جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
لا يمكن أن يغادر الراحل أبو متعب عالمنا دون أن نشيعه ببعض الكلام الذي يليق به.. خاصة أننا مدينون له لأنه رافقنا طوال أربع سنوات من الأزمة السورية ولم يبخل علينا بنصائحه وحكمه وسواليفه التي استعمل فيها كل بلاغته وفصاحته التي انحنت لها القواميس وارتجفت المعلقات تأثرا بها واهتزت لها بخشوع جدران وأعمدة معابد اللغة.. حتى وقعت تلك الأعمدة على رأس سيبويه متأثرة بزلازل (أبو متعب) وتهدم هيكل اللغة الذي بناه.. ولاشك أن المسرح السياسي الذي سيخلو من (أبو متعب) سيفتقد شخصية طريفة وستجعل اجتماعات الجامعة العربية بلا طعم ولامذاق ظريف.. و"ليس لها حظ ولانصيب"..
قبل كل شيء.. للموت هيبته وللميت كرامته ولن نطلق لأنفسنا العنان في الإساءة بطريقة بذيئة لشخص انتهى وخرج من ميدان الحياة وسقط عن صهوة الوجود.. إنها ليست بطولة أن نشمت بموت أحد.. لأن الشماتة بالموتى من أخلاق الثوار والإسلاميين المرضى نفسيا دون منازع وبشكل حصري.. فالموت كأس سيذوقه الجميع وسيمر على شفاه الجميع.. ولا يرقص له إلا من لا يقيم للحياة وزنا لأنه غير جدير بالحياة..
فعندما كان أبو متعب حيا لم نترجل عن ظهر الرجل الذي امتطيناه في كل المناسبات وتدلت أرجلنا على أكتافه.. وضربناه بسياطنا ضرب غرائب الإبل.. وركلناه بأحذيتنا ووكزناه بمهاميزنا.. ولكن الآن ماهي البطولة في الرقص فوق جسد الميت الهامد بلاحراك؟؟.. ولعل أخلاقنا تقول لنا إن الميت لايقدر على أن يرد ولا أن يدافع ولا أن يبارز.. ولذلك فإن الأحرى بنا أن نلقي عليه غطاء ونحن واجمون احتراما لهيبة الموت.. لا أسفا ولا حزنا عليه طبعا بل لأننا نحترم هيبة الموتى.. ولنرحل بعدها لمبارزة الملك الجديد وركوب ظهره وضربه بالسياط والمهاميز.. فلا شيء يعدل ركوب شبه الرجل الجديد الذي خلف شبه الرجل الراحل.. في مملكة أشباه الرجال..
لاشك أننا سنفتقد في (أبو متعب) مادة للنكتة والفكاهة وأنا شخصيا سأجد أن هذا الموت قد جردني من نافذة للسخرية اللاذعة.. ومنجم للنكتة.. فكم مرة يجود الزمان علينا بملك شبه أمي "شقيق" لشعبه.. "ليس له حظ ولا نصيب" من القيادة والكاريزما ويتلعثم دوما في تلاوة القرآن مثل (أبو متعب).. ومع ذلك فإن رحيل الملك لم يخل من بعض الدعابات التي أطلقت من قبل المنافقين مثل دعابة أنه رجل سلام وأن الأمة العربية والإسلامية قد فقدت أحد عظمائها الكبار.. وأنا لا أستطيع أن أدعي مثل فقهاء الملك أنني أسمع الملائكة وأراها تهبط من السماء في حمص لتقاتل الجيش السوري.. ولا أستطيع أن أدعي أنني أتحدث مع الرسول الكريم كما يتحدث معه محمد مرسي.. ولا أدعي شرف تناول الإفطار والغداء على مائدته الكريمة في الجنة.. ولا أملك خاتم الله الذي يملكه أصحاب الفتاوى والذين يملكون حتى توقيعه في إرضاع الكبير ونكاح الجهاد ومضاجعة الوداع.. ولكنني أجزم أن الملائكة رغم جديتها وصرامتها فإنها كانت تضحك من دعابة بان كيمون الذي كان ظله دوما ثقيلا حتى داعبنا بالأمس.. وأجزم أن قهقهة الملك في تابوته كانت مسموعة من سخرية الأقدار وخفة دم الناعين والمولولين حوله.. وكأني بالملك يقول لهم ضاحكا: هل إياي تقصدون أيها الملاعين؟ والله إني لا أستحق كل هذا من الشعب السعودي "الشقيق"!!..
وأنا لا أزعم أنني أعرف أخبار السماء ومزاج الله كما يعرفه البغدادي والظواهري والجولاني وزعماء الإخوان المسلمين والذين يعملون مستشارين لله ينصحونه بأن يفتح جنته ويترسها بالحوريات حتى تكتظ لتستعد لاستقبال الانتحاريين القتلة.. ويشيرون عليه بإقفالها في وجه من يذبحونه ويكفرونه.. ولكني سأسجل احتجاجي أن روح الملك صعدت إلى بارئها في وقت لاتزال فيه السماء تتعطر بدم الشهداء في القنيطرة.. ولاتزال ترن فيها أجراس الفرح بوصولهم.. وستنعم روحه برائحة العطر الذي يضوع في كل السماء منذ أربع سنوات وستسمع موسيقا الأجراس التي لاتزال تدق كل يوم منذ أربع سنوات.. وروحه هي التي قتلت العطر في حدائقنا وبيوتنا ونفوسنا.. وهي التي عزفت لنا موسيقا السكاكين والأعناق وأناشيد تفجر الدماء وتكبيرات الذبح..
الأمر الذي تتفق عليه الأحداث هو أن غياب الرجل مثل حضوره في السياسة الدولية.. بل إن غياب الشاب الشهيد جهاد عماد مغنية قد أربك المنطقة وتوترت بسببه العواصم واستنفرت الجيوش ولاتزال الجغرافيا ترتعش وتحبس أنفاسها بسبب رحيل ذلك الشاب.. فيما مر غياب الملك السعودي على أعصاب البنادق والصواريخ كما تمر ورقة خريف قرب جبل.. وكأن الذي رحل هو سائق حافلة في السعودية.
وأكثر ما يضحك في غياب ملك النفط والزيت الأسود أننا عرفناقيمة جلالته الآن فقط من سوق النفط نفسه الذي كان الملك عبدالله يتربع على عرشه.. فقد تبين أن موت ملك النفط قد رفع الأسعار بنسبة 2% أي مايعادل دولارا واحدا للبرميل أو أقل.. وهذا يمكن تحويله إلى معادل اقتصادي في ميزان التأثير الدولي ليكون سعر الملك السعودي هذه الأيام دولارا واحدا عندما ترتفع قيمة الملوك.. المسكين لم يكن له "حظ ولا نصيب" بين تجار النفط ولم يحظ حتى باحترام براميل النفط وانتصاب أسعارها حزنا عليه وتأثرا مثلما تغلي الأسعار في وفيات الكبار.. ربما لأنها لم تذل كما أذلت في أواخر عهد الملك الراحل حتى صار ثمن برميل النفط أقل من سعر حذاء رخيص.. أو شبشب..
الملك سلمان الذي جاء.. مثل الملك الذي غاب.. ومثل كل من غابوا من ملوك آل سعود.. لأن المملكة السعودية لا تدار من المملكة بل من واشنطن.. واشنطن هي التي تقرر دور المملكة ووزنها وهي التي تفصل لها السياسات والمواقف كما يفصل صاحب البغل السرج والخرج لبغاله.. وهي التي تختار للمملكة فساتينها وثيابها الداخلية وسراويلها وجواربها.. وهي التي تصنع الملك وتعين الملك وتزيح الملك أو تضعه في ثلاجة أو تقتله وتتخلص منه في سلة المهملات.. وواشنطن تتصرف بكل مقدرات المملكة كما لو أن هذه المملكة سبية من السبايا وجارية من الجواري.. ولذلك فإن من يعتقد أن الملك إن مات أو عاش سيغير شيئا خارج أبواب قصره فعليه أن يعرف أن علمه يشبه علم الدكتور عبدالله بن عبد العزيز.. دون زيادة أو نقصان..
فالملك أو الأمير في أي دولة عربية هو مجرد موظف للناتو وليس له طموح سوى ألا يتم الاستغناء عن خدماته أو إحالته إلى التقاعد أو مشفى المجانين كما حدث مع السلالة الهاشمية التي أحيل فيها الملك طلال إلى مشفى المجانين بأمر بريطاني لأنه كان ميالا للألمان كما يقال.. وتم تعيين ابنه حسين كملك بوظيفة جاسوس اسمه (مستر بيف) براتب محدود كما كشفت الوثائق الأمريكية.. كل الملوك والأمراء والشيوخ العرب (ولايوجد هناك استثناء واحد) هم موظفون مساكين يمثلون أدوار الملوك وأدوار الأمراء ولكنهم يعرفون أن دورهم لا يتجاوز إلقاء الخطابات وإحياء الحفلات والمهرجانات واستعراض حرس التشريفات والرقص مع الغزاة ومجرمي الحرب بالسيوف.. ولكنهم خلف الستارة تنزل التيجان من على رؤوسهم وتنزع الصولجانات من أياديهم.. وتنزع عنهم حتى ثيابهم القشيبة.. فالتمثيلية تنتهي خلف الستائر الملكية.. وتبدأ جلسات التوبيخ والتأنيب والعقوبات للمقصرين منهم..
إياكم أن تنشغلوا إذن بالأوصاف التي ستمنح للملك الجديد وستخلع عليه مثل "حكيم العرب وزعيم العرب".. فهذه الألقاب لا تصنع حكيما ولا زعيما.. وإياكم أن تنفقوا دقيقة واحدة في قراءة تأثيرات غياب الملك العتيق وقدوم الملك الجديد على أي شيء في المنطقة والعالم.. وكما نقول في أمثالنا الشعبية: معك قرش فأنت تساوي قرشا.. فإن ملكا بدولار واحد لا يغير في العالم إلا بدولار واحد..
هذه الممالك لا يوجد فيها سياسات ولا برلمانات ولا أحزاب ولا دساتير ولا معارضات ولا خبراء ولا علماء ولا قوانين ولا أبحاث.. ولذلك لا ينظر الناس إلى تغيير الملك فيها بل إلى تغيير السفير الأمريكي.. وكل شيء فيها يتبع عقلية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فهذه الهيئة هي الدستور وهي البرلمان وهي مراكز الأبحاث ووكالة الفضاء.. وهذه العقلية السطحية الساذجة لا تغير سياسات الأمم بملوكها ولا تزحزح خطوط الجغرافيا ولا تترك على لوح الزمن أي أثر..
لذلك.. لا يسعنا في النهاية إلا أن نقول لأيتام الملك القديم (البقية في حياتكم إن بقيت بقية) لأن الملك عاش قرنا كاملا ولم يترك بقية لأحد.. ولا يسعنا إلا أن نبارك لهم بالملك الجديد ونقول لهم ناصحين كما نصح "عادل إمام" المذهول من رجال الشرطة الذين كمنوا له في شقته في مسرحية "شاهد ماشافش حاجة" فأعطاهم الخيار بلطف وهو يوصيهم: احشوه.. أو.. خللوه..
وأجمل مايقال للذين يهرولون إلى بيعة الملك الجديد:.. احشوه...أو.. خللوه...
فكما قيل نقلا عن كتب التراث بأن "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام".. فإن في مواعظ اليوم يقال: خياركم الحالي مثل خياركم الراحل..احشوه أو خللوه..لا فرق..
وفي نهاية هذا الوداع فإنني لا أقدر على مقاومة فضولي وتوقي لمعرفة مشاعر أكثر الجزعين من رحيل الملك التسعيني وهو التسعيني الآخر في قطر بمنصب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. الذي دنا منه الموت وحام حول رأسه بعد أن قطف رأس أبي متعب.. فصار التسعيني القرضاوي يقول:
آذنت شمس شروري بمغيب.. ودنا المنهل يانفس فصيبي..
19:40
20:20
23:53
17:46
04:57
05:03
05:53
05:56
06:42
21:38
22:05
02:32
03:41
04:05
04:31
16:21
10:53
19:25
21:00
21:47
22:42
02:53