جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
إن كنت معارضا عربيا.. فلا تنظر في عيوني ولا تحملق في أحداقي لتقنعني بأنك تراني وترصد سكناتي وحركاتي وبأنك بارع في فهم النظرات وتنفذ إلى الأسرار من نوافذ الحدقات.. لأن من يريد أن يراني فإن عليه أن يحدّق في عيون كلامي لا في عيوني.. حيث أسكن ويسكن قلبي منذ أربع سنوات.. هناك حيث يعرف قلبي أين يبكي الكلام وكيف يغضب.. وكيف يولد وكيف يموت.. وكيف يبعث حيا.. كالسيد المسيح.
ويا أيها المعارض العربي.. لا تقرّب أذنيك من فمي وأنا أتحدث لتقنعني أنك تسمعني وأن كل طيور الكلام تقع في شباك أذنيك الكبيرتين.. لأن الكلام المسموع ليس تلك الكلمات التي تطير من حناجرنا.. وليس تلك القوافل من المفردات في الأفواه التي تكمن لها الآذان كاللصوص في الطرقات.. بل الكلام المسموع هو ذاك الذي يسمع كالصهيل في حناجر الكلمات التي أخطها.. وها أنت أيها المعارض تمر بها كل يوم وقد تركت أذنيك الكبيرتين.. واحدة في قطر.. وواحدة في استانبول.. ومابينهما ذيل طويل.
ويا أيها المعارض العربي.. لا تغامر بإخراج دماغك من رأسك لتضعه في طبق كبير أمامي لتقنعني أنك تمارس التفكير والتحليل بدماغ كبير.. فليس المهم أن تمتلك دماغا وأن أراه لأن كل المخلوقات لها دماغ حتى وحيد القرن.. بل المهم أن يعمل في الدماغ العقل البشري والذكاء.. ولكن بعد أربع سنوات لايزال دماغك مثل دماغ وحيد القرن.. إن لم يكن أقل..
فمنذ أيام أسقطت أمام عيون الجميع طائرة أمريكية من دون طيار بالدفاعات السورية.. وهي من أعز الطائرات الذكية على قلوب الجنرالات الأمريكيين ومصدر فخرهم واعتزازهم.. ولكن كان موتها الصامت يشبه موت جنود إسرائيل في شبعا قبلها بأسابيع.. لا جنازة مهيبة ولا استنفار ولا خطابات حماسية ولا تهديدات بالحرب والعقاب ولا غضب.. سقطت الطائرة مثلما سقط جميع حلفاء أمريكا ومجتهدوها ومحبوها بلا مهرجانات وداع.. خبر نعيها استغرق دقيقة أو دقيقتين.. وكما اختفت الطائرة عن شاشات الرادار بعد أن تهشمت فإنها اختفت بسرعة عن الشاشات الفضائية والعناوين وبيانات البيت الأبيض وتحذيراته.. لا بل تمنى البيت الأبيض من السوريين ألا يفجعوهم بعزيزة أخرى..
ولم يلفت هذا الحدث نظر السياسيين والقبضايات الذين يفكرون بشؤون المعارضة السورية ويخططون استراتيجيا للثورة السورية ويعتبرون أنفسهم الخزانات الفكرية لها ومحركات بحثها أي كل واحد منهم مثل (غوغل الثورة) كان لا يتوقف إن سألته عن سقوط النظام الوشيك ومعطيات الانهيار لأنه سيعطيك ملايين الأطروحات والخطوط البيانية ودلالاتها وتموجات التراجع الروسي الحتمي والتغير الإيراني وانهيار الخزانات البشرية والعقائدية للشبيحة.. وجلسوا جميعا أمامنا منذ أربع سنوات (يغوغلون) ويمارسون السحر مع اللوغاريتمات السياسية للجاسوس الإسرائيلي عزمي بشارة ليقدموا لنا زبدة الكلام وخلاصات الخلاصات.. كم (غوغل) علينا برهان ومعاذ وميشيل وعزمي وصفوت الزيات وخديجة وكريشان وآغا وكم غوغل علينا سعود الفيصل وحمد بن جاسم.. حتى المهرج فيصل القاسم كانت خزاناته الفكرية والمعرفية بالأقدار والحتميات التاريخية تفيض كل يوم وتخرج من "اتجاهه المعاكس" فتغرق المعارضة بنعيم الفلسفة ونكهة النصر وتحس بالشبع والتخمة وتحس بالرضا والحبور وتشكر الله على نعمته!!!.. وكانت محركات البحث الثوري لا تترك تفصيلا إلا وتفصل لحمه عن عظامه.. فكلما تنفس أردوغان وكلما عطس أوغلو يتوافد الجهابذة إلى المحطات والجرائد ليقولوا لنا كيف اقتربت النهايات للنظام السوري.. وكلما استدعي ابن ملك السيفيليس إلى واشنطن يهرول هؤلاء إلى الفضائيات ليزفوا لنا سر الاستدعاء لأن الملك سيبلغ بساعة الصفر.. وإن تجشأ هولاند تزاحم عباقرة الثوار لتفسير جشاءته ولحنها ومغازيها.. وأما إذا أطلق ملك السعودية ريحا ووصلت ريحه إلى موسكو تدافع الخبراء الثوريون لتشمم عباءته وملء خياشيمهم ورئاتهم من هوائها.. ففيها رائحة النصر..
أليس إسقاط الطائرة ذات الهوية الأمريكية تحديا لأمريكا خاصة أن ملكية الطائرة تعود رسميا إلى الجيش الأمريكي وتحمل علمه؟؟ هل تجاهل أمريكا لقتل طائرتها بالمضادات السورية لا يعني أي شيء أبدا؟؟ أليست أمريكا هي سيدة من يتذرع ويخترع المبررات للهجوم على الدول حتى لو لم تكن هناك ذريعة؟؟ ألم تكن أمريكا وجون ماكين (أبو الثوار) قادرين على التصعيد والقول إن الطائرة كانت تقوم بمهام استطلاعية روتينية خارج الحدود السورية لمساعدة الثوار أو لتحديد مواقع المدنيين الضحايا (الذين صورهم قيصر) لمساعدتهم ولكن النظام السوري (الذي يقتل شعبه) قرر إسقاط الطائرة وإعاقة عملنا ولذلك يجب أن يعاقب؟؟ أليست هذه حجة ممتازة لإشغال الشعب الأمريكي بشعارات الكرامة الأمريكية التي أهينت والتي يجب استعادتها في دمشق كما استعادت أمريكا هيبتها بعد بيرل هاربر في هيروشيما؟؟ كيف تقبل أمريكا أمام الرأي العام العالمي أن تقول لها دولة صغيرة محاصرة بالأعداء والأزمات ورأسها مطلوب حيا أو ميتا: إياك وتجاوز الحد؟؟ فلو أسقطت الطائرة من قبل الروس أو الصينيين فإن سكوت أمريكا مفهوم ولكن سكوتها هنا يجب أن يفهم أيضا لا أن يدفن في الرمال..
ألم يفكر "وحيدو القرن" كيف تسمح القوات السورية للمقاتلات الأمريكية التي تضرب بعض المناطق بدخول مسارات محددة وإلزامية ومتفق عليها ولا تتحرش بها ولكن لا تمارس معها أية مجاملات ولا تبدي أي قدر من الصبر والتحمل عند تجاوز تلك المسارات كما حدث في اللاذقية؟؟.. ولو علمنا أن قرار إسقاط الطائرة اتخذ في أقل من دقيقة عندما تجاوزت الطائرة مسارا لا يسمح فيه السوريون لأي طائرة بعبوره.. فإن علينا أن نعرف أن الأمريكيين أرادوا اختبار التحذير السوري الذي بلغهم عبر طرف ثالث بتجنب مسارات محددة بشكل صارم لا مزاح فيه ولا مجال للخطأ.. فأرسلت طائرة من غير طيار في نوع من التحدي الحذر كيلا يكون هناك احتمال لقتل طيار أو أسره.. وما أزعج الأمريكيين بشدة هو أن الدفاعات الجوية السورية بدت متينة جدا وخطرة جدا وأن الروس قد جهزوها لتهزم أي تكنولوجيا جوية حديثة عندما يتخذ قرار بذلك.. فإسقاط الطائرة تم بعد ثوان من وصول الأوامر بالتنفيذ ولم تتعثر الدفاعات الجوية بأية مشاكل تقنية بسبب تجهيزات الطائرة المعقدة والمصممة على الصمت الراداري والتشويش الالكتروني وبدت الطائرة بلا حول ولا قوة.. وهذا مصدر قلق عميق لأن هذا يعني أن الدفاعات الجوية الروسية تجاوزت التكنولوجيا الأمريكية بعشر سنوات على الأقل.. لأن التفوق على تقنية صاروخية الكترونية يستدعي تقنيات وتجارب لا تقل عن عشر سنوات.. وهذه الحادثة لمن يقرؤها لا توضح فقط الوهن الذي أصاب العزم الأمريكي في المشروع السوري.. بل توضح أنه حتى إسرائيل وتركيا صارتا مترددتين جدا بالتدخل جنوبا أو شمالا عند فتح المعركة الفاصلة والعربدة لإنقاذ جبهة النصرة شمالا وجنوبا لأنه قد تحدث مفاجآت تكنولوجية لايمكن التنبؤ بها إذا ماتدخل الطيران التركي أو الإسرائيلي.. وبمعنى آخر فإن السوريين خرجوا بعد أربع سنوات من مكامن الحذر والتريث والعض على الجرح وباتوا مدركين أن الخصم فقد أوراق قوته في المناورة.. وأن نهاية موجة الرحلات الجوية الإسرائيلية نحو أهداف سورية قد انتهت.. وأن الإصبع على زر الإطلاق..
النهاية المأساوية لرحلة الطائرة الأمريكية والتي سبقها تصريح كيري بأن التفاوض مع الأسد يبدو خيارا لامناص منه توضح أن المعارضة السورية غير قادرة على تجنب الانكسار عسكريا وسياسيا بعد "تحييد" أمريكا عسكريا وسياسيا والذي تجلى في رغبة أمريكية واضحة بتجنب الحرب وبعدم التورط مباشرة في النزاع حتى عندما تهان.. ويوضح بشكل لا لبس فيه أن الأمريكيين خرجوا من مرحلة (إسقاط النظام في أيام) إلى مرحلة (الغفران للنظام) الذي أسقط طائرة أمريكية وكأن شيئا لم يكن.. ولم نعد بعيدين عن مرحلة (طلب الغفران من النظام)!!.. وأن بيع الخراف التي سمنت في المعارضة ليس ببعيد..
كيف لا يقوم وحيدو القرن بالسؤال عن الرد الأمريكي في الزمان والمكان المناسبين واستجداء جون ماكين ليبحث عن تحريض الكونغرس للرد على تمرد الأسد وتحديه لهيبة أمريكا؟؟ لماذا يعتبر صمت أمريكا على اهانتها وجرح كبريائها حصافة لكن تريثنا في السابق على زعرنة نتنياهو واردوغان ينظر إليه على أنه ضعف؟؟ ماذا لو كان هذا الحدث منذ سنتين عندما كان الأمريكيون يريدون تغيير النظام في أيام وكانوا ينتظرون خطيئة عسكرية واحدة من نظام يقولون إنه محور الشر الذي يعادي الحرية والديمقراطية ويقتل الشعب ويريدون ترحيله بأي ثمن في أيام؟؟
عندما لا تعمل عين ولا أذن ولا عقل وتصبح شبيها بوحيد القرن يمكن أن تكون بجدارة معارضا عربيا وسياسيا لامعا من مواليد الربيع العربي وقد ولدت في "جزيرة".. "عربية".. على يد قابلة اسمها موزة.. في مشفى "الاتجاه المعاكس" لصاحبه الدكتور فيصل القاسم الذي يولد المعارضون جميعا من "اتجاهه المعاكس".. وعندها لايهم إن حدّقت وتأملت بعينيك الواسعتين.. ولن يكترث أحد بأذنيك الطويلتين حتى وإن سمعتا الأذان فوق سطح القمر.. ولن يبالي أحد بما في تجويف جمجمتك من معجون مائع ثوري أحمر..
ولكن كيف ننتظر من العيون التي لاترى والآذان التي لاتسمع وممن لديهم عقول وحيدي القرن أن يحاولوا تحليل الحدث المعقد والمحمل بالمواقف؟.. ولو كان هناك من يفكر لما مر حدث كهذا كما لو كنا نرى فيلما صامتا لتشارلي تشابلن..
إنه مشهد من مشاهد تحطم الخطوط الحمراء في الأزمة السورية.. فلم تذق الخطوط الحمراء طعم الذل كما تذوقته إبان الأزمة السورية التي تحولت إلى مقبرة ومحرقة للخطوط الحمراء ومقبرة للمواعيد ومجزرة للوعود.. وصارت الخطوط الحمراء تتمنى كل شيء إلا أن يقوم أحد باستلالها والمبارزة بها في سورية لأن مصيرها محتوم في مقابر الخطوط الحمر.. وصارت الخطوط الحمراء تعرف أنها لا تستطيع أن تتحدث مع الأزمة السورية ولا أن تتجاوز الخطوط السورية.. فالخطوط السورية هي أكثر ماتكرهه الخطوط الحمراء.. فقد رأينا الخطوط الحمراء الفرنسية والبريطانية تموت في بابا عمرو في حمص ورأيناها تموت في حلب ورأيناها تموت في الجنوب.. واليوم نراها تتهاوى في اللاذقية..
ولذلك سأعيد عليكم كلاما قلته منذ الأيام الأولى لما يسمى الثورة السورية.. سأعيده لأنني أعرف أنه مفتاح لحل لغز المعارضات العربية والسورية منها تحديدا.. قلت لكم ماقاله فريدريك نيتشه: من لم تستطع أن تعلمه الطيران فعلمه على الأقل كيف يسقط بسرعة..
وبالطبع فإن وحيدي القرن ليست لهم أجنحة لننفق الوقت في تعليمهم الطيران.. فعلموهم إذن كيف يسقطون بسرعة.
18:24
18:52
20:49
21:17
22:51
17:03
01:04
08:23
08:26
01:07
20:25
14:24
15:26
11:41
10:44
11:08
11:24
17:56