جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
الحبر لم يخلق ليسكت ولا ليصمت.. أو ليسكن في دواة الحبر ولا في أجواف الأقلام ليباع نفطا في براميل الصحف العربية.. بل خلق ليسيل كالدماء في شرايين الورق لتنهض فيها الروح.. كما عروق الجداول والسواقي والأنهار على أديم الأرض لتنمو على ضفافها الحياة..
ولكن كيف يقف الحبر الأزرق أمام لون الدم القاني الذي يسيل من أجساد الشهداء الذين كانوا في يد الزمن أقلاما من لحم ودم يكتب بها بحبر أحمر على أديم هذه الأرض؟؟.. وكان الدم ينتقل من شرايينهم إلى شرايين أرضنا كيلا تموت هذه الأرض..
في كل يوم نكتب بدمنا القاني رسائلنا الحمراء على وجه أرضنا.. وفي كل يوم نسكب من شراييننا الدم إلى شرايين أرضنا كي تعيش.. ولكن الدم لم يخلق ليصمت ولا ليسكت.. وهذه هي المرة الأولى التي أجد فيها أن الحبر حائر كيف يندفع في شرايين الورق وقد امتلأت شرايين الأرض بالدم القاني..
وأنا لا أخشى شيئا في الوجود إلا أن تحاكمني كلماتي في زمن قادم لأنني منعت حبرها من أن يجري في شرايين الورق في وقت عصيب وتركت القمامة تلوث البصر والسمع.. وأخشى أن أقف يوما أمامها متلعثما خجلا لا أرد ولا أعرف كيف أفسر حبسي لها.. ولذلك عندما قالت الدنيا إن في أرض العرب ربيعا لم أجرؤ على حبس كلماتي.. وتركت الحبر ينازل طوفان القمامة في السياسة.. ويقول إن ربيع العرب هو قمامة العرب.. وكل ماكتب فيه كان ملوثات بصرية وأخلاقية ووطنية وإنسانية وأكوام قمامة تداولها الناس ونصبوا للقمامة التماثيل وعبدوها.. ورفعوا لها أعلاما..
اليوم وبعد استشهاد مجموعة جهاد مغنية لا نعرف صوت من يسمع.. صوت الدم أم صوت الحبر أم صوت الثأر.. ولكن هدير الثأر قد يغطي على كل الأصوات.. فمن بين كل النقاشات التي سمعتها حولي بعد غارة إسرائيل في القنيطرة التي قضى فيها الشهيد جهاد عماد مغنية ورفاقه لم أجد ما يعبر عن نقاشات الكواليس في حزب الله مثل تعليق ماكر يقول: لا يشغلني السؤال الذي يشغل العالم اليوم إن كان حزب الله سيرد أم لن يرد.. وكيف وأين؟؟ بل ما يشغلني هو: ما هو رد إسرائيل وخياراتها على رد حزب الله القادم حتما.. وكيف وأين؟؟ وفي هذا يقين أن إسرائيل ضربت وبدأت تستعد لدراسة مستوى الرد الذي سترده على حزب الله الذي ينتظر ثأره الجميع.. من نهاريا إلى إيلات..
ولكن سؤالا ماكرا آخر يتصدى للسؤال الماكر ويهدئه ويتحداه قائلا: هل إسرائيل تحرشت لأنها تريد من الحزب أو حلفائه أن يردوا بعد أن يئست من استدراج السوريين إلى حرب تريدها لتبرر احتداما شرسا ومواجهة باستعراض العضلات تنقذ فيها المعارضة السورية المأزومة.. وترغم الغرب في نفس الوقت على فرملة أي اتفاق مع إيران كونها حليفا لسورية وراعية لحزب الله وقادرة على تهدئة غضبه.. فضربت الثلاثة مرة واحدة؟؟.
الضربة الأخيرة نالت من إيران أيضا التي فقدت قائدا ميدانيا بارزا وصارت إيران مدينة أيضا لإسرائيل بمجموعة اغتيالات من بينها اغتيال عدد من العلماء والباحثين النوويين الإيرانيين.. وكل عمليات إسرائيل النوعية مرت دون عقاب.. ولذلك فإن هذه الضربة في القنيطرة تعتبر ضربة ثلاثية ضد سورية وإيران وحزب الله.. فهي في أرض سورية ونالت من حزب الله ومن إيران معا..
أصحاب هذا الرأي يرون أن سورية لا تحتاج أن تستدرج إلى حرب قبل أن تنهي جيوب إسرائيل وقمامتها في الجسد السوري والمتمثلة في المقاتلين الإسلاميين لأن الحرب ستنقذ المسلحين بانشغال الجيش السوري عنهم وهو ما تريده إسرائيل.. أما حزب الله فإنه لا يخضع إلى نفس المعادلة والظروف.. وعدم رده سيسقط هيبة حزب الله وردعه ويسبب لها ضررا كبيرا وهو الذي رد على إسرائيل يوما عندما اختطفت راعيا لبنانيا في الجنوب وأرغمها على إطلاق سراحه.. فإذا بها تطيح منذ سنوات بقائده العسكري عماد مغنية.. ثم بحسان اللقيس.. ثم أخيرا بابن مغنية ورفاقه.. ولذلك لم يعد هناك مجال للتردد في الرد.. لأن توازن الرعب بين إسرائيل والحزب قائم على القدرة على معادلة الجريمة والعقاب..
القريبون من عقل حزب الله يقولون بأن الحزب يحتاج أن يوقف قائمة الاغتيالات الإسرائيلية لكوادره بعملية ثأرية تكون سببا في أن يحجم الإسرائيليون عن تكرار الاغتيالات.. فإسرائيل فضلت تجنب المواجهة المباشرة معه منذ عام 2006 وقررت الثأر من رمزيته ومن الرؤوس التي صنعت هيبة حزب الله.. وهاهي تتحداه في مجال العمل الاستخباري الذي أوصلها لأن تصبح صاحبة قرار جبهة النصرة التي تحارب نيابة عن إسرائيل.. ولأن الصمت بعد كل اغتيال يجعل الغرور الإسرائيلي يطرح بوقاحة سؤالا هو: من التالي..؟؟!!.. فإن التالي يجب أن يكون هدفا إسرائيليا.. فلن يوقف ثقافة الاغتيال إلا اغتيال فلسفة الاغتيال وإطلاق عمليات الثأر والعقاب دون النظر لاعتبارات السياسة والتوازنات الداخلية والإقليمية.. وهي الطريقة الفعالة لدفع العدو لاستيعاب ثقافة "الجريمة والعقاب".. وفي ثقافة الجريمة والعقاب يكمن مفهوم الردع عن ارتكاب الجريمة.. وهيبة الوقوع في الجريمة مرة أخرى خوفا من الثأر..
المشكلة الآن أن العملية الإسرائيلية الثلاثية في القنيطرة تطرح في رمزيتها ضرورة التنسيق بين القوى الثلاث المتضررة لتسديد ضربة استخباراتية وعسكرية (وليست حربا) تترجم مفهوم "الجريمة والعقاب" وتكون ذات قيمة ومدلول يحتاج إليها جدا الإيرانيون والسوريون وحزب الله.. لإعادة بناء هيبة الردع الاستخباري للأطراف الثلاثة لأن الردع العسكري القتالي لايزال موجودا ومتاحا لدى القوى الثلاث.. خاصة وأن نوع العملية يكشف أن الإسرائيليين يحصلون من جهة موثوقة أو بطريقة ما على معلومات موثوقة.. وهذا الفتق الاستخباراتي أو التقني يجب أن يرتق لأنه قد يفشل أي عملية ثأر..
وفي اقتراب أكبر من الإسرائيليين نجد فهما عميقا جدا لرد حزب الله من خلال تطمين المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة من أن لا لزوم لتهيئة الملاجئ.. لأن الحزب كما تدرك إسرائيل لن يرد على أهداف مدنية حتما ولن يستخدم قوته الصاروخية.. بل هو مضطر لقبول التحدي للرد على أهداف ذات شأن عسكري لأنه لايقبل أن يعاقب مدنيين إسرائيليين وأهدافا مدنية دون تعرض مدنيين لبنانيين للأذى.. ولذلك كان رده في حرب المدن بينه وبين إسرائيل في 2006 بضرب المدن الشمالية لأن إسرائيل استهدفت مدنييه ومدنه وقراه.. ومنذ ذلك الوقت حدث تفاهم غير مكتوب بينه وبين إسرائيل من خلال معادلة الضاحية بالضاحية والمطار بالمطار والمدني بالمدني.. وهذا سيحيد المدنيين في الطرفين في أية مواجهة.. وهنا يكمن ارتياح إسرائيل لعملياتها الاستخباراتية التي تفرض على الحزب منازلتها بالمثل من باب التزامه الفروسية والأخلاق العسكرية أولا التي يباهي بها.. كما أن حزب الله مضطر ولدواعي الثقة بالنفس أن يقدم ردا ليس في الخاصرة الرخوة للمدنيين الإسرائيليين بل في الخاصرة الصلبة وهي الجيش والعسكريين الإسرائيليين تحديدا.. ومن هنا لم تحس القيادة الإسرائيلية بالقلق من التوتر في الشمال لأن رد حزب الله لن يكون في المجال المدني.. فنصحت بعدم تجهيز الملاجئ.. ولكنها تحاول أن تستقرئ كيفية رد حزب الله على هدف عسكري إسرائيلي مماثل في القيمة المعنوية والرمزية.. وهي تعتقد أن إمكانية الحزب على ذلك محدودة نسبيا بسبب انشغاله في جبهات قتال أخرى.. ولذلك انقلب حذرها القديم وقلقها إلى ترقب دقيق دون مبالغة بالهلع.. وهي في هذه الحالة ستلتزم باللعبة الجديدة وتتجنب الحرب ولكنها ستسعّر حرب الاستخبارات..
وعلى كل حال.. بغض النظر عن عملية الثأر لمجموعة مغنية فإن في استشهاد المجموعة اللبنانية بغارة إسرائيلية على أرض سورية مايلفت النظر.. وهو أن الجولان اقترب كثيرا من مرحلة اللااستقرار والمقاومة بعد قرابة عام من الإعلان عن مشروع المقاومة الشعبية الذي أطلقه الرئيس الأسد وصار واضحا أنه كان في مرحلة إعداد طوال الأشهر الماضية وبدا أنه في طور النضوج الآن بدليل وصول خبراء المقاومة الشعبية من حزب الله وإيران لمعاينة أولى مناطق الاحتكاك.. وأن على مستوطني الجولان أن يتهيؤوا لأيام قلقة متوترة باعتبارهم الآن في منطقة مشروع تحرير.. وأن سنوات العسل والاسترخاء قد انتهت لأن الجولان صار منطقة مواجهة مثله مثل جنوب لبنان قبل انسحاب إسرائيل.. وإسرائيل هي براقش التي جنت على نفسها في الجولان عندما قررت اللعب بخطوط التوتر العالي في القنيطرة.. حيث ستتم تصفية النصرة كما تمت تصفية جيش لبنان الجنوبي ولن ينجو الجنود الإسرائيليون من هذه المواجهة إلا بانسحاب يشبه انسحابهم في عام 2000.. لأن أي تلكؤ في المشروع سيمنح إسرائيل فرصة الإفلات من هذه المرحلة..
وفي استشهاد المجموعة اللبنانية على حدود تلاقي مثلث سايكس بيكو بين لبنان وسورية وفلسطين أول ذوبان حقيقي لحدود سايكس بيكو رغم أنه قد تأخر كثيرا.. فرغم أن داعش والنصرة هما أول من ذوب حدود سايكس بيكو لرسم حدود خارطة الدم والطوائف الأمريكية الشهيرة.. فإن أول عملية تذويب للحدود القديمة في الاتجاه الصحيح ولخطوط سايكس بيكو قد صنعها دم الشهيد اللبناني جهاد مغنية ورفاقه الذي استشهدوا في القنيطرة السورية على حدود فلسطين المحتلة.. وهي بقعة تلاقي حدود سورية ولبنان وفلسطين والأردن.. شظايا سايكس بيكو..
ولو وقعت حادثة القنيطرة قبل حديث السيد حسن نصرالله الأخير لكان من الممكن الوقوع في الحيرة في تفسير اعتداء القنيطرة واعتبر غالبا على أنه استمرار لمسلسل المناوشات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله.. ولكن وقوعها بعد الحديث فإنه لا يعني أنه اختبار لتصريحات السيد نصرالله أو إحراج له وتحد علني يعبر عن ثقة بالنفس.. بل يعني بشكل ما أن إسرائيل وحزب الله قد انتقلا الآن إلى مرحلة المواجهة المستقلة عن خطوط التوتر الدولية التي كانت مؤجلة وهي مواجهة بلغة مختلفة عن الحرب ريثما تنضج ظروف الحرب وتنفجر خطوط التوتر.. ولذلك يتردد الجميع في التنبؤ إن كان السيد حسن نصرالله سيطل قبل الثأر أو بعد الثأر.. أم إنه سينتظر طويلا حتى يتمكن من أن يلقي خطاب الثأر الأكبر على سطح بيت في الجليل المحرر ليعلن أنه وقف الآن فوق بيت العنكبوت.. وداس على رأس سايكس وبيكو.. وعلى رؤوس الثوار العرب وقماماتهم ولحاهم الدموية..
بانتظار تلك اللحظة القادمة.. لن يصمت الدم.. ولن يسكت الحبر.. ولن تسكت الشرايين في الأرض التي تنتظر تلك اللحظة القادمة من الشمال.. الشمال الذي صار اليوم واحدا لأول مرة منذ قسم إلى شمالين.. سوري ولبناني..
18:40
11:02
01:07
01:13
02:49
03:18
03:56
04:47
05:19
02:14
21:08