدري لماذا كلما ظهر "الأمير" فرانسوا على التلفزيون أتوقف عن مواصلة أي شيء إن كان عملا أو حديثا أو طعاما أو غضبا ولا أفوت متابعته لدقائق وكأنني أتابع مشهدا كوميديا لـ"غوار الطوشة" وهو يتحاور مع أبطال "حارة كل مين ايدو الو" وليس للأمير الفرنسي فرانسوا أولاند..
سبحان الله.. هذا الرجل كأنما خلقه الله للترفيه عن نفسي في زحمة الأخبار الداعشية التي تبدأ بذبح وتنتهي بذبح بعد أن تمر بمجزرة أو مجزرتين في اليوم الواحد وبمجموعة من جرائم الرجم والصلب والسبي.. ولكن ظهور أولاند الطوشة أنقذني من عبوسي مرات عديدة وجعلني أنسى همومي وهو يحاول أن يجلس بضآلته على كرسي شارل ديغول الكبير.. أو يجهد في إقناعنا أنه من سلالة نابليون العائد لاستكمال فتح عكا وسورية (التي صده عنها واليها أحمد باشا الجزار) وإن كان لا يرتدي قبعة نابليون الشهيرة.. وأحيانا يريد أن يوحي بنظراته الاستعلائية الصناعية أن ما يجري في عروقه هي دماء ملوك فرنسا الذين سقطت رؤوسهم في سلال المقاصل عندما كان للفرنسيين "دواعشهم" ومحاكمهم الثورية..
لاشك أنه رغم استظرافي له فإنني أعتبره أتفه رئيس فرنسي على الإطلاق.. ولكنه أخفهم ظلا بالقياس إلى ثقل دم ساركوزي المخمور.. وعصبية مزاج شيراك الذي كان صبره نافدا مثل أردوغان دوما (حتى يكاد أن يكون لقبه أردوغان الفرنسي).. وكذلك قياسا إلى تجهم ميتران وصلفه.. ولا أدري لماذا أحس أن جذوره إيطالية وليست فرنسية..
غوار الطوشة الفرنسي (أولاند) قال بفهلوية منذ أيام إنه "يريد القضاء على داعش بزيادة دعم المجموعات السورية المعارضة".. وبالطبع دون التعاون مع الحكومة السورية وكأنها غير موجودة.. أي أن داعش التي كان نصفها جبهة نصرة وجيشا حرا يوما ما سيحاربها الأمير أولاند بحقن المزيد من السلاح والمال والدعم للمسلحين السوريين في الجيش الحر والنصرة.. ولم يتعلم من التجربة السابقة أن المزيد من السلاح إلى سورية سينتهي إلى داعش والقاعدة وأن من يفوز في الصراع هو الفكر ذاته لأن هذه التنظيمات تحكمها قاعدة الأواني المستطرقة سواء بالفكر أو بالسلاح.. فسكب السلاح في جانب سيصل إلى الجانب الآخر حتما سواء بالتهريب أو بالبيع أو بالاستيلاء أو بالانشقاق.. وأنه لولا الدعم اللامحدود للثورة السورية وتنظيم الإخوان المسلمين بالسلاح والخبرات والغطاء الإعلامي لما ظهرت جبهة النصرة.. ولما انتقلت مجموعات النصرة والإخوان المسلمين لتقوي من داعش التي لم تفعل أي شيء يقل عن وحشية الجيش الحر الذي استخدم السلاح الكيماوي في خان العسل وأعدم المئات من الأسرى في خان العسل تماما كما أعدم داعش الجنود العراقيين الأسرى وشباب عشيرة الشعيطات بنفس الهمجية.. ووصل السلاح والمال نفسه الذي تدفق من الغرب إلى الجيش الحر والنصرة إلى داعش وإلا كيف يمكن تفسير هذا التسلح الفائق لمجموعة داعش التي كانت تعتبر منبوذة ضعيفة منذ سنوات في العراق عندما بدأت باسم (الدولة الإسلامية في العراق)؟؟.. كل هذه التنظيمات (الإخوان والنصرة والحر وداعش) تنطلق في منطلقاتها النظرية من فكرة التكفير وإقامة دولة الخلافة الإسلامية بالقوة الجهادية.. وأعضاء هذه المنظمات وجدت حلم الخلافة أمامها في داعش الثرية بالمال والنفط والجنس والسبايا والجواري والإماء وقطع الأيدي والأرجل.. وسيحدث انجذاب نوعي نحو هذا البريق الإسلامي والوميض الذي يبهر أبصار الإسلاميين في العالم.. حكم الشريعة الموعود..
عندما سمعت اقتراح الفهلوي غوار الطوشة الفرنسي ضحكت من الطريقة التي يحل فيها اولاند مشاكل السياسة وتذكرت مشهدا لا ينسى لغوار الطوشة "السوري" قام فيه غوار بإدارة إحدى أزماته بنفس طريقة أولاند الطوشة الفرنسي.. ففي مسلسل حمام الهنا توصل غوار بعد منازلة شعرية حامية الوطيس إلى أن يقنع منافسه مدير إحدى الشركات بأن يعينه موظفا مسؤولا فيها.. فوافق المدير وقام بتعيين غوار مسؤولا فيها.. وكانت الشركة تريد استقبال وفد أجنبي زائر فكلفت غوار بالإشراف على الاستقبال والقيام بواجب الضيافة.. وهنا يمارس غوار مسؤولياته بشكل بيروقراطي إذ يقرر أن يقدم للضيوف وجبة كباب.. ولكن عبر مناقصة الكباب كي يكون كل شيء قانونيا ومنعا للفساد.. ويتقدم المناقصون بطلباتهم ويفوز بها سيء الحظ أبو صياح بعد شهر.. إلا أن غوار يقرر عرض الكباب الفائز بالمناقصة على لجنة "تذوق" لإقرار صلاحيته للضيافة.. ولكن بعد إقرار صلاحية الكباب للضيوف وبسبب الروتين والبيروقراطية والتأخير يسافر الوفد الزائر دون أن يتناول الكباب!!.. ولذلك وجد غوار نفسه في ورطة بيروقراطية أخرى.. فالكباب صار ملك الشركة الآن ولا يصح لأحد الاستيلاء على المال العام!!.. فيقرر شراء ثلاجة لحفظ الكباب.. وبما أن مقر الشركة لا يتسع لثلاجة إلا في الممر أمام مكتبه فإنه يقرر شراء شقة.. لتوضع فيها الثلاجة.. التي فيها الكباب..
وبالطبع تفلس الشركة بعد أشهر من تولي غوار مسؤولياته.. ويعود هو إلى حمام أبو صياح مصطحبا معه مدير الشركة نفسه الذي عينه ليكون صبيا من صبيان الحمام.. يفرك ظهور الزبائن.. ويدلك جلدهم بكيس الحمام.. ويسكب الماء عليهم وينشفهم بالمناشف.. بإشراف معلمه الجديد.. غوار..
شركة فرانسوا أولاند للسياسة الفرنسية الخارجية تدار بنفس طريقة غوار.. أي إن الإرهاب (وهو هنا الكباب) يقوم أولاند بإجراء مناقصة بالظرف المختوم لمحاربته بمزيد من نشر السلاح والعنف في المنطقة.. ويشترط لذلك أن تتضمن المناقصة دعم المجموعات المسلحة السورية ضد داعش وعدم التعاون مع الحكومة السورية.. أي بدل إيقاف الدعم عن الفوضى في سورية وتجفيف بيئة العنف والسلاح والإقرار أن الثورة السورية هي الإرهاب وهي جذر داعش وأن الدولة السورية هي الكفيلة بتدمير داعش وأن داعش مرتبطة بمشيمة تركية.. فإنه يقرر قتل داعش بحقن وريدها الرئيسي (المتمثل بالمعارضين السوريين والنصرة) بالسلاح والمال والدعم اللوجستي وبمزيد من المتطوعين.. الذين على مبدأ الأواني المستطرقة سينتهون إلى أنبوب داعش.. أي أن غوار الفرنسي اشترى الثلاجة وهو في طريقه لشراء الشقة.. والبناية.. والشارع.. من أجل كيلو كباب الإرهاب..
الغريب أن الدول الغربية تعمل بنفس منطق شركة غوار الطوشة.. وهي تريد صب الزيت على النار لأن ما قاله أوباما من أنه يريد محاربة داعش بزيادة توحيد "السنة" في سورية والعراق وزيادة التنسيق معهم هو بحد ذاته دعم لداعش.. لأن مشروع أوباما هو تحويل السنة في منطقة داعش أي في الأنبار والجزيرة السورية إلى جمهور من لون واحد يذيب داعش في الهيولى السنية ولكنه منفصل عن محيطه تماما كما تريد داعش.. أي سيشتري الغرب ثلاجة للإرهاب (للكباب) اسمها البيئة السنية ويضعها في شقة سنية في بناء الشرق الأوسط لحفظ الكباب الإرهابي اسمهما الدولة السنية في العراق والشام.. الدولة السنية المزمعة ستفرض نفسها ككيان سني منفصل تتعهد فيه بقمع داعش وحفظها في الثلاجات الطائفية عبر إيجاد أول دويلة سنية في المنطقة رغم أن ما في بطنها هو داعش وفي عقلها داعش وفي قلبها داعش.. لكن جلدها إسلامي معتدل.. وهذا المشروع قد يجذب إليه إسلاميين صاروا منفصلين عن الدنيا كلها ولا يرون في أنفسهم إلا هوية سنية وطنية.. وانتماؤهم للمحيط الكردي والشيعي مثل انتماء الأكراد للعراق أو تركيا..
هولاند هو من مؤشرات نهاية الحقبة الفرنسية في العالم.. تلك الحقبة لتي بدأت مع نهوض عصر المستعمرات وانهارت بدخول أدولف هتلر والجيش الألماني باريس.. وقد حافظ الديغوليون على ما بقي من هيبة فرنسا الدولية ومن استقلال فرنسا حيث إن ديغول كان من أشد المعارضين للنفوذ الأمريكي في أوروبة رغم دورها العسكري في هزيمة الجيش الألماني الذي احتل فرنسا.. حتى جاء شيراك وخسر الرهان على معركة العراق فقرر بيع ما بقي من استقلال فرنسا وإرث ديغول للأميركيين ودخل معهم في بازار رفيق الحريري والمحكمة الدولية.. أما هولاند فإنه أكثر الرؤساء الفرنسيين ضآلة وضحالة والرجل حول فرنسا إلى صبي حمام في (عالم كل مين ايدو الو) يفرك ظهر اوباما ويليّف له قفاه وينشفه بالمناشف ويصنع له الشاي بعد الحمام.. وقراءته للسياسة لا تختلف كثيرا عن قراءة غوار الطوشة للأحداث وطريقة إدارته للشركة ومناقصة الكباب.. فمناقصة "الإرهاب" التي طرحها قرار مجلس الأمن 2170 فهمها أولاند على طريقته وهو سيشتري ثلاجة مصنوعة من جسم المعارضة السورية لاحتواء الإرهاب وسيشتري شقة للثلاجة.. اسمها الدويلة السنية في العراق والشام.. بدل الدولة الإسلامية في العراق والشام.. أي مثلما قال له المعلم أوباما..
الطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهاب هي في الاعتراف أن مشروع الثورة السورية هو مشروع الإرهاب الأكبر وهو حاضنته وقلبه ومعدته وأمعاؤه.. وأن تركيا هي رئتاه اللتان يتنفس بهما.. وأن الوهابية السعودية هي رأسه.. وأن الإخوان المسلمين هم لسانه وبصره وسمعه.. وأن علاجه الوحيد هو الاستماع لدروس وليد المعلم ونصائح القيادة السورية والاطلاع على الأسرار الإرهابية التي صادرتها وحفظتها في خزائنها..
فرنسا جار عليها الزمن بحرمانها من الزعامات.. فالرحلة عبر الزمن من نابليون إلى هولاند لا تفسر إلا على أنها هبوط في كل شيء فرنسي..
أنا لا أدري أصول هذا الرجل الذي يقال إن اسمه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند.. ولكن لزاما عليّ أن أشرح لم قلت في بداية المقال بأن أصوله إيطالية.. لأن ما يجب تذكره هو أنه بعد الثورة الفرنسية وانهيار القصور واختفاء ظاهرة النبلاء تبعثرت طواقم الخدمة التي كانت تخدم هؤلاء الملوك والنبلاء الذين كانوا مشهورين بأنهم لا يأكلون إلا الطعام من يد طهاة إيطاليين مهرة يسكنون قصورهم.. ولذلك فقد انتشر هؤلاء الخدم والطهاة في كل فرنسا وفتحوا مطاعم خاصة.. وصاروا فرنسيين وبسببهم نهض المطبخ الفرنسي.. ومنهم جاء أولاند.. طباخ الكباب.. الذي أضاف لرصيده في الطهي كوميدية وظرفا لا ينكرهما أحد.. والإيطاليون على العموم دمهم حار مثل الشرقيين ويضيفون لكل نشاط بشري نكهة من الحركة والحرارة والانفعال والدم الخفيف.. إنه أولاند بن الطوشة..
مع اعتذاري الشديد لأعظم كوميدي في العالم وأحب غوار على قلوب السوريين لهذا التشبيه الذي لن يحبه.. الأستاذ دريد لحام.
05:56
05:56
06:02
14:03
14:23
20:06
20:24
12:52