المعرفة والخليّة البكر بقلم : فاتح كلثوم

الجمعة, 16 كانون الأول 2016 الساعة 06:15 | مواقف واراء, زوايا

المعرفة والخليّة البكر    بقلم : فاتح كلثوم

جهينة نيوز- خاص:

الفن، وإن اختلفت أنساقه، لن يستطيع مغادرة الحيز الجمالي المنوط بهذه المعرفة التي سبقت جميع المنتجات المعرفية الإنسانية هذا إن لم نقل إن الفن هو الخليّة البكر لكلّ ما توصلت إليه المسيرة الحضارية من اكتشافات واختراعات علمية، إضافة إلى كلّ ما يخصّ نظريات العلوم الإنسانية، بفارق أنّ السابق لا نستطيع معاينته بالنشاط اليومي المعتاد، بينما اللاحق نعيش مع تفاصيله اليومية بالشكل الأمثل، سواءً أخذنا بيقينية تلك التفاصيل في عملية الاستقرار، الاستمرار، الاستنهاض، أو اختلفنا مع البعض منها لما تمليه آنيتها على الفرد والمجتمع من أعباء قسريّة وملزمة على التعايش معها، مهما كان موقفه منها، وأيضاً عند خلوها من النزعة الجمالية المتأصلة في النفس البشرية والمنتجة أبداً للفن، وهذا ما يجعل المعادلة متكافئة بتناقضاتها بين دور الفن الجمالي والاستباقي، وبين المنجز المادي اللاحق والمتوفر في تفاصيل كلّ عصر. بالمقابل فإن وفرة اللاحق وواقعيته هي من تجعل اليقينية بعدم جدوى الفن ولزومه أمراً واقعاً، وخاصة في زمن التحوّلات الكبرى الّتي تعصف سلباً بالمجتمعات الأقل تقدماً، وتبعد عنه الحاجة الجمالية كمحفّز لتطوره، بينما المعني بتلك التحوّلات وتحفيزها وتعميمها يتابع البحث عن أنساق جديدة للفن، وتطوير الكلاسيكي منها، مع توفير التحفيز للمبدعين والنقاد والباحثين بين خفايا الأعمال الفنية عن سبل لمتابعة تطوير علم الجمال بصفته المشكلة لحالة جدل في الماضي والحاضر والمستقبل الإنساني، وبصفته علماً استباقياً أيضاً يدلّ على طموح أيّ أمّة ومدى تقدمها، فقد أحرز علم الجمال اعتماداً على الأعمال الفنية أوج تطوره في العالم القديم في الفترة الواقعة بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد، أي في الفترة الذهبية لتاريخ الإغريق، حيث ظهرت ملاحم "هوميروس وهيسيودوس" الشعرية والقصائد العاطفية، وازدهرت الدراما والسيْر التاريخية، وفن الخطابة، وفن العمارة والنحت، وفي هذه الفترة أيضاً وصلت الأفكار الفلسفية إلى ذروتها على يد المدارس الإغريقية، حيث نجد الفن ضمن الإطار الإنساني، الممجّد للقوة الجمالية والشجاعة، ما دفع فلاسفة عصر النهضة الأوروبية إلى إعادة الاستفادة من تلك الأفكار وصياغتها بما يلائم الحاضر والمستقبل لمقاومة الاستعباد والقهر الاجتماعي الّلذين كانا سائدين في المجتمع الأوروبي حينها ،كما نحن الآن، بفارق أنهم اعتبروه الخطوة الأهم لصناعة مستقبل أفضل، بينما في مجتمعاتنا لايزال الفن وأنساقه المعرفية يعدّ فائضاً عن الحاجة، هذا إن لم نقل إنه جزءٌ من المحرّمات الواجب محاربتها.

وبالعودة إلى البدايات فإن "هوميروس" رأى بالرائع كل ما هو متناسق ويفهمه الإنسان، أما "فيثاغورث" فقد ناضل بشدة ضد وجهات النظر الدينية الخرافية، ووضع بدلاً منها علماً جمالياً يعتمد على التطور العلمي من خلال الأرقام التي تحدّد حسب وجهة نظره الجوهر الجمالي للأشياء، وقد أخذت هذه النظرية أتباعه إلى البحث عن الأضداد وتناسقها من خلال الأرقام، وهذا التناسق استعمله الفيثاغورثيون في الموسيقا، فهم أول من أتى بفكرة أن شدّة الصوت تتوقف على طول الأوتار المهتزة، وهي الرؤية التي تمّت الاستفادة منها لاحقاً في العديد من الاكتشافات العلمية التي ننعم بها الآن، كذلك فإن الرؤية الجمالية المعتمدة على التناسق والتضاد، وعند تبيّنها في علم الجمال ضمن الأعداد العشرية، أتت بثمار دراسة علم الفلك بعيداً عن الإرهاصات الدينية، كذلك كانت البداية الجنينية لعلوم الهندسة اللاحقة، والتي ساهمت ومازالت تساهم في السير بالبشرية إلى أعلى مستويات المعرفة واستغلالها من أجل متابعة البحث عن الرفاه والانسجام مع المحيط الطبيعي وتطويعه لمصلحة الإنسان، فحتى اليوم لايزال الفن سبّاقاً في تبنيه للأفكار وإظهارها ضمن الرؤية الّتي تمجّد الجمال على اختلاف أنساقه المعرفية.


اقرأ المزيد...
أضف تعليق

تصنيفات الأخبار الرئيسية

  1. سياسة
  2. شؤون محلية
  3. مواقف واراء
  4. رياضة
  5. ثقافة وفن
  6. اقتصاد
  7. مجتمع
  8. منوعات
  9. تقارير خاصة
  10. كواليس
  11. اخبار الصحف
  12. منبر جهينة
  13. تكنولوجيا