جهينة نيوز-خاص
القدس مدينة كنعانية يعود أقدم ذكر لها إلى القرن التاسع عشر ق.م وذلك في نصوص مصرية تسمى نصوص اللعنة، وقد ورد اسمها في تلك النصوص على شكل "روشاليموم"، وفي القرن الرابع عشر ق.م يرد اسم المدينة على شكل "أوروساليم"، وذلك في مراسلات العمارنة (1)، أما في حوليات العاهل الآشوري سنحريب (القرن السابع ق.م) فقد ظهرت المدينة باسم "أوروسليمّو" (2).
والاسم الأصلي للمدينة كنعاني وهو مركب من شطرين، الأول "يرو" والثاني "شلم" أي أساس أو مدينة شلم، وشلم إله كنعاني معروف في نصوص مدينة أوغاريت الكنعانية السورية كإله للخير والعطاء (3).
وتوخياً للدقة فإننا لا نرى أساساً لترجمة "يروشلم" إلى "مدينة السلام" –تلك التسمية الشائعة في المؤلفات العربية-.
ولمدينة القدس أهمية كبيرة في دراسة جوانب الحياة المدنية والدينية في المدينة الكنعانية ودحض الادعاءات اليهودية، ويثبت ذلك تاريخها ومعطياتها الحقيقية على الأرض وخاصة في الألف الأولى ق.م... وقد أقرّت منظمة "اليونسكو" حديثاً بعدم صحة الادعاءات اليهودية بخصوص الأقصى وعدم صحة ارتباط اليهود بفضائه الديني.
خرافة "المعبد" في القدس:
يدّعي الإسرائيليون انطلاقاً من روايات توراتية لا أساس لها على الأرض وجود معبد في القدس أطلقوا عليه اسم "هيكل سليمان –ملكهم المزعوم في القرن العاشر ق.م- ومن شأن المنهج التوراتي في الحديث عن هذا المعبد أن يقدم معلومات منقوصة ويقود إلى نتائج غير مرضية على بساط البحث الأثري والتاريخي المتعلق بالحضارة الكنعانية الفينيقية. حيث يرى بعض الباحثين التوراتيين -تحريفاً وتزويراً للمعلومات- أن المعبد الخرافة "إسهامٌ إسرائيليٌّ في عمارة الشرق القديم"...!...(4)... الأمر الذي تدحضه الدراسات بشدة، ونحن نحيل ادعاءات أولئك الباحثين إلى سياسة المدرسة التوراتية واليهودية العالمية المتلخصة في خلق وجود للكيان الاسرائيلي من خلال تحوير معطيات التوراة وتفسيرها -بما يتعلق بالمدن الكنعانية- بشكل يخالف المنهج العلمي ومنطق المعلومات والمكتشفات...
وتجدر الاشارة إلى أنه لا وجود لهذا المعبد على أرض الواقع ضمن التركة الأثرية في مدينة القدس، كما لا أثر له إلا في روايات التوراة، مما يجعله مجرد خرافة، ومع ذلك فتلك الروايات تصوّر المعبد كنموذج شرقي فينيقي خالص، ولا نبالغ إذا قلنا للمؤمنين بكتاب التوراة –واستناداً إلى معطياته نفسها- إنه لا يوجد أي رابط حضاري بين هذا المعبد-فيما لوكان موجوداً- وبين قبيلة "بني إسرائيل" المذكورة في التوراة، والحديث عنه ضمن كتاب اليهود الديني إنما يصوّر خيالاً توراتياً لكُتّاب الأسفار، وقد استند هذا الخيال إلى ثقافة كنعانية كانت سائدة ومعروفة في زمن كتابة الأسفار...فحاول بذلك أولئك الكُتّاب نسبَ معبدٍ بمواصفات كنعانية جيدة إلى أفراد قبيلة عبّرت عن نفسها في أكثر من مثال ضمن نصوص التوراة، على أنها لا تعرف السكن في بيوت لها شبابيك –على غرار بيوت الكنعانيين- كما أنها لم تعرف العربة كوسيلة نقل كان أهل المنطقة الأصليين يستخدمونها، ولا تعرف عبادة إلهها القومي "يهوه" في معابد كمعابد السوريين القدماء المبنية على أسس هندسية وفنية من الطين والحجر والخشب والمعدن ذلك أن "يهوه" –الإله الذي لا ذكر له في وثائق الشرق القديم- كان يُعبد في خيمة متنقلة حسب التوراة...
المعبد الخرافة في رواية التوراة:
يرد اسم المعبد في التوراة بصيغ ثلاث فقط هي: "بيت إِلـُهيم" (الآلهة)، و"بيت يهوه"، و"هيكل يهوه"... (5)...وكما نلاحظ، لا وجود في التوراة لتسمية "هيكل سليمان" الشائعة في المؤلفات الحديثة الأجنبية والعربية والمحلية بشكل مؤسف وبعيد عن الرقابة العلمية، وقد أُطلقت تلك التسمية على أساس أن المعبد بُني في عصر سليمان المزعوم وبإرادة منه...أما تسميتا "بيت يهوه" و"هيكل يهوه" فالغرض منهما إعلاء اسم "يهوه" ومكانته، ومحاولة معادلته بالآلهة الشرقيين الحقيقيين الذين كانوا يُعبدون في معابد.
واستناداً إلى روايات التوراة، بُني المعبد الخرافة على قمة جبل المريا المشرف على وادي قدرون شرقي مدينة القدس (6)، وحسب التوراة، فهو نفس الموضع الذي كان سيضحي فيه ابراهيم بابنه إسحق (7)، وهو أيضاً-حسب أحد الباحثين- نفس الموضع الذي أُقيم عليه مسجد قبة الصخرة لاحقاً (8)، الأمر الذي استثمرته اليهودية العالمية في الادعاءات الخاصة بوجود ما سمي "هيكل سليمان" هناك، وما أقرّت منظمة "اليونسكو" حديثاً بعدم صحته وعدم صحة ارتباط اليهود بفضاء المسجد الأقصى.
وقد اقتُبست معلومات بناء المعبد في الرواية التوراتية من ثقافة بناء المعابد الكنعانية وعلى سبيل المثال محراب المعبد المذكور في سِفر الملوك مقتبسٌ من محاريب المعابد الكنعانية العائدة إلى عصر البرونز الوسيط والمتأخر مثل معابد مجدّو وحاصور في فلسطين. (9)
ويشير سفر الملوك إلى أن المعبد بني بحجارة صحيحة ضخمة سُويت استناداً إلى مقياس، ودُعمت أحياناً بالخشب...وهذه الطريقة مقتبسة من طرق بناء المعابد الكنعانية كمعبد حاصور، وذلك في فترات بعيدة وسابقة لكتابة التوراة. (10)
وقد جاء في سفر الملوك أنه استُخدمت لأغراض التزيين الأخشاب والمعادن، فخشب الأرز الذي بنيت به جدران المعبد الداخلية كان منقوراً على أشكال عدة منها الزهور والنخيل والكواريب [ ومفردها كروب، وهي تمثل مخلوقات بأجنحة، ملامحها غير بشرية]، وقد نُقش مصراعا باب المحراب بالكواريب إضافة إلى أشكال النخيل والزهور، وكذلك قوائم مدخل الهيكل، نُقشت بالكواريب حسب سفر الملوك.(11)
ويجدر بالذكر أن "الكروب" فكرة كنعانية فينيقية، ومن الأمثلة عليها عرش الإلهة عشترت في مدينة "صور" الذي ظهر محاطاً بالعنقاء، وهو كائن خرافي نصفه أسد ونصفه الثاني نسر، وكذلك شوهد نقش مشابه على تابوت "أحيرم" الحجري في "صور" يصوّر المتوفى جالساً على عرش، وهناك قطعة عاجية من مدينة مجدو الكنعانية تعود إلى نهاية عصر البرونز تصور إلهاً على عرش أُحيط بجناحيْ مخلوق خرافي، الأمر الذي كان مألوفاً لدى الكنعانيين الفينيقيين (12)، مما يؤكد اقتباس كاتب سفر الملوك بعد مئات السنين لمعلومات تخص الثقافة الكنعانية الفينيقية، وقيامه- كسائر كُتّاب التوراة- بنسج أخبار وأحداث تستند إلى معطيات التراث الكنعاني.
وبالنسبة إلى الأشغال المعدنية التابعة للمعبد الخرافة، فقد تطلّب إنجازها –حسب سفر الملوك- استدعاء أحد الخبراء الفينيقيين من مدينة صور، وهو حيرم ابن النحاس الصوري (13)، الذي يرى سفر أخبار الأيام الثاني أنه أشرف على كل أعمال البناء في المعبد سيما وأنه "مختص بتصنيع الخشب والحجارة والأرجوان والاسمنجوني والكتان والقرمز، وخبير في النقش واختراع كل اختراع، وذلك بالاضافة إلى مهارته في تصنيع الذهب والفضة والحديد والنحاس..."(14)
ويشير سفر الملوك إلى أن الخبير الصوري صمم عمودين مجوّفين من النحاس(15)، وعلى كل عمود جعل تاجاً من نحاس مسبوك اتخذ شكل زهرة زنبق(16)، وحسب سفريْ الملوك والأخبار فقد وُضع هذان العمودان في الرواق، وسُمي الأيمن منهما "يكين" والأيسر "بعز"(17).
ويرى الباحثون أن إعطاء كل من العمودين اسماً، هو أمرٌ ذو دلالة رمزية، ويعيد إلى الأذهان فكرة الأنصاب التذكارية في العالم الكنعاني، كما أن العمودين ينتميان إلى تقاليد سابقة للرواية التوراتية لوحظت في فضاءات العبادة في المنطقة من العصر الكالكوليتي إلى الحقبة اليونانية الرومانية(18)...
وهكذا نلاحظ أن أساليب البناء المذكورة في سفريْ الملوك والأخبار-بدءاً من الحجارة الضخمة المنحوتة والأخشاب المهيأة للبناء، وانتهاءً بتزيين المعبد وفق فنيات فينيقية- تعكس النموذج الكنعاني الفينيقي.
هذا بالنسبة إلى المعبد، فماذا عن المعبود والعابد؟ حيث تصوّر التوراة المعبد الخرافة بعد التدشين كفضاء لعبادة الآلهة الكنعانيين الفينيقيين مثل أشرة وبعل وتموز(أدونيس)، الذين سجّلوا –حسب التوراة- حضوراً كبيراً في المعبد(19)، مما ينسف علاقة بني "إسرائيل" وإلههم "يهوه" بالمعبد فيما لو صدقت الروايات الخاصة به.
خاتمة:
لا يمكن التثبُّت من معلومات التوراة على أرض الواقع، سيما وأنه لا أثر للمعبد على الأرض، ومع ذلك فعلاقته الأسطورية إنما تبدو مع الكنعانيين استناداً إلى ثقافتهم في بناء المعابد، وهو إن كان حقيقياً فهو كنعاني كما ظهر لنا، وقد استُغلّت الروايات الخاصة به من قبل كُتّاب التوراة لإعطاء تعليمات دينية وتحذير أتباع "يهوه" من التخلي عن عبادته...وبالتالي فإن حديث التوراتيين حالياً عن ذريعة باسم المعبد في القدس، هو حديث غير علمي وغير منطقي، وتنقضه روايات التوراة نفسها، ولو أن المؤرخين يتبنون معلومات التوراة وبعض المؤرخين الكلاسيكيين بخصوص دمار المعبد سنة 587 ق.م بأوامر من "نبوخذ نصر" البابلي، ثم إعادة بنائه عام 537ق.م بإذن من الملك الفارسي "قورش"، ثم دماره النهائي سنة 70م على يد الرومان بقيادة طيطس (20)...إلا أن المدد الأثري في المنطقة لم يثبت شيئاً عن الموضوع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي
***
(1): مراسلات العمارنة رُقُمٌ من الطين المفخور، سُطرت بالخط المسماري -باللغة الأكادية- وهي مراسلات بين ملوك الشرق القديم ومصر خلال عهديْ كل من أمنحوتب الثالث وابنه أمنحوتب الرابع (أخناتون) في القرن الرابع عشر ق.م، ويقع تل العمارنة على الضفة الشرقية لنهر النيل –محافظة المنيا...وقد تم الاكتشاف سنة 1887م، وعُرضت تلك الرسائل التي اكتشف منها حوالي 377 رقيماً، في متاحف القاهرة وبرلين ولندن وباريس...وتشف تلك الرسائل عن تنافس بين الممالك الكنعانية...أنظر:
-Mercer.S.A.B: The Tell-el-Amarna Tablets, vol1, Toronto 1939. - Moran.W.L: Les Lettres d,ElAmarna, correspondence diplomatique du Pharaon. Litteratures anciennes du Proche-Orient. Le Cerf.Paris 1987. وأيضاً: عبد الحميد محمود: دراسات في تاريخ مصر الفرعونية، دمشق 1996
(2): - Luckenbill.D.D: Ancient Records of Assyria and Babylonia, 2vols. Chicago, 1926-1927(ARAB 2:239-240)
(3): شيفمان.إش: ثقافة أوغاريت، ترجمة حسان ميخائيل إسحق، دمشق 1988، ص76، 78
(4): -Ahlstrom.G.W: Royal Administration and National Religion in Ancient Palestine, Leiden 1982, p.36
(5) : أخبار الأيام الأول2:22 ، أخبار الأيام الأول18:36، ملوك أول1:9، صموئيل الأول9:1 – 3:3
(6): أخبار الأيام الثاني1:3
(7): خوري جورج، قاموس الكتاب المقدس، القاهرة 1994،ص 859
(8):-Schure. Edouard: sanctuaries d,orient, Paris 1898 p.394
(9): -Wright.G.R.H: Ancent Building in south Syria and Palestine . vol 1. Leiden 1985 p.256
(10): Wright.p.264-265 وأيضاً:
-Albright.w: the Archaeology of Palestine, London 1949, p.125 (11): ملوك أول29:6
(12): Wright. P.268
(13): ملوك أول7: 13-15
وأيضاً: فنطر محمد حسين: الفينيقيون بناة المتوسط، ط1، تونس 1998 ص51-52
(14): أخبار الأيام الثاني: الاصحاح2
(15): ملوك أول15:7
(16): ملوك أول18:7
(17): ملوك أول21:7
(18): Wright, p.263
(19): حول هذا الموضوع أنظر خلايلي ابراهيم: دراسة بعنوان: "أشره الالهة الأوغاريتية التي أُقصيت من أرض كنعان" ودراسة بعنوان: "أدونيس- تموز" في مجلة مهد الحضارات، العدد 1-2006 المديرية العامة للآثار والمتاحف.
(20): أنظر على التتالي: الملوك الثاني9،8:25، عزرا 13:5، صايغ أنيس: قاموس الكتاب المقدس ص1014-1015، وأيضاً:
Oates.Joan: Babylon, in "Ancient Peoples and Places" Ed. Glyn Daniel.vol 94, London 1988, p.128
المصدر : جهينة نيوز
18:08
18:18
21:10
03:01
02:41
03:11
23:50
00:54
00:55
02:19
04:13
11:41
16:31
16:57
02:23
02:29
10:10
10:11
02:12
03:24