جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
كم تمر على العيون المناظر والمشاهد والوجوه.. ولكن العين الحاذقة هي التي تمر أمامها ملايين المناظر واللحظات فتمسك بلحظة واحدة فيها كل الحقيقة وتلتقطها دون غيرها كما يمسك المغناطيس ببرادة الحديد دون سواها ولو مر على جبل من قصدير وجبل من توتياء.. وكما تتوقف العين على الوجه الجميل الذي يمر صدفة في طريق أو لوحة فتتعلق به وكأنه ربطها بسلاسل جبارة لاترى.. وتكاد تغادر محاجرها إذ تشدها السلاسل.. فيما ترتخي كل السلاسل وتتقطع بين العيون والوجوه القبيحة الدميمة التي لاتنجذب إليها سلاسل وتفر منها العيون.. كوجه زعيم عربي يثرثر في قمة القاهرة عن التضامن والدفاع والأخطار.. أو وجه معارض إسلامي يقطر نفاقا وخيانة لله.. ووجه معارضة يقطر شبقا للجهاد..
وكم تمر على آذاننا الكلمات وتدخل منها في طواحين العقل.. ولكن الأذن الداهية هي التي تمسك بالكلام الذي ترن في أغصانه الأجراس.. وتلتقط كلمة هي المفتاح.. وهي السر المكنون.. فيقول من يسمعها حائرا بأن أعلاها "لمثمر وأن أسفلها لمغدق.. وأن بها لحلاوة وأن عليها لطلاوة"!!.. وأما الأذن الصماء التي تطحن الهواء والحصى فإنها لاتسمع الأجراس ولاترى حتى كلام الله مثمرا ولا مغدقا ولا حلوا..
لذلك فمن كانت له عينان كعيون الثوار التي ليس فيها ذاكرة ولا أرشيف ولامكتبة للمناظر والمشاهد ولوحات الهزيمة وتستعملان فقط للبحث عن السرور العابر وشمة الحشيش وحقنة الهيرويين فعليه ألا يسمح لعينيه بأن تمارسا إلقاء السلاسل على هذه المقالة.. فلا سلاسل في عيونهم التي لا تلتقط أي حقيقة جميلة.. وليس لآذانهم قدرة التقاط الكلام وتحديد أماكن الأجراس في هذه المقالة..
العين التي تلتقط المشهد الذي حدث في ادلب تتنبه إلى غياب أهم أمر في مشاهد النصر المزعوم.. وهو غياب الناس واحتفالات الجماهير (المحررة) في الساحات بعشرات الآلاف احتفاء برحيل قوة الجيش السوري والشبيحة التي قهرتهم.. الشوارع تبدو شبه خالية والترحيب غائب تماما ولاشيء سوى الغبار و"الثوار".. وإذا غاب الشعب عن ساحة فإن من فيها حتما لا ينتصر.. فالثوار يحتفلون وحيدين ببنادقهم ولايرمى عليهم ورد ولا أرز.. وهناك في مشهد الثوار في ساحة ادلب تكرارية عبثية مملة لمئات المشاهد السابقة التي انتهت بشكل مأساوي للثوار وبهزيمة مخجلة.. وسأعيدها على مسامعهم.. فقد احتفى الثوار يوما بتحرير القصير وتحرير يبرود.. وقارة.. وتحرير دير عطية.. وتحرير معلولا.. ومساكن عدرا العمالية.. ومعسكرات مهين للسلاح.. وحقل الشاعر.. وتحرير بابا عمرو.. وحمص القديمة.. وتحرير كسب.. وريف اللاذقية.. وتحرير مناطق واسعة في ريف حلب.. والحسكة.. وريف دمشق والمليحة.. والدخانية.. ولكن عندما قرر الجيش دخول تلك المناطق سقطت الرايات السوداء بسرعة.. تحت سنابك جنوده.. كلها دون استثناء..
وماتلاحظه العين أيضا في ادلب أن المسلحين لم يتمكنوا من ارتكاب المجازر الواسعة في الطرقات وتصويرها على مواقعهم للمباهاة والترهيب كما اعتادوا في حلب.. وكما فعلوا في مساكن عدرا العمالية لأن الناس غادرت ضمن خطة الجيش لإجلاء السكان بنجاح ولم يترك لهم فرصة التنكيل والثأر من آلاف المدنيين والتشفي بهم وإذلالهم.. لأن تقديرات الجيش ومعلوماته الاستطلاعية كانت تقول بأن الأتراك يريدون بناء خط مواجهة جديد يساعدهم على تغيير بعض المعطيات الصعبة الميدانية.. ولذلك فإنهم يريدون دعم هجوم عنيف والقيام بمعركة مدمرة جدا لمدينة ادلب يسقط فيها المدنيون بأعداد هائلة بسبب القتال الدائر والقصف العشوائي مما يزيد من استغلال التوتر في المنطقة واستغلال لحظة الانفعال الإعلامي بسبب أحداث اليمن بما يصور على أنه انتصارات سعودية على حلفاء إيران (والشيعة).. فتغيب المجازر في ادلب لأنها ستظهر على أنها مجازر النظام لسحق المدنيين المتمردين.. ويسيطر جو من المعنويات العالية والتفاؤل للمعارضة بإعادة طرح السيناريو السوري للتداول الدولي برعاية سعودية كاملة وفي الجامعة العربية مستغلين الشحن الذي تسبب به الهجوم السعودي على اليمن وصمت مصر وظهورها في بيت الطاعة السعودي.. وهي تنتظر دفع المقدم والمؤخر.. قبل ليلة الدخلة "الاقتصادية".. حيث يتحضر الذكر السعودي للدخول بمن كانت ملك يمينه أيام مبارك وصارت زوجته الرابعة شرعا في عهد مابعد مبارك !!
القيادة العسكرية السورية لاحظت وجود تحرك لمجمعات كبيرة بقيادة تركية خاصة وأن طبيعة وكمية السلاح المنقول والذخائر يقصد به تخريب المدينة وقتل أعداد كبيرة من المدنيين بضراوة المعارك.. ورغم تكتمها على التفاصيل نقل لي عن بعض التسريبات الخاصة غير الرسمية والتي دوما كانت لديها معلومات حساسة (وأنا لا أدعي أنها خلاصة نهائية) أن القيادة العسكرية وجدت أنها أمام خيارين.. إما استمرار الدفاع عن المدينة بوجود كثافة مدنيين وهذا ممكن جدا كما أن إسقاط الهجوم لايحتاج إلا إلى نقل قوات رابضة في المنطقة الوسطى وهي جاهزة للتحرك.. ولكن المدنيين سيدفعون ثمنا كبيرا لأن الطرف المهاجم لديه إستراتيجية عدم الاكتراث بالمدنيين بل ولديه تعليمات تركية بقصف عشوائي لمعاقبتهم طالما أنهم لايدعمون الثورة فهم خونة ولامبالون ويستحقون العقاب.. وإما تفضيل تجنيب المدنيين مجزرة بسبب معارك طاحنة.. فقرر الجيش أن يتبع سياسة أن الأولوية دوما للمدنيين وليس للنصر والاستعراض الإعلامي الآن.. فصمم خطة سريعة لإجلائهم بأمان في وقت تتابع الخطوط الأمامية مهمة التصدي للهجوم.. ثم تعيد القوات الانتشار وتلتقي مع قوات مؤازرة ضخمة تنقل إلى مشارف ادلب بحيث تكون وجها لوجه مع القوات الخاصة التركية (المقنعة باسم ثوار) داخل المدينة.. وعند تأمين المدنيين سيمكن فتح معركة بلا رحمة بالنيران على القوات المهاجمة.. وقد تتحطم المدينة ولكن من يعمر المدن هم سكانها الذين سيعودون إليها.. والقضية ليس فيها تراجع ولاتردد.. وليس فيها أي رائحة للنصر "الثوري" طالما أن غاية الدولة هي حماية الإنسان والمواطن ماأمكن.. وفي الحروب تتخذ قرارات مبنية على التجربة الميدانية الآنية.. والتجربة السورية أثبتت أن ترك المدنيين في المدن مكلف بشريا لهم إذا وقعوا تحت حكم المعارضة والمتدينين أو إذا طحنتهم المعارك المتبادلة.. كما أن تحرير المدن بوجودهم صعب دون كلفة باهظة عليهم وعلى الجيش كما هو الحال في بعض مدن الغوطة وحلب.. وصار من المفضل إخلاء المدن قبل القتال فيها.. وكل جيوش العالم تلجأ إلى نقل السكان والمصانع الحيوية من مناطق المعارك الشرسة إلى العمق الآمن كما فعل الروس في الحرب العالمية الثانية عندما تقدم الألمان.. وكانت القطارات الروسية تحمل السكان ومصانع الدبابات إلى سيبيرية بدل المواجهة في بعض المدن الحدودية.. للانقضاض لاحقا على القوات المهاجمة.. وهذا الإجلاء السكاني مع القوات المدافعة هو مايبدو أنه تم لأول مرة في بصرى الشام وفي ادلب..رغم مايمثله من تراجع بسبب الضغط العسكري على المدينتين.. وهذا مايجب الاعتراف به دون حرج..
وما نلاحظه في معركة ادلب.. أن الطرف الآخر يحاول استغلال المعركة إلى أقصى حد.. حتى المختل وليد جنبلاط يحتفل ويهنئ جبهة النصرة بالنصر وكأنها شمة من شمات الحشيش التي أنسته ماحدث لجميع المدن التي قال إنها عواصم الثورة التي لاتسقط.. والكل يعصر مافي ادلب من مشاهد النشوة إلى آخر نقطة مثل (عديم ووقع بسلة تين كما يقال).. ولكن المبالغة في إظهار الاحتفالية والبهجة بالنصر تدل على أن لدى المعارضة ضعفا بينا في الثقة بنتائج المعارك النهائية وبأنها تحتاج إلى انتصارات منفوخة جدا لأن الخصم (أي المواطنون الموالون لدولتهم الوطنية) لم يخف طيلة الفترة الماضية ولم يتخلخل إيمانه بنتيجة الحرب الفاصلة رغم تموجاتها.. ولكن هذه اللعبة الإعلامية البليدة كانت تنفع في بدايات الأحداث ولم تعد تفيد في إرهاب الخصم الآن وترويعه وجعله يبحث عن ملاذ.. وهي تفيد العيون التي ترى في جبال القصدير جبالا من حديد وفي وجه سعدو الحريري وجه (بطل صنديد).. وفي صوت ثغاء النوق في الجامعة العربية أغنية عذبة.. وأعذبها صوت سعود الفيصل المتحشرج المهتز كما أصوات بث الراديوات القديمة المشوشة التي انتهت بطارياتها ولاتلتقط موجات الترددات إلا مقطعة..
في معركة ادلب يعرف الطرف الوطني أنه في حرب مباشرة مع تركيا بشكل لالبس فيه ومنذ أن دخلت قوات خاصة تركية في معارك حلب بلبوس ثوار.. وأن المعركة في ادلب لم تنته هنا طبعا.. ولذلك هذه تموجات في الحرب.. وهي لاتغير في حقيقة الميدان شيئا.. وليس لدى أي مواطن سوري أي شك أن من في ساحات ادلب سيكنسون كما كنس الذين من قبلهم من ساحات أخرى وطنية كثيرة..
لذلك.. من يتأمل في المشاهد والمناظر المتلاحقة لأحداث ومعارك الشرق الأوسط وبالذات في معركة ادلب الأخيرة فإننا قطعا سنوصيه بأن تكون عيناه كالمغناطيس الذي لايلتقط القصدير.. وأن تكون عيناه كعيني الصقر.. وكالعين التي تبحث عن الجمال الأصيل وهو يتأمل في المشاهد.. وأن تكون أذناه داهيتين كأذني المحقق السوري اللتين أمسكتا بكوهين وساقتاه إلى الاعتراف بأنه يهودي متنكر.. ومنه إلى حبل المشنقة في دمشق التي تشنق الجواسيس دون رحمة..وعملاء الجواسيس..
فمما يقال بأن إيليا كوهين وقع إنكاره وانهار عندما التقطت كلمات المحقق السوري كلمة واحدة من كل ساعات التحقيق الطويلة.. كلمة واحدة دلت على أن كامل أمين ثابت شخص يهودي متنكر في شخصية أخرى.. أذنا المحقق الذي لم يقدر أن يمسك في التحقيق الطويل مع الجاسوس كلمة تثبت أنه جاسوس تنبهتا فجأة لعبارة قالها كوهين وهي: ".. ذهبنا بعد ذلك إلى الجامع الذي يصلي فيه المسلمون".. وهنا توقف المحقق.. فلو كان كامل أمين ثابت مسلما فإنه لن يصف الجامع بأنه (الذي يصلي فيه المسلمون) فالجامع لايحتاج تعريفا بهذا الشكل إلا لمن لم يكن مسلما.. وهنا بدأت شخصية كوهين تظهر.. من تلك الكلمة التي التقطها المحقق..
ولكن لمن يستمع إلى جيش "كامل أمين ثابت" المتمثل في إعلام العرب والمعارضة الذي دخل إلى ادلب فعليه أن يمسك بعينيه بمشهد (الساحة الفارغة من الجمهور والشوارع التي لاتحتفل بأحد والتي بدا فيها الثوار كاليتامى) وعلى نظراته أن تكون كالمغناطيس الذي يهمل القصدير.. وعليه أن يخشى كثيرا من صمت الجيش السوري الذي على غير عادته قدم للمسلحين والأتراك مايريدون.. لأنه يعرف مايريد..
هذه حرب مع تركيا.. ونحن في مواجهة تركيا شمالا.. وقد تكون اليوم المواجهة مقنّعة وفيها تمثيليات ثورية تخفي وجه تركيا القبيح.. لكن الخط الفاصل بين تركيا ومذاق الحرب المباشرة ربما ليس ببعيد.. لأن المحور الذي يقاتلنا الآن بدأ يخرج عن طوره.. ويتورط.. ويدخل الأرض التي لايدخلها إلا كل غبي متهور ليذوق نكهة الحرب.. ونكهة الذل.. من اليمن إلى شمال سورية.. والى جنوبها..
ما حدث في ادلب لا يخيفنا ولا يهزنا ونحن نعرف ماذا يتم التحضير له.. وفي صمتنا كل الأجراس التي تنتظرها الآذان الوطنية.. وفي مشاهدنا القادمة ستتعلق سلاسل العيون بوجوهنا.. ووجوه رجالنا.. الصناديد.. كما تتعلق العيون بمشاهد البحارة الذين يصارعون وحوش الموج ويربطون البحر من قرنيه.. ويجرونه إلى شواطئهم كثور أزرق مهزوم.. مربوط بالسلاسل..
سلاسل عيوننا متعلقة بوجوه الأبطال.. ومعلقة ببنادقهم..وآذاننا تسمع الأجراس المعلقة في الصمت.. فأصيخوا السمع وانتبهوا جيدا.
15:45
16:11
16:30
09:19
18:46
19:21
00:33
00:38
00:42
01:12
17:29
11:33
11:42
11:46