جهينة نيوز-نمير سعد:
كانت على مر الزمان مميزة ولا تزال، كانت الحسناء التي يخطب ودها كل الرجال ولا تزال، البطل المقدام منهم والوغد الجبان، المؤمن والكافر، العاهر والطاهر، الوطني الشريف والخائن، الصديق والعدو،وكانت الحلم الذي راود أولئك جميعاً في الصحوة وفي المنام، وكان أكثر من عرشت على جدران ذهنه العفن كوابيس امتلاكها وأضغاث أحلام السيطرة عليها هو العثماني الذي ما فتئ ينظر إليها كوردة يريد ضمها إلى حديقته أو أميرة يريد أسرها وإذلالها ودفن كبريائها وشموخها بضمها إلى فريق جواري قصره السلجوقي. إنها الثرية التي ذاع صيتها في مشارق الأرض ومغاربها ووصلت بضائعها إلى كل أصقاع الأرض واشتم عطر غارها كل من عرف الاستحمام يوماً من أعراق البشر جميعاً، وذاق خليط زعترها الأغنياء والفقراء على حدٍ سواء، و"جاهد" الروم والفرس والإغريق وكذا فعل من قبلهم الآشوريون والآراميون كل أنواع الجهاد لشرب كأسٍ من النبيذ أو فنجان قهوة بالهال على شرفات قلاعها وحصونها. إنها أجمل المحاربات وأشجع الفارسات، أذلت هولاكو الذي أتاها غازياً بالتواطؤ مع أحد أجداد كمال أتاتورك أو أردوغان وانتصرت دماؤها على وحشيته التي أودت بحياة عشرات الآلاف من أبنائها، وكان للمغول محاولاتهم المتكررة للسيطرة عليها وإخضاعها، فكانت عين جالوت أولاً وكان بعدها للظاهر بيبرس غير أقوال وأفعال.
كنت قد كتبت قبل عدة أشهر ومنذ بداية ما سمي معركة حلب الكبرى أو الحاسمة أو القاصمة، لهم أن يسموها كما يشاؤون، لكن الواقع على الأرض ينبئ بأنها معركة تثبيت الأساسات لسورية المستقبل، كتبت حينها مقالاً بعنوان "معجزة أسود الله في حلب.. انتظروا ما تخبئه القلاع"، صحيح أن عليّ أولاً أن اعترف بأن أمد معركة حلب طال أكثر مما توقعت أنا وغيري، لكن نتائجها على الأرض أثبتت أن القلاع تخبئ وتخفي قلاعاً وأنها تلد قلاعاً في هيئة بشر وأن مدينة سيف الدولة وإبراهيم هنانو تدافع اليوم عن الأخلاق وتصون دفاتر التاريخ من الحرق والتزوير، إنها معركة تخوضها حلب بالنيابة عن كل أحرار هذا العالم وشرفائه في وجه الشراكة الاردوغانية الغربية الأعرابية الإخونجية التكفيرية. وهنا لا بد من بعض التوضيح لمن قد يجد في الكلام أو المفردات بعضاً من المبالغة. في حلب وأكثر من أية مدينة على وجه الأرض تجلت على الأرض كما يتجلى وجه الله في السماء حقيقة ذاك التزاوج الإلهي المقدس بين جيش الوطن وشعب الوطن، والأصح هنا أن نقول بين جيش حلب وشعب حلب، إنه الجيش الذي امتزج في حلب شريط جيناته ومورثاته بتلك التي يحملها أبناء المدينة وتسكن دماءهم وجهازهم المناعي، وما تميز حلب بخروج المظاهرات المتوالية ضد عصابات القتل والإرهاب، وما رافقه من تحدي أهالي بعض الأحياء للكفر الجهادي واستبسالهم في الدفاع عن أحيائهم وممتلكاتهم وما تلاه من تطوع الآلاف من أهاليها في صفوف الجيش ليشكلوا سنداً وجداراً وحائط صد يحمي ظهره سوى أكبر دليل على صحة وصوابية ما ذهبت إليه في مقالي الأول كما الآن وكما كثر غيري... لن استشهد اليوم ببعض بطولات أبطال الجيش السوري الباسل ولن أكرر ما بات الكون يعرفه عن الإنجازات والصمود الأسطوري لهذا الجيش العظيم، لكنني لن أبتعد عن اللون الخاكي والبندقية لأن المقاتل والعسكري يتماهيان في حلب ولأن أهل حلب وجيشها واحد، لنا أن نختصر ونذكر بعضاً من المشاهد التي في ذكرها إنصاف لأصحابها كما لآخرين لم تقل تضحياتهم عن هؤلاء. في حلب كما غيرها قدم الأهالي تضحيات لا تقدر بأثمان بدءاً بالمواطن المغلوب على أمره في لقمة عيشه ورغيف خبزه وصولاً لتجار حلب الذين أغلقت مصانعهم ثم أحرق بعضها فيما تم تفكيك الباقي ونقل معداته إلى ديار بني أتاتورك، لكن ما أريد التوقف عنده أكثر وبعيداً عن التضحيات المعيشية والصبر الذي عجز الصبر ذاته عن الإتيان بمثله، هو بطولات رجالات حلب.
سأكتفي إذ استشهد ببطولات هذا الشعب العظيم بحالة فردية وفريدة في آنٍ معاً، إنه "فاسيلي زايتسيف الحلبي"، هو شاب حلبي أرمني، عريس بالكاد كان له موعد مع لقيا طفله الرضيع قبل أن يودع، كانت في خوالي الأيام أحب الهوايات إلى قلبه هي صيد الطيور والأرانب والغزلان إن وجدت، تحول بعد بدء الحرب الشيطانية على مدينته تحديداً إلى قناصٍ يصيد الفئران والجرذان التي تعبر حدود بني عثمان غازيةً لحديقته الحلبية الغناء، ونزولاً عند رغبة بعض من عرفوه جيداً لن أذكر اسمه، لكنني أفخر به كما كل من عرفوه، وكما هي روحه فخورة بما صنعت عيناه وأصابعه، يروي رفاق دربه في الدفاع عن المدينة المقدسة أنه اصطاد العشرات من الملتحين، تماماً كما قناص ستالينغراد فاسيلي زايتسيف الذي قنص بدوره وخلال ما يقارب الشهر أكثر من مئتي جندي نازي، الفارق الكبير هنا أن الحياة قدرت لفاسيلي فعاش وكرم وأمضى حياته كما أحب واشتهى، لكن صديقنا القناص الحلبي فضل بعد أن نفد منه الرصاص وحوصر من كل صوب أن خرج لثلة من الملتحين الجهاديين بقنبلتين يدويتين فقتل معظمهم واستشهد هو، غريبٌ أمر هذا الملكوت أقول أنا، يتنازع الوصول إليه أتباع الله والوطن وأتباع الشيطان والكفر على حدٍ سواء، إنها حكاية من حكايا بطولات شعب تتقزم كل معاجم اللغات في العالم أمام وصف عظمته وبسالته ونبله ووطنيته ووفائه وعمق انتمائه للأرض التي تجثو فوقها قلاعه وكنائسه وأديرته ومساجده وأسواقه وأبواب نصره الآتي.
أما عن الجامعة، فأنا وإن كنت قد تفاعلت مع أي حدث أو عمل إرهابي همجي في أية رقعة من أرض الوطن إلا أنني والحق يقال قد تلقيت نبأ الفعل الجرمي في جامعة حلب كما الصفعة التي أصابت ذاكرتي أولاً ومراكز اللاوعي في دماغي، فعادت بي الذاكرة عنوةً لأكثر من عقدين من الزمن، يوم كنت نزيلاً في مدينتها الجامعية حيث قضيت فيها أجمل سنوات شبابي، وكان ألمي يزيد كلما انتعشت ذاكرتي أكثر، تذكرت رحلات السفر الأسبوعية إلى حلب وبداية المشوار من محطة بغداد ومشاوير المساء برفقة الأصدقاء أو الحبيبة في السليمانية والعزيزية والجميلية والجابرية والسريان وحي الفيلات قرب المدينة الجامعية وتذكرت كلية الحقوق كما باقي كليات جامعة حلب ومكتبتها ووحداتها السكنية، جالت في شوارع عقلي معالم الكزدورة التي لا تنتهي إلا وقت إقفال أبواب الوحدات السكنية "ولاسيما تلك الخاصة بسكن الصبايا"، شعرت بكل مدني شريف فضل اللجوء إلى حرم المدينة الجامعية عوضاً عن اللجوء إلى معسكرات اردوغان، وفضل أن يواجه الموت بصدره في حلب وعلى أرضها من أن يواجه الذل تحت خيمة يصرف على من يقبع تحتها أبو متعب أو حمد أو الحريري، شعرت أنني للمرة الأولى أحلق فخراً بانتمائي لهكذا شعب وهكذا أرض.. أرض تعب الزمان وما تعبت، هرم التاريخ وما هرمت.
اليوم يقوم اردوغان بمحاولة لن تثبت للكون سوى أمرين، أنه أولاً في السياسة تلميذٌ فاشل يحاول تطبيق وتنفيذ ما فشل في تطبيقه أجداده من قبله، له أن يعلم هنا أن حلب التي دحرت جيوش المستعمر تلو المستعمر هي ذاتها التي تحارب زنادقته ومرتزقته وأنها تحاربه كما يحارب الفرسان الفرسان فتوجه له الطعنات دفاعاً عن نفسها في الصدر، لا كما طعنات غدره في ظهر خصومه وأصدقائه على حدٍ سواء، اردوغان الذي يتوقع له البعض أن يبدأ في مراحل لاحقة في تحسس مؤخرته بعد أن يقطع أهل حلب ذيله حين يستدير مولياً الأدبار ومغادراً عبر جراثيمه أطهر الديار وإلى غير رجعة، إنه اردوغان الذي لم يتعلم لشدة غبائه من درس جد أجداده بوهيموند الذي تآمر مع هولاكو على حلب وأهلها ولا من درس جده كمال الذي ابتلعته الأرض ولم يعش حلمه في ضم حلب لمحظياته وممتلكاته، نرى اردوغان اليوم يصر على استخلاص عبرةٍ جديدة "أجزم أنني كما معظمكم أقرؤها.. إذ تقول: إن ما يدور على تراب تلك الأرض المقدسة ما هو سوى بطولات مدينة تنهض من تحت الرماد، في حالة إعجازية قلما سجلها التاريخ أو حفظتها الذاكرة، وأن القلاع عصيةٌ على الأقزام الذين لا تطال قاماتهم أسوارها العصية، وأن المدينة التي نهضت من قلب الرماد الهولاكي المغولي لن يكون لها إلا أن تسجل انتصارا إضافياً على المعسكر الغربي البدوي العثماني، تضعه تاجاً يزين شعرها المنسدل على أكتافها، لتبقى كما أبداً،الأميرة التي يتوجب على من يريد تقبيل قدميها أن يغتسل أولاً بماء الكرامة والشرف والوطنية، وأن ينتمي للتراب السوري المقدس.
أقول أخيراً.. إنني أبتعد عادةً ما استطعت عن المسائل التي تتعلق بالأديان والمعتقدات الدينية إن أنا أردت الكتابة احتراما لرأي من يؤمن بها، لكنني لطالما لجأت كما غيري إلى استخدام تعابير ومصطلحات لها طابع ديني صرف في لحظاتٍ يعلن فيها العقل عجزه عن الإتيان بإجابات منطقية للأسئلة المنطقية، فأراه يبحر في عالم الدين وتفسيراته ونصوصه وآياته ومرتكزاته ومعتقداته من حيث أريد أو لا أريد، ليعود مظفراً وفي جعبته عبارتين اثنتين تقدمان بعضاً من الشرح والتفسير لبعض جوانب اللغز الذي يتخذ من الوطن السوري مركزاً وساحة... إنها معجزة الله على الأرض السورية.. أو على أرضه، وأنا حين أقول كما غيري أرض الله.. فلأنها أرض الله وحسب، هذا ما يؤمن به السوريون وهذا ما آمن به أنبياء الله ورسوله وأتقيائه وقديسيه ومعظم عباده، وحين نقول عن أبطال حلب المكونين من كتيبتي الشعب الأبي والجنود البواسل.. أنهم جند الله على أرضه، فلأن أولئك هم أحد جيشين.. فإما هم جند الله.. وإما هم جند الله، ولا شيء آخر.
23:08
16:56
17:03
17:25
17:18
05:31
05:53
20:44