جهينة نيوز-خاص:هانيبال خليل:
مكث الاستعمار العثماني البغيض في بلادنا قرابة أربعمائة عام فعلت بنا فعلها اللاحضاري المقيت في كل لحظة من لحظات القرون الأربعة، حتى أن بعض المعمّرين ممّن شهدوا تلك اللحظات المريرة أو سمعوا عنها من آبائهم وأجدادهم، اعتبر أن كل لحظة عثمانية مرّت على البلاد كانت بمثابة سنة أثقلت كاهل العباد وأهلكت البلاد ورمتها قروناً إلى الوراء...قروناً لا استشعار فيها عن بُعد أو عن قرب بمستقبل آت يحفظ ماء وجه الأمة ويبث في عروقها دماء الحماسة والهمّة.
مناصب عصملّية:
ولعل أكثر ما يخلد في ذاكرة الناس إلى يومنا هذا قوة المناصب الإدارية التي كانت توزعها السلطات العثمانية على منفّذي إراداتها وحرس طاعتها، ثم البهرجة والفخامة التي كانت تحيط بتلك المناصب وشاغليها... وحتى هذه الساعة فإن الكثير من العائلات يفخر بكون أحد أجداده "قائم مقام" أو غيره من المهام والمناصب العثمانية، بل إن البعض لا زال يفخر بما أوكل إلى جده أو جد ابيه من مسؤوليات "عصملية" حتى ولو كان عضواً في "الجندرمة" أو مسؤولاً عن "الضنضرمة أو "القاورما" في مطابخ العثمانيين، أو رئيس "كراكون" أو حارساً برتبة "شاويش" وما إلى ذلك...وكل هؤلاء كان يحق لهم اختيار الطربوش المناسب المختلف عن طرابيش العامة، فما أن يعتمره صاحبه حتى يشعر بأنه قلنسوة السلطان على رأسه أو أن عُرف أكبر ديك هندي بات شريك ملامحه، وتضاف إلى ذلك الشعور الديكي المتغطرس حركة العينين اللتين يتحكم بهما الشنب المشرئب إلى أعلى بواسطة تفتيل الشاربين، فتبدوان مراقِبتيْن مؤنِّبتيْن مخيفتيْن للناظرين أنّى حلّوا وأنّى وطئت أقدامهم، هذا فضلاً عن الألقاب التي يحرص المذكور على سماعها من الجميع حتى ولو كانوا أهل بيته كـ"البيك" و"الأفندي" و"الباشا"...وما إلى ذلك من ألقاب لا زالت إلى الآن قيد الاستخدام.
ذهب العصملّيون وبقيت طرابيشهم!
وبالطبع فإن تغلغل نفسية العصملّي زمناً طويلاً في الكثير من النفوس أدّى إلى رسوخ عاداته واستمرارها إلى وقتنا الحاضر، ولكن أين نجد تلك النفسية والعادات؟!...أليس في إداراتنا الحديثة أكثر من أي مكان آخر؟!!!
المدير المستتر:
هو نوع من المديرين الذين أُعجبوا بصفات أحد الآلهة القدماء، حيث كان تُطلق على الإله "إل" –كبير الآلهة الكنعانيين- صفة (إل مستتر) أي الإله غير المرئي نظراً لقدره وجلاله وحجم مهامه "الماورائية" ورعايته للأخيلة، لا يظهر للبشر وإنما في مناسبات مجمع الآلهة مع من يختار هو حضورهم من الدرجات الأدنى، فيزوّدهم بالمهام والتعليمات ويعطيهم صلاحيات مباركة تحدّثت عنها الأساطير طويلاً...وعلى شاكلته يكون المدير المستتر، يأتي إلى مكتبه ويخرج منه كالرجل الخفي ولا أحد يعرف له مدخلاً إلى الوظيفة العمومية أو مخرجاً منها، وإذا علقت معاملة لديه فلا تخرج إلا باتّباع طقوس الأقدمين...وكم قدّم الأقدمون من قرابين وأضاحٍ على مذبح الآلهة وتحمّلوا سطوة الكهنة وتلبية احتياجاتهم وإلا فيغضب الإله فييْبَس الزرع وينقطع النسل والضرع، وهيهات أن يستجيب الإله القديم للعابد مباشرةً، تماماً كالمدير المستتر الذي لا يستجيب للمواطن ونداءاته وأسئلته إلا فيما ندر وعن طريق مكلّف محلّف يقبع في مكان أدنى (دنيوي حسب الأمثلة القديمة)، ولا يجيب ولا يستجيب ببساطة، فطربوش المدير المستتر يحمي رأسه أيضاً، وكذلك عُرف الديك الرئيسي، يفترس بحمرته ومتانته أية دجاجة، كما تحمي زعانف شنبه عباراته التي لا طعم لها ولا فائدة حيث تحوّل السائل إلى محروم والمحروم إلى مسكين، ولكن هل نستكين؟!
مدير هو أم مديرة؟
يخطر ببال بعض المراجعين على أبواب المؤسسات سؤال: أمديرٌ ذلك المستتر الخفيّ أم مديرة؟ فعدم الظهور على المواطنين وعدم السماح لهم برؤية هذا المجهول يدفع المراجعين للسؤال عن جنس المستتر، فيعتقد البعض أنه أنثى مستترة من زمن "الحرملك" لا تكشف عن وجهها ولا تحبّذ أن ترى وجوه الآخرين، كما لا تسمح لها "حرميتها" أن يسمع صوتها ذكر أو يمس ما مسّت يداها من ورق الإدارة، فلربما اشتمّ بقايا رائحة من راحة اليد ولربما حدث العكس بما يعني أن خلوة تخلّلها لمس غير مسموح به قد تمّت بما يخالف الشريعة، وبما يخالف المصلحة العامة ومقتضياتها، فالمصلحة العامة تقتضي أحياناً أن يسلّم المواطن معاملته الورقية بعد أن يلقي عليها نظرة الوداع الأخير ولا يسمع بعد عنها إلا ما تيسّر من الحاجب الدنيوي، وبالقدر الذي لا يخدش حياء "المستترة" أو يمس قداسة "المستتر".
هل لدينا هذه النماذج في إداراتنا؟
بالتأكيد! وخاصة في المبنى الخاص برئاسة مجلس الوزراء، فالتكتيك الإداري لهذا المبنى يقضي بأن يلتزم المراجعون بنافذة واحدة للسؤال عن معاملاتهم وقضاياهم، ولكن مع الأسف الشديد فهذه النافذة ليست واحدة بالمعنى الدقيق والمطلوب للنافذة الواحدة، وإنما يحتاج زائرها إلى عدة نوافذ ومنافذ قبل الوصول إليها، ومثلها بعد زيارتها...وهي أيضاً نافذة لمن لا نفوذ له، ولمن يعاني من نفاذ جعبته من أسهم التواصل مع الحكومة!...أما المكلّف خلف هذه النافذة، وبالرغم من محاولاته الصعبة للابتسام بوجه المراجعين، فهو على ما يبدو الموظف الوحيد في مجلس الوزراء الذي يتصرّف بموجب أن الحكومة هي حكومة حرب، وبالكاد ينطق كلمة وإذا نطقها فكأنما هي طلق ناري من بيت نار بلّلته الرطوبة.
وبناء على ذلك فكيف يقضي المواطن المراجع لمجلس الوزراء شؤونه، وهل الإجابة بالقطارة وبالإنابة أسلوب إداري ناجع في زمن النجاعة المعلنة يومياً؟ ثم -وختاماً- هل يعكس المكان مكانة من فيه دائماً؟!!
03:18
03:24
03:25
17:38
01:38
14:31
18:36
16:50
16:52
16:53
16:55
02:20