جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
أنا لاأحب السير على الدروب القديمة ولاأحرص على تقصي الأثر في المسير لأصل الى حيث وصل غيري.. بل أحب الدروب الجديدة العذراء التي ستدهش من رؤيتي كما دهش القمر من أولى خطوات البشر.. وأنا لاأحب البحار التي داست وجوهها السفن وضاجعت أمواجها الأشرعة ولامس البحارة المغامرون عيونها الزرقاء ونهودها العالية التي تغازلها الأعاصير.. بل أحب أن ترمق الأمواج كتاباتي بقلق كما رمقت أمواج المحيط سفن كولومبوس بذهول لأول مرة.. وأن تهابني كما لو كنت بوسيدون..
ولذلك كنت أريد أن أفكر فيما لايفكر فيه الآخرون وأن أقتحم السماء من الأرض بدل أن تقتحمني السماء.. وكنت أريد أن أكتب كما لايكتب الآخرون.. لأنني كنت أريد أن يتحول ذهن القارئ إلى قمر أو كوكب يدهش كلما رأى كلماتي تخطو على سطحه وتثير الغبار الساكن فيه منذ مليارات السنين.. وكنت أريد بلغتي أن أرتق الشقوق في ثوب البحر الأزرق القديم الذي يرتديه منذ ملايين السنين برقع من السماء أخيطها بحروف زرقاء.. وأن أغطي شقوق السماء وجروحها الحمراء بستائر بحرية أقصها وأفصلها لها من بحر طرطوس..
ومن هنا فإنني سأخطو على غبار القمر وأمر على جراح السماء والبحر وأقتحم أسئلة عذراء لم تقبل شفاهها أحدا قبلي.. أسئلة من مثل: من الذي سقط في امتحانات الربيع؟.. القومية أم الاسلام؟؟ الاسلام كله أم بعض الاسلام؟.. القومية كلها (أو العروبة) أو بعضها؟؟ وبدقة أكثر: من الذي هوى: البعث أم الوهابية؟؟ أم البعث والوهابية والاسلام والقومية معا؟ وهل من ناج من هؤلاء في جحيم هذا الربيع؟؟
السؤال الكبير إذا: من الذي سقط في الربيع؟ القومية (أو العروبة) أم جزء منها وهو البعث؟؟.. أم الدين كله (الاسلام) أم أحد منتجات الدين فقط أي (الوهابية)؟
السؤال منطقي لأن البعث السوري يمثل آخر مابقي من العروبة والقومية بعد نهاية زمن ومرحلة عبد الناصر في مصر وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا.. ولأن الاسلام الذي خاض أكثر الصراعات مرارة مع التيارات القومية بكل ألوانها هو الذي تنطح للمعركة الأخيرة مع آخر مابقي من القومية (المتمثلة بالبعث السوري) عبر تحالف اسلامي واسع الطيف متمثل بتحالف جميع القوى الاسلامية "السنية" من الاخوان المسلمين والوهابية والسلفية.. فالاسلام السياسي يقوم الآن بقيادة المعركة الاسلامية ضد مايعتقد أنه آخر فلول القومية..
والربيع العربي هو بجدارة أم المعارك بين القومية وفروعها الوطنية من جهة وبين الاسلام وفروعه من جهة أخرى.. والفائز في الصراع هو الذي سيتولى إدارة العقل والمشاعر في المنطقة في القرن القادم بعد أن تنازعا معظم فترة القرن الماضي وتقاسما الوعي العربي.. فإما القومية أو الاسلام ومشتقاته لأنه لاتوجد هوية طبيعية شاملة أخرى للمنطقة طالما أن المنطقة مستقطبة بين القومية العربية والاسلام كأكبر منتجين فيها طوال القرن العشرين.. ولاتزال المنطقة أسيرة هذين النوعين من المشاعر والثقافة وقد فشلت في إنتاج أو تبني أي ثقافة اجتماعية أو سياسية حديثة تصهر مكوناتها.. وقدرها أن تختار بين القومية والاسلامية الى أن تتمكن من انتاج ثقافة ثالثة وهوية ثالثة أو طريق ثالث..
ولكن ماذا إذا مات الطرفان المتصارعان معا في حلبة المصارعة التي افتتحتها الولايات المتحدة في الشرق في موسم الربيع العربي.. أي القومية والاسلام السياسي؟؟
مايحدث قد يكون الضربة المزدوجة التي نفذتها الذئاب في الشرق وجعلت قرون الوعول تنغرز في بطون الوعول دون أن تقاتل الذئاب الوعول.. فالوعول قتلت الوعول.. والذئاب تتفرج تنتظر الوليمة الضخمة..
فالصراع الديني القومي (أو الاسلامي العروبي) الموجود سابقا أعاد الاميريكيون اطلاقه بأقصى طاقته.. وهو مايمكن وصفه بالضربة المزدوجة الأميريكية التي ستدمر مابقي من القومية المتمثلة وما بقي من البعث.. أي مابقي من ثمالة القومية العربية.. وستدمر في نفس الوقت فائض القوة الاسلامية الذي بلغ ذروة التمدد بسبب التفاعل مع الحلم الاسلامي الذي نجح في ايران وظاهريا نجح في تركيا..لأن النجاح في ايران وتركيا كان كفيلا بأن يضخم الشعور العام ويزيد في شحمه وورمه بأن الحل هو الاسلام وليس العروبة التي فشلت..
الضربة الموجعة الكبرى للقومية كانت عندما دمر الاميريكيون بعث العراق وساعدوا القوى الدينية الاسلامية المعارضة لاجتثاثه في أول اجراء تدخلي لتغليب تيار على آخر طوال تاريخ الصراع بين التيار الاسلامي والقومية العربية منذ تفجر هذا الصراع بين عبد الناصر وسيد قطب.. فكان التفجير الديني في العراق بالصاعق الوهابي هو الذي أزال الألبسة القومية والأغطية والدروع الفكرية وكل المخمدات عن العقل الديني الشرقي وجعله بلا قيود ولاسلاسل ولا ضوابط ولاحماية في العراء.. فتحطمت الخيمة القومية والوطنية التي سكن تحتها العقل الشرقي في الأنواء العاصفة طوال القرن العشرين.. ووجد هذا العقل نفسه في مواجهة غريبة.. فالإسلام يواجه القومية.. والإسلام يفتك بالوطنية..
وقد فجر الأميريكون الصراع بمهارة.. لأن من يتأمل في هذا الصراع لايحتاج كبير عناء ليتتبع أثر الفتيل الذي فجر المجتمع لأنه يعود الى لحظة دخول الامريكيين الى العراق لتنفيذ مهمة واحدة فقط هي زرع القنبلة الدينية بعد تجريد المجتمع من الدولة والجيش اللذين يعطلان صاعق أي قنبلة اجتماعية.. فحدث التصادم الشيعي السني الذي كان مفتعلا في العراق وقد صممه مهندسوه الاميريكيون للسماح باطلاق الاندفاعة الوهابية (بالتنسيق مع السعوديين) عندما عمدوا الى تغليب الطرف الشيعي على السني في العراق بالقوة العسكرية..فانطلقت شرارة العنف الديني..
***********
المحنة القومية
الحقيقة هي أن بداية محنة المرحلة القومية لم تكن في موت عبد الناصر بل كانت في انشقاق البعث بين سورية والعراق.. ومن هذا الشرخ بدأت القومية عملية السقوط البطيء لأن البعث (أي المشروع القومي عموما) كان يراوح في مكانه دون أن يتقدم لأنه كان يخوض تناحرا بين طرفيه العراقي والسوري رغم أن التاريخ سيسجل أن البعث العراقي قد تسبب في هذا التناحر وبدأه مما أضعف الطرفين وشتت جهدهما وجعل طائر القومية بجناحين لايتساوقان في الخفقان.. كل جناح يخفق دون التنسيق مع الآخر لرفع الجسم القومي ومشروع التحليق والاقلاع.. ورغم الاهانة والاجحاف في التشبيه فان الصراع بين طرفي البعث آنذاك يشبه اليوم الصراع بين النصرة وداعش أو الجيش الحر.. منتجات متشابهة جدا ولكنها تتقاتل وتتنافر..
وبعد وفاة بعث العراق مقتولا بسيف الحركات الدينية التي جاء بها الاميريكيون بقي الجناح الثاني للبعث في سورية يخفق وحده.. ولكن غياب الجناح العراقي جعل التوقعات ببقاء البعث السوري على قيد الحياة أشبه بالحلم المستحيل أو الاسطورة لأن المشاريع عندما تتضاءل وتنكمش تموت..
ولذلك فقد انكمش البعث السوري الذي بات آخر مابقي من قومية أمام هجوم الربيع الاسلامي الكاسح في البداية وانسحب من الدستور الذي سكنه عدة عقود بعد أن كان يعتقد أنه سجل الطابو باسمه وملك مفاتيح البيت القومي ليحرسه من بوابة (الحزب القائد للدولة والمجتمع).. وكانت هذه البوابة هي أول ماأسقطه الربيع.. وبغياب الحزب القائد للدولة والمجتمع عن الدستور اعتقد الاسلاميون المنتشون بالنصر الدستوري أن المجتمع والدولة صارا بلا قيادة ولاحزب قائد وأن الجسد يبحث عن رأس جديد.. واعتقدوا أن لارأس يعلو رأس الاسلاميين بعد اليوم..فكبروا وتشنجوا..
ومع هذا فان البعث الذي خرج من حرم الدستور لم يسقط بالمعنى الحرفي لأن خروج العقائد من الدستور لايعني خروجها من الواقع دوما.. فالخروج من قلب المعادلات السياسية ومن عقول الناس وعواطفها هو الخروج المهزوم ويشبه الخروج النهائي من الجنة.. فبالرغم من أن البعث ترك البوابة مشرعة نظريا للقادمين الجدد لكنه كان لايزال يراهن على أنه كشعور قومي موجود في الحارات والأزقة والقرى والكتب المدرسية وأنه كان على كل اشارات المرور وبين سطور السياسة الرسمية للدولة ومونولوج الانسان العربي.. الى أن تلقى البعث والشعور القومي ضربة موجعة بطعنة وجهتها الجامعة العربية نفسها وليس الولايات المتحدة وشاركتها الجماهير العربية وسددتها الى قلبه بارغام العرب على تعليق عضوية سورية "القومية البعثية" في الجامعة العربية.. سورية الرمز الباقي لفكرة القومية العربية وقلب العروبة وقلعة القومية الأخيرة وآخر سلالات البعث تحاصر من قبل العرب أنفسهم لصالح فكرة الدين والهوية الاسلامية التي قامت بالتهام الشعور القومي والوطني وفتكت بهما..وكان الخروج من الجامعة العربية هو خروج القومية من ضمائر كثير من السوريين أيضا.. وهو هدف من أهداف الضربة المزدوجة الاميريكية للمنطقة.. فقد خرج الشعور القومي من النفوس.. وسيخرج الشعور الاسلامي بعده مباشرة.. ولاتبقى لدى أحد هوية..
وكما حدث لدى العراقيين القوميين العرب والبعثيين العراقيين من خيبة أمل بالعرب والعروبة التي طعنتهم ودمرت بلدهم بالتواطؤ مع الغرب الذي اقتحم بغداد فبدؤوا بالانكفاء عن مشروع القومية العربية ويبحثون عن بدائل في الفراغ الذي ملأته الدواعش والقاعدة فان القلعة الشعورية للانتماء العروبي تصدعت لدى رجل الشارع السوري وصارت العروبة في سورية اهانة خطيرة لديه ولم يعد من السهل اقناع الناس بأن الشعور القومي سيبقى الملاذ والحل في الصراع بين الحضارات أو الثقافات أو أن المشروع القومي لايزال الحلم البديل حتى وان كانت هذه حقيقة أو مشروعا مثمرا وتكتلا سياسيا اقتصاديا دون عواطف كغيره من التكتلات الربحية.. فلم يعد من الممكن جذب الناس الى النداء القومي وقد رأى الناس وتذوقوا الخيانة والنكران بل وانكار العروبة من العرب رسميا وشعبيا الذين تورطوا في مشروع بديل لاعقلاني هو المشروع الاسلامي المفصل على مقاس اسرائيل بالضبط.. لأن السوريين كانوا يرون ان مواطنين عربا وجماهير عربية واسعة ومثقفين عربا يقومون بالانفضاض عنهم والانقضاض عليهم دون تفكير قومي وطعنوا أعمق نقطة في القلب السوري زرعها البعث عميقا والتي لجأ اليها مابقي من شعور قومي..
وفي نفس الوقت صار الاسلام اهانة أكبر لدى الوطنيين السوريين لما رأوه من انحراف معظم رجالات الاسلام السياسي وقياداته ومن خيانة الاخوان المسلمين الذين ظهرت نكهاتهم التركية والوهابية الدموية في جبهة النصرة وفي داعش..ولم يعد من الممكن اقناع الناس بمشروع الاسلام السياسي والهوية الاسلامية وقد بدت هوية منقوعة بالكراهية والدم والجهل والشك والاسرار والصفقات..
ولذلك وردا على هذه الخيبة نهضت الوطنية السورية الصرفة في ضمائر الناس لتحل محل الفراغ الكبير الذي تركه انهيار قوتين عظيمتين كانتا تسكنان القلب كآخر ملاذ.. أي الشعور الاسلامي والعروبة معا..
*****************
ماهو شكل الهوية التي ستتبلور بعد قتال الوعول مع الوعول؟؟
بعيدا عن الانحياز لموقف ما فان الربيع الذي لم يسقط البعث في سورية قد أسقط جماهيريا الاسلام السياسي والاخوان المسلمين والوهابية وكل الحركات السلفية دفعة واحدة.. لأنه تبين أخيرا لكثير من الناس المخدوعين بشعارات الاسلام السياسي أن الخلاف بين الحركة الاخوانية والوهابية والسلفية من الناحية العقائدية ليس كبيرا.. ولايبدو الفرق بينها إلا مثل الفرق بين حزب العمل وحزب الليكود الاسرائيليين أو بين الديمقراطيين والجمهوريين في أميريكا أو بين المحافظين والعمال في بريطانيا.. فالاسلاميون جميعا لهم نفس المذاق الزنخ والرائحة والسمية مهما اختلفت الأطباق التي يقدمون بها.. كلهم اسلاميون.. وربما لافرق بين الليكوديين والوهابيين في شهوة القتل والاستعباد..
الخاسر الكبير من الربيع لن يكون الاسلام كعقيدة - الذي لاشك خسر كثيرا من طموحاته الدعوية - بل الاسلام السياسي.. ولكن الخاسر الأكبر هو الوهابية كاتجاه ديني منبوذ بشدة وتتقدم بثبات لتكون أكثر تيار مكروه على وجه الأرض من جميع الأمم.. والإسلام كعقيدة سيعود الى دور العبادة كما كان دون مستقبل في الحكم ودون حلم الخلافة الذي انتهى من ضمائر الناس وسيترك الساحة السياسية خلال بضعة سنوات وسيعتكف العمل السياسي ولن يرى الا على شكل نوع من أنواع الاحزاب المعارضة الضعيفة ضمن تشكيلات وألوان الحياة السياسية المحايدة.. كما حدث مع الأحزاب القومية والشوفينينة الاوروبية بعد الحرب التي انكفأت على نفسها وتلاشت وبقيت ذكرى..
كان في خروج الوهابية العلني في الربيع انتحارا مجنونا تسببت فيه مغامرة المعركة في سورية فكانت هذه المغامرة سببا في كشف الوهابية المقنعة في مصيدة الزمن ومصيدة التواصل الاجتماعي والاعلام الالكتروني الذي أظهر أن ما يقال عن الوهابية من تحقير ليس مبالغة ولاتحاملا بل انه أقل من الحقيقة.. لأنها ظهرت تذبح وتشرب الدم ولاتدين ولاتفتي بتحريم الدم.. ومهووسة بالجنس والمرأة كوعاء للمتعة والرذيلة بعقلية القرون الوسطى.. وظهرت شكلا متوحشا وظلاميا للدين وقدمت أسوأ نموذج كابوسي يمكن أن يتخيله مواطن كان يحلم يوما بحكم الشريعة والخلافة.. ولم يعد الدفاع عن الوهابية الا من المستحيلات لأن عملية توثيق جرائمها العنيفة قامت هي بنفسها به للمباهاة.. ورأت كل الشرائح الاجتماعية ذلك مسجلا على اليوتيوب ولم يعد الانكار ولعب دور الضحية مجديا بعد ان رأى الناس الجلاد الاسلامي بثوبه الوهابي والاخواني الدموي.. وبدا البديل الاسلامي (الذي انتظرته الملايين في المنطقة والتي وعدها بالجنة الاسلامية) شرا مستطيرا وعاجزا عن تقديم النموذج الذي يطمئن الناس.. بل قدم شكلا كابوسيا للاسلام بنسخته الوهابية.. دينا.. وسياسة.. ونموذج حياة.. حتى صار البحث عن بدائل سريعة هاجس نفس الملايين التي انتظرت قرنا كاملا عودة عصر الخلفاء..
وبديهي أنه الى جانب وسائل الاسلاميين في الوصول الى السلطة التي قللت جدا من رصيدهم ومن مستوى الثقة بالمشروع الاسلامي فان تحولهم الى أجسام غير مستقلة ومذنبات عمياء لتركيا وتحولهم الى نسخة تقليدية أكثر بشاعة من أي نظام توتاليتاري قد دمر صورتهم كثيرا.. خاصة أن ظهور المشروع الاسلامي بدا أنه سيخرج العرب من سلطة القومية العربية المنبوذة بعد تجربة الحكم (التي تمثلت بالديكتاتوريات) الى تسلط القوميات الغريبة مثل القومية التركية التي ترى في الاسلام وسيلة لعودة العنصر التركي المتفوق على بقية عناصر المشرق..وعودة الديكتاتورية العثمانية..اي ازالة قومية واعادة قومية..
ولذلك فان عملية انهيار البعث وإنهاء التيار القومي لم تعد جذابة لمن كان يحلم بانهاء القومية كتجربة فاشلة لأن ابقاء كل الأفكار المناوئة للوهابية وخاصة القومية والوطنية شكلت منقذا للمجتمع.. وصار التمسك بأي شكل من الأشكال الأخرى للحكم هاجسا من الهواجس التي تضرب المجتمع لحمايته من الانقلاب الديني الذي يمكن ان يصيبه بالداء الوهابي الذي يعض كل التيارات الاسلامية من عنقها.. وبذلك ساهمت الوهابية الشرسة في حفر قبرها بيدها وحفر قبر الاسلام السياسي لأن العودة الى القومية والشوفينية الوطنية هي التي ستجهز عليها وتجتثها من المجتمعات..
إلا أن من أكثر المفارقات غرائبية وعجبا والتي ستحير كل المتابعين والدارسين لموجات الصراع هي أن بعث سورية القومي الذي كان يحاصره العرب والعروبة ويغير عليه الاسلاميون والوهابيون بالتآزر مع المحافظين الجدد والصهيونية كان يستمد الحياة من الوطنية السورية التي اعتبرها يوما عائقا أمام انطلاقته الشاملة.. وكان يستمد الحياة أيضا من النقيض الرئيسي العقائدي له وهو التيار الديني "الاسلامي" في ايران "الفارسية" ومن التيار القومي في روسيا حيث (المسيحية الأرثوذكسية) المناقضة تماما للمسيحيين الجدد في أميريكا.. وهنا المفارقة.. فالبعث العراقي هزمه التيار الديني (الاسلامي) في العراق وحطمه بالتنسيق مع تيار (المسيحيين المحافظين الجدد) في أميريكا.. ولكن البعث السوري الذي سقطت أجنحته العراقية صار يطير بأجنحة الفينيق الوطنية السورية النقية التي نمت بدلا من الاجنحة القومية والاسلامية بسرعة..ولكنه كان طائرا من نوع غريب.. فهو قومي علماني بجسمه وجناحاه من الوطنية السورية.. لكن الريش الذي قوّى جناحيه اللذين برزا كان اسلاميا ايرانيا (فارسيا) وروسيا (مسيحيا أرثوذكسيا).
هذه النتيجة حرضت راصدي المستقبل لاستشرافه ولتوقع جنس المولود القادم الى المنطقة ولونه ومزاجه وملامحه اعتمادا على التجربة السورية المعقدة.. فهو يستحيل أن يكون شبيها بطرفي الصراع الدامي من الوعول الاسلامية أو القومية.. فما هو شكله؟؟
النتيجة ربما ستفاجئ كل من يحاول قراءة الأحداث.. فكل من راقب الصراع سيجد أن نتيجة هذه المعركة التي امتدت من العراق وحتى ليبيا مرورا بدمشق والقاهرة والتي صمد فيها السوريون بشكل أسطوري يستحق الاعجاب هو صعود الشوفينية الوطنية.. فالهوية السورية تألقت بجدارة.. وستضطر الهوية العراقية الى أن تتبلور ببطء بعد صراع مرير مع البدائل الدينية وكذلك فان الهوية المصرية المصرية انفصلت تماما عن مشروع الهوية الاسلامية والقومية لصالح الهوية الوطنية الصرفة..ويبدو أن مرحلة الوطنيات الحادة هي التي تحكم مزاج المنطقة خلال العقد القادم ولكنها لن تقدر على المتابعة وحدها بسبب طبيعة التكتلات العالمية..وحتمية الانجذاب النوعي..
فكل هذه الهويات الوطنية المتعددة ستلتقي باللاوعي بعد نهاية الموجة الاسلامية السريعة باتجاه إجباري حول هوية جديدة أوسع.. ستحاول الهوية الجديدة الهروب من الملامح القومية والاسلامية بسبب ذكرياتها معهما وقد تنتمي الى فلسفة جديدة مثل فلسفة المصير المشترك كما هي بريكس كفلسفة وهوية اقتصادية.. وقد تنشأ هوية مشتركة سمتها الرفض للتبعية الغربية تجمع مثلا ايران وروسيا ومصر وسورية والعراق واليمن.. ولكن المفاجأة التي يتوقعها البعض أن شعوب المنطقة قد تعيد انتاج القومية كمشروع ولكن بشكل بعيد عن الشكل التقليدي المعروف للقومية وعواطفها وخطابها القديم الذي هزم.. وقد يبدو على شكل تكتل له اسم جديد بسبب غياب الخيارات الأخرى وبسبب أن الكتلة الوطنية المؤقتة ستبقى اقل من الكتلة الشاملة.. فالمصري الذي تاه في صحراء كامب ديفيد اربعين عاما وجد أنه يستيقظ على حقيقة أن مصر بمصريتها بلا امتداد طبيعي نحو الشمال هي أبو الهول ولكن بلا أجنحة.. وأن الطبيعة قد وضعت أجنحة مصر في شمالها (اي سورية والعراق).. والعراقي سيجد أنه بلا القومية ربما سيكون الثور المجنح الذي سيكون بين صيادي الخليفة العثماني.. وكذلك فان السوري لايمكنه أن يعيش على فتات سايكس بيكو الى الأبد وقد رأى ان الانصياع لسايكس بيكو1 كاد أن يكلفه الدخول في سايكس بيكو 2.. وعليه أن يخرج من حدود سايكس بيكو 1.. وهذا الخروج سيجمعه حتما بالعراق وربما بمصر في مرحلة لاحقة.. وهذا الثلاثي هو لب القومية العربية.. القومية العربية هي في مثلث مصر وسورية والعراق الذي كان دوما مغناطيسا يجمع الناس من المحيط الى الخليج حول المركز النابض للقومية.. الممتد من بغداد الى دمشق الى القاهرة..
وهذا ماسيعيد انتاج القومية الى الحياة انما بشكل جديد في المنطقة.. تماما كما حدث مع هزيمة الشيوعية التي لم تعد انتاج الشيوعية بل أعادت انتاج روسيا والشعور القومي الروسي الذي كان عمليا قلب الشيوعية النابض..
قد يبدو هذا الاستنتاج سيرا على دروب قديمة للوصول الى أراض قديمة ومدافن قومية.. وليس سيرا على أرض القمر واثارة غبار القمر.. وقد يبدو ابحارا على نفس خطوط كولومبوس القديمة حيث لاتدهش الأمواج من رؤية المغامرين.. وكأن ماقاله هيراقليطس من أننا لانقدر على أن نقفز في النهر مرتين ليس الا تهويمات فلسفية لأننا نتوقع أن نقفز في نفس النهر مرة ثانية.. فهل سيجري نفس الماء في الشرق يوما ويقفز الناس فيه مرتين بعد أن قفزوا في الربيع في نهر الدم الوهابي واستحموا فيه؟؟.. أم أن مد بحر جديد هو الذي سيصل الشرق.. ويقفز الناس في ماء جديد أجاج لم يتبللوا به قبلا؟؟.. انه بلا شك يبدو أنه اقتحام للسماء من الأرض..
الجواب في العقد القادم الذي بدأ مسيرته من ساحة الأمويين لاقتحام السماء.. ليكون لنا بعده.. شرق بلا وهابية..
شرق بلا وهابية.. سيفضي حتما الى شرق بلا اسرائيل.. انه اقتحام السماء من الأرض.. والسماء لاتقتحم الا من دمشق.
18:06
19:36
20:12
13:42
14:02
22:33
03:35
05:20
05:48
09:37
09:45
17:59
18:05
20:57
20:24
01:12
02:51
03:07
21:43