جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:
ليس من السهل أن نتوجه بالشكر الجزيل لقائد الثورة السورية ورئيس هيئتها الشرعية الشيخ روبرت فورد (أبو فورد الأمريكي) على حقنه لدماء السوريين الأبرياء وإبعاد الثوار عن ارتكاب العنف الوحشي.. ولكن ليس من السهل أن نتجاهل فضله في لجم شهوة القتل عند الثورجيين.. إلا أن واجب شكرنا له ليس مقتصرا على أنه يحاول أن يهذب من سلوك الثوار ويعلمهم الرحمة ويؤدبهم ويهذبهم ويحسن تعليمهم.. بل لأن الحقيقة هي أننا نعترف بفضله في أننا اكتشفنا ديننا الإسلامي الحنيف من خلاله.. وأخذنا من علمه ما دلّنا على الدرب المفقود لنبينا.. وسمعنا بسببه عن فتح مكة ودرس التسامح ورحمة الرسول الكريم تجاه أعدائه.. وسمعنا لأول مرة بأن هناك شيئا اسمه (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وإذا كان النبي الكريم قد قال يوما: "خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء" -ويقصد بالحميراء السيدة عائشة أم المؤمنين- حسب روايات الحديث.. فإن أمته أمضت قرونا طويلة تفتش عن النصف الآخر المفقود من الدين الذي حار في تفسير مصيره العلماء والمجتهدون.. إلى أن وجدنا نصف ديننا الآخر في بيت روبرت فورد.. وقد انتهى بحثنا عن النصف الثاني من ديننا المفقود إلى مبتغاه –والحمد لله- بعد أن رصدناه متدليا بين جوانح روبرت فورد وأضلعه وقلبه الندي ووصاياه النبوية..
فقد أوصى فورد منذ أسابيع قليلة في مقالة له في الفورين بوليسي بعنوان (أمريكا تخسر الحرب في سورية), نصح القائمين على ما يسمى بالثورة السورية بتعديل سلوكها العنيف والابتعاد عن الوحشية تجاه الموالين والأقليات ودعاها ناصحا كالمعلم والقائد لإظهار الرحمة للأعداء بعد أن نفر منها القاصي والداني وتقزز منها العالم.. وبعد أن تخضلت لحى المؤمنين فيها بدماء الأبرياء والضحايا لا الدموع.. وصارت هذه اللحى تقطر دما.. والحقيقة أن تلك النصيحة كانت بمثابة تعليمات لمرحلة جديدة.
ومنذ أن قرأت الوصايا الست لروبرت فورد في بدايات آذار 2015 لاحظت قيام تنسيقيات ومواقع الثوار بنشرها دون تردد أو تحفظ أو تعديل رغم ما فيها من إحراج "للثوار" واتهام صريح بوحشيتهم.. وأدركت عندها أننا مقبلون على خطاب جديد منافق ومموه للمعارضة ومسلحيها وللمؤمنين يبتعد عن العنف العلني ومشاهد الوحشية المفرطة.. ولم يطل انتظاري حتى وقع طاقم الحوامة السورية في ادلب بعد ذلك بأسبوعين في الأسر إثر تعطل حوامتهم.. وبالرغم من شهوة القتل والتمثيل والذبح البينة في بيانات المعارضة والتنظيمات الإسلامية فإن الثوار لم يقبلوا على ذلك بل سارع "ملهم الدروبي" على الفور بتاريخ 23 آذار بكتابة وصايا للثوار يترجم فيها ما قاله نبي الثورة الشيخ روبرت فورد حرفا حرفا.. فقال ملهم موصيا:
على الثوار تطبيق قوانين شرعنا الإسلامي الحنيف لأسرى الحرب وفيها "الحكمة والرحمة" وملاحظة عدم مخالفة القوانين الدولية ذات الصلة بأسرى الحرب.. ومن ثم شرح الإسلام الحقيقي للأسير وبشكل مبسط وإعطاؤه فرصة للتفكير.. ومعاملته بشكل إنساني ومحاكمته بشكل عادل..
وبعد دخول النصرة إلى ادلب.. كتب محمد حبش نشرة تمجد رقة جمهور "أبو محمد الجولاني" وأبدى إعجابه من انضباط المقاتلين والتزامهم تعليمات الدين الحنيف.. وكيف أنهم يتبعون وصايا النبي في الرحمة ويتمثلون مقولة (اذهبوا فأنتم الطلقاء).. ووصل الأمر بهذا الكذاب الكبير أنه قال إن النصرة "تركت من يريد الذهاب إلى حاله دون أذيته..".. وأبدى ذهوله "بتيسير الفاتحين سبيل الخروج "لكثير من المتورطين في محاربة الثورة"، وعدم افتتاح نصرهم بمجازر ومقابر كما صنع الفاتحون القساة في الرقة من قبل".. وبالطبع لم يحدد هنا من هم الفاتحون القساة وتركها لطيب النوايا.. فهل هم الجيش الحر أو النصرة أم الدواعش؟؟ وغالب الظن أن من قصدهم بالفاتحين القساة هم الدواعش الذين ينظر إليهم على أنهم فاتحون مثل النصرة لكن عيار قسوتهم أعلى قليلا وترمى في سلتهم كل القمامات التي ترتكبها المعارضة الباقية لتبقى الثورة طاهرة.
والحقيقة أنني كلما غصت في ماء المقال أحسست أنني حائر لأنني أحس أنني أشم فيه رائحة روبرت فورد فيه رغم أن الكلام الجميل الحميم الرومانسي يبدو مأخوذا من كتب وتعاليم الفقه لشهيد المحراب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي لما فيها من مودة ورحمة.. ولو غابت رائحة أقدام روبرت فورد عن المقال لدمعت العينان من هذه الدرر والنفائس المخبوءة في تاريخنا الإسلامي التي اكتشفها فجأة هذا المنافق محمد حبش الذي يوزع اليوم اللائمة في العنف على الدواعش ويمتدح سلوك النصرة.. بل إن هذا الثعلب الأفاق الذي كان يكيل المديح للرئيس بشار الأسد يوما قبل أن يصبح من وعاظ ثوار في جزر النفط.. فتح عينيه على ادلب المحررة وبكل وقاحة صرح بأنه لم ير إلا وجوه أهل ادلب وفلاحيها الطيبين يحررون شوارع ادلب.. وكأن السعودي المحيسني الذي ظهر في شوارع ادلب هو طيف غرنوق من الجنة.. وكأن آلاف الصور والوثائق السابقة بالصوت والصورة عن الشيشانيين والقوقاز والسعوديين والكويتيين والأفغان والأردنيين والأتراك.. و84 جنسية تشارك في الحرب مع المعارضة لا تراها عين المؤمن لأن النبي قد ذرى ترابا على المجاهدين الغرباء كي لا ترى عيون الثعالب المؤمنة إلا أهل ادلب!!.
وكي نفهم كيف تحول الخطاب الثوري وكيف أن نصف ديننا نأخذه هذه الأيام من روبرت فورد وليس من السيدة عائشة أو غيرها علينا أن نتذكر أن كل هؤلاء الذين يتدفقون اليوم حنانا وحبا ورحمة ولطفا وإنسانية ورهافة وشفافية ويقطرون حلاوة وطلاوة.. كانت قلوبهم من حجر وعيونهم من صوان وآذانهم من رخام طوال أربع سنوات قتل فيها آلاف الناس علنا وبتصوير الكاميرات عالي الدقة.. ولكن أحاديث النبي الرحيم كانت مدفونة تحت الرمل وتحت الوعي والذاكرة في مكان خفي تحت أكوام الغرائز والشهوات والدناءات والرغبات المكبوتة.. فرغم أن المجازر بحق الجنود والأسرى كانت تشبه السياحة اليومية وشرب القهوة في مقهى الروضة لكن لم يظهر النبي ورحمته وعفوه عن خصومه في جميع لحظات التشفي والثأر وكرع الدم.. وكان ثعالب الدين هؤلاء جميعا يتسابقون مع كل جريمة لتبرئة الثوار من الهمجية وغسل أيديهم من الدم وإلقاء النزف الذي سفكوه على وجه النظام والشبيحة والقول بأنه هو من يقتل وهو من يرتكب الجريمة.. وهم بذلك الغطاء والدفاع المستميت عن عنف الثوار.. كانوا يقولون للقتلة والمجرمين لا تثريب عليكم ولا ذنب لأنكم ترهبون بهذا عدو الله وعدوكم.. فمنحوا الذبح نكهة الثورة المقدسة..
ولكن من قاد هذه الثعالب في هذه المرحلة وعلمهم دينهم لم يكن أحد سوى روبرت فورد نفسه الذي كانت فلسفته تقوم على بث الرعب من الثورة.. وإلقاء الهلع في نفوس الناس ليمتنعوا عن مساندة الدولة السورية وصد المشروع الأمريكي وتحييد عموم الشعب بتهديده بالرعب الثوري.. فكان روبرت فورد حقيقة هو من أشار برفع شعار (ترهبون به عدو الله وعدوكم).. وأعطى بذلك أوامر لإطلاق المجانين وشريعتهم وقال لهم (اذهبوا فأنتم طلقاء في العنف والذبح).. وسار على ذلك النهج والوصية جميع المؤمنين والإسلاميين دون تردد.. وعملوا بحذافيرها دون نقصان.. ولذلك غابت ولأربع سنوات كاملة أية دعوة للرحمة والرأفة والتسامح.. ولم يطالب واحد العرعور والجولاني وعلوش وأكلة القلوب ومئات الكتائب المتنوعة بالتخفيف من الجنون العنيف والتكفير ومشاهد الوحشية.. ومن لغة القتل وتبرير العنف.. بل كان الشعار هو (العنف يولد العنف).. و(هذا العنف هو ردة فعل طبيعية على عنف النظام) ولا مجال للرحمة.. وحتى قصف المدنيين بالهاون وأسطوانات الغاز في دمشق وحلب لاتزال بانتظار فتوى إيقافها وإدانتها من روبرت فورد وليس من أحاديث النبي وكتب التراث والسيرة التي يحتكرها المؤمنون ويفرجون عنها بالقطارة حسب الحاجة ووفق قانون العرض والطلب في مكتب روبرت فورد..
أما اليوم فإن العنف المزعوم الواقع على المدنيين من قبل النظام وما يسمى البراميل المتفجرة على ما يبدو يمكن أن يعامل بالتسامح والحكمة في ضبط النفس.. ففجأة اكتشف المؤمنون الرحمة في الإسلام بعد وصية روبرت فورد.. وتذكروا أن لهم نبيا كان يقول بملء فيه ضد رغبة الصحابي المتعجل الذي صاح (اللهم العن دوسا) فتذكر المؤمنون النبي المنسي طوال أربع سنوات عندما قال معترضا على الصحابي (اللهم أهد دوسا).. وبأن ذات النبي المنسي طوال أربع سنوات اعترض بأدب على دعاء نوح (رب لا تذر على الأرض ديارا) فتذكر الثوار دعاء النبي العربي المنسي طوال أربع سنوات (اللهم أهد قومي).. واختفت من على الشاشات تبريرات شهيرة مثل (العنف يولد العنف وبأنه رد فعل طبيعي جدا على الظلم وعنف النظام..).
والحقيقة أن العنف لم يتغير قيد أنملة لأن جسم الثورة شرب من نبع الوهابية.. ولحم أكتافه من فكر ابن تيمية.. وفلسفة الثورة قائمة بالتالي على فلسفة تقضي باستئصال كل من يخالف شيخ الطريقة الوهابية ورأي الهيئة الشرعية وعقيدة التكفير.. وما حدث هو توزيع الأدوار والمهام.. فالعنف العلني الإرهابي لاتزال تتولاه داعش.. عنف حسب الطلب.. فيما تنتقل جبهة النصرة إلى مرحلة العنف في الظلام الذي لا ينظر في الكاميرات ولا يدون ولا يوثق.. مستلهمة نفس وصية هنري كيسنجر لإسحاق رابين عندما أعطى أوامر بتكسير عظام الفلسطينيين فكان أن ظهر جنوده يحطمون أذرع الشبان الأسرى بالحجارة في مشاهد روعت العالم وأذهلته من قسوتها.. فما كان من كيسسنجر إلا بأن نصح الإسرائيليين بإخراج كل كاميرات الصحافة من الضفة الغربية ومنع الصحافيين من الاقتراب.. فكان ذلك وتابع الجيش الإسرائيلي تكسير العظام على راحته بصمت في غياب الكاميرات.. وهو ما نصحت به النصرة التي يتم تلميعها وإعدادها وتشذيب سلوكها لإعادة تقديمها عضوا أصيلا في الثورة السورية وممثلة للشعب السوري لأنها لا تمارس العنف (إلا في الغرف المغلقة بعد اليوم كما حدث مع من لم يتمكن الجيش السوري من إخلائه في ادلب ووقع بين براثن المؤمنين).. ليمتدحها محمد حبش وتدمع عيناه تأثرا بعد أربع سنوات من الذبح والتكبير من إنسانيتها التي هبطت فجأة..
ولذلك نرى أن روبرت فورد الذي قاد المرحلة الأولى من الثورة السورية وكان ينتقي من الدين (ترهبون به عدو الله) فشل في هذه المرحلة.. ولذلك فإنه انتقل لانتقاء (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون) و(اذهبوا فأنتم الطلقاء) وذكّر المؤمنين بنبيهم المنسي..
وبانتظار المرحلة الثالثة من ديننا الذي نتعلمه من روبرت فورد إياكم أن تتابعوا تصريحات المؤمنين والثوار والمشايخ لمعرفة تطور الأحداث وما هو مزاج اللحظة النبوية التي يختارها الثوار.. بل تابعوا ما يقوله الشيخ روبرت فورد الذي نأخذ منه نصف ديننا والذي يذكرنا بأن لنا نبيا قال في الرحمة ما قال.. وعندما سيقول روبرت فورد إن الاتفاق مع النظام السوري قد حان.. ستسمعون جميعا جلجلة المؤمنين بالسلام والحب وسينبش المؤمنون آية منسية من القرآن لا تعمل إلا باتجاه واحد هو إسرائيل تقول (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).. ولكن لم يأذن روبرت فورد بعد باستعمالها في الأزمة السورية.. وستكون نهاية الثورة عندما يوصي فورد الثوار فجأة بتذكر (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي).
لذلك كما قال الرئيس الأسد في حديثه لمحطة "سي بي اس" بأن التلاحم الوطني والمذهبي في سورية صار بعد الأحداث أفضل مما كان عليه قبل الأحداث لأن الأزمة فضحت من يسمون بالثوار ونبهت السوريين على اختلاف مشاربهم إلى تقاربهم كمواطنين في الهمّ الوطني الجامع وليس في الهم المذهبي السخيف الصغير الذي قامت عليه الثورة الوهابية..
وبنفس القوة وفي نفس الوقت فإن هذه الأزمة علمتنا أن الدين الإسلامي لا يأكل من بيدر روبرت فورد الذي تأكل منه ثعالب مثل محمد حبش وملهم الدروبي وكل رهط الإسلاميين ذوي اللحى.. وأن السيدة عائشة لا يمكن أن تتقاسم مع روبرت فورد مهمة تعليمنا ديننا مناصفة.. لأن نصف ديننا الذي نكتشفه الآن هو في طرد المنافقين وثعالب الدين من حقول الإيمان والوعظ.. وفي تعليم الأخلاق الوطنية قبل الدين.. لأن الدين بلا أخلاق وطنية وإنسانية تحميه على ما يبدو يمكن أن يمارسه سفير أمريكي مثل فورد بمثل مهارة محمد حبش الدينية.. ولكن القيم الأخلاقية الوطنية التي يتساوى فيها الأمي الفقير والشيخ الفقيه تبين أنها هي التي تحمي الدين من الاختراق وهي التي تمنع أكبر سفير في العالم وأكبر محتال من أن يقود ديننا ويتقاسم مع الحميراء تعليمنا لديننا.. ووعظنا.. وإرشادنا لاكتشاف روح النبي في صلاتنا وصيامنا ودعائنا وتراحمنا وعفونا وتسامحنا.. وبدون القيم الأخلاقية الوطنية والإنسانية لا فرق بين فورد وحبش وأي ذي لحية في احترام القيم الدينية الإسلامية أو في ترويضها وفي تقطيع أجسام الأنبياء وذاكرة الدين ومضغ لحم الفقه وفق المناخ البراغماتي أو الانتهازي.. ووفق متطلبات السوق السياسية وسنداتها.. وحسب تقلبات أسعار بورصة السياسة.
18:47
19:11
20:35
20:45
20:55
20:58
21:14
21:28
13:43
22:13
16:16
00:29
00:34
00:40
00:55
09:45
11:39
11:46
13:10
14:03
09:44
19:08
11:10
23:39
18:03
05:03
05:55
23:01
17:26
01:14
03:48
04:29
05:08
16:30
17:07
17:28
18:07
18:49
13:39
15:52