جهينة-أحمد علي هلال
مثّل (التفجّر المعرفي) وثورة الرقميات وفورة (السوشيل ميديا) تحديّات شتى لا سيما في العوالم الافتراضية الزرقاء، والتي أتاحت بروز مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة التي سمحت بدورها لذلك القول الملتبس (العالم قرية واحدة) بأن يخترق منظوماتنا الاجتماعية والعقدية، ويفرض أشكالاً من التفكير والسلوك المجتمعي الذي يبدو في حالة اتصال وانفصال عن الواقع وبدرجات متفاوتة، إلى الحد الذي قيل فيه إن الافتراضي أصبح هو الافتراضي بامتياز، في مقابل أن الواقعي أصبح افتراضياً أيضاً، ما ترك ارتدادات وتباينات في السلوك المجتمعي أفقياً وعمودياً تجلى في ما يسمى (خطابات التواصل)، وكيف فرضت نماذجها في الوعي المجتمعي سلباً وإيجاباً.
إننا أمام معطيات ذلك (التفجّر المعرفي) بارتداداته التي أثقلت وعي الناس وقادت في أحايين شتى إلى مظاهر من الاغتراب المجتمعي، فأصبح البعض يتندرُ في حال انقطاع الكهرباء مثلاً، أو بطء الإنترنت لئن يكتشف أن لديه أسرةً جميلةً وعائلةً محبةً وأصدقاء رائعين وهكذا.. وهل يا تُرى بتنا نحِنُّ إلى زمن جميل لم تقتحم أسراره (التقنيات)، التي قادت إلى تبلّد المشاعر وتجفيف الأحاسيس، وتفشّي أنواع من السلوك الاجتماعي الغريبة والعجيبة وغير المألوفة، ومنها ما انعكس على الكتاب بوصفه كائناً لغوياً بتنا نتحسّر عليه، في مقابل ما يقال عنه الكتاب الإلكتروني، الذي بدا من السهولة تحميله، لكن الصعوبة فيما يبدو للبعض بقراءته كلمةً كلمةً، والجلَد المضني في إتمامه على الشاشة المحايدة الساكنة.. ولا يمكن لنا والحال هذه أن نقف موقفاً مطلقاً من معطيات الحداثة في شكلها الإيجابي، لكن اللافت هنا أن الأشكال السلبية ومظاهرها في سلوك الناس بدت على ذلك النحو المثير من التباين الفادح والتشظي الذي يكاد يعصف بأنساق مجتمعية مستقرة في الوعي وبذرائع مختلفة ومنها أننا جزء من هذا العالم ولا يمكن أن نكون فيه على الحياد، لكن مَنْ يضع قواعد اللعبة؟
إشكالية قديمة جديدة
(جهينة) حملت أسئلتها لتقارب إشكاليةً تبدو قديمة جديدة إلى شرائح مختلفة ومنها من كان صاحب اختصاص، فما هي حقيقة التواصل الاجتماعي وما معاييره؟، ومن ثم ما تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في حياتنا الثقافية بوصفها حاملةَ ثقافة بعينها، أو على الأرجح أنها حاملة ثقافات يجري استدخالها في الوعي وتخصيبها في السلوك المجتمعي؟ وقد أُثير الكثير من الجدل حول موقع (فيسبوك) على مدار الأعوام الماضية، وتم حظر استخدام هذا الموقع في العديد من الدول خلال فترات متفاوتة، كما حُظر استخدامه في العديد من جهات العمل خشية إهدار الموظفين وقتهم في تعاملهم مع هذه الخدمة.. علماً أن موقع (فيسبوك) أسّسه مارك زوكربيرغ بالاشتراك مع زميلين له تخصّصا في دراسة علوم الحاسب، ويشير اسم الموقع إلى دليل الصور الذي تقدمه الكليات والمدارس التمهيدية في الولايات المتحدة الأميركية إلى أعضاء هيئة التدريس والطلبة الجدد، والذي يتضمن وصفاً لأعضاء الحرم الجامعي كوسيلة للتعرف إليهم، وبفعل الانتشار الكثيف لهذه المواقع واستثمارها كل الأحداث الجارية في العالم العربي والعالم ككل كانت هناك ثمة انتقادات ومخاوف بشأن الخصوصية، إذ إن هذه المواقع لم تظهر بسبب الحاجة المجتمعية أو استجابة لدراسة مشكلات اجتماعية عانى منها المجتمع العربي، كما لم يظهر علم الاجتماع بسبب ذلك كما يقول د. أديب عقيل أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق.
انزياحات في السلوك المجتمعي
يقول الدكتور فندي الدعبل، وهو طبيب وباحث ومتذوّق للأجناس الأدبية: إن التطور هو السمة المرافقة للإنسان منذ نشأته الأولى حتى الآن، فلقد تطورت كل العلوم وسُخرت لمنفعة الإنسان وتحقيق رفاهيته في العقدين المنصرمين، وحدث التطور العلمي الهائل الذي تمثّل بالثورة الرقمية المرعبة ودخول الإنسان مرحلة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما (فيسبوك)، الذي استطاع الإنسان من خلاله الاطلاع على ثقافات الشعوب وتراثها وآدابها وعلومها، كما ساهم (فيسبوك) في التعرف إلى أشخاص لم نعرفهم من قبل والتواصل وإقامة علاقات مختلفة معهم، وهنا يذهب د. فندي إلى تحديد معيار أخلاقي لمن أقام علاقةً نفعيةً مع (فيسبوك) بسبيل زيادة العلم والمعرفة، وهو أمر أصبح متفقاّ عليه، لكن بالمقابل يشير د. فندي إلى أن (فيسبوك) سلاح خطر حتى عند الذين يعتقدون أنهم يستعملونه بشكل جيد ومفيد، ويعلّل ذلك بأنه قد يتم نشر المعلومات والأسرار الشخصية أو الأسرية التي تؤدي إلى حدوث شرخ اجتماعي معيّن، لافتاً إلى أن بعض الدراسات أظهرت أن الاستعمال الطويل لـ(فيسبوك) يؤدي إلى ظهور أمراض نفسية كالاكتئاب والعزلة وعدم تطور المواهب الشخصية بسبب الخمول والكسل.
وأضاف فندي: لقد وقفتُ عند نتيجة حاسمة هي أن العالم الافتراضي استطاع أن يؤثر في جملة من العلاقات الاجتماعية بين الناس بسبب سهولة استعماله وتكلفته الاقتصادية القليلة، بمعنى آخر إن عالم (الفيس) ساهم بتفكيك أواصر الأسرة، وأفقدها الحميمية والدفء والتشاركية الاجتماعية إلى حد كبير، ما يعني في المحصلة طغيان ما يسمى (الافتراضي) على الواقعي من خلال جملة من الإبدالات السلوكية التي غيّرت في المواضعات الاجتماعية والتراتبية المجتمعية، أي إنها قلصّت المعنى الاجتماعي في لغة التواصل الاجتماعي بفعل عوامل ساعدت عليها التقنية وأخرى جاءت من استعدادات (تربوية) هيأت المناخات ليكون فيها السلبي طاغياً على حساب قيم مجتمعية ربما ساهم في هدرها وكيّ الوعي بها.
التواصل الاجتماعي بديلاً عن الواقعي
ومع القاصّة والأديبة سوزان الصعبي نذهب إلى أبعاد أخرى في السؤال الإشكالي، الذي يبدو بسيطاً لمن يمر به عابراً، حيث تقول الأديبة سوزان: كثيراً ما أصبح الواقعي افتراضياً، والافتراضي واقعياً، فنحن نعيش في مجتمعات متأزمة نتيجة الظروف السياسية المعقّدة، والتي سلبت الإنسان العربي حياته ومستقبل أولاده.. حروبٌ ضارية أعادتنا إلى الوراء عقوداً طويلة، وقضت على العلاقات الاجتماعية التي كانت بين الأقارب والجيران والأصدقاء الذين كثيراً ما تباعدوا بالمكان والأفكار والأهواء، بل تشتّت قلوبهم، كل ذلك بفعل الحروب، وبالتالي لجأ الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي كبديل عن التواصل الواقعي، وهكذا عوّضوا الفراغ الذي حصل، وصرنا نجالس الآخرين عبر شاشة صغيرة، وإن كانوا في أقاصي الأرض، وكثيراً ما أهملنا آخرين يشاركوننا المكان ذاته، بل كثيراً ما تجد الناس يجلسون بالوضعية ذاتها في البيوت والشوارع ووسائل المواصلات، رؤوسهم منخفضة وعيونهم لا ترتفع عن تلك الشاشة وأصابعهم لا تتوقف عن الكبس على الأزرار، بل يمكن القول: إن الحروب ساهمت بتقليص نشاطات الناس، وزادت الأجهزة الإلكترونية الطين بلّة، فاستبدلوا الذهاب إلى المراكز الثقافية ودُور السينما والمكتبات بالحصول السريع على ما يريدون بكبسة زر، وفقدوا بالتالي سحر الحضور الجمالي للفعاليات وحرارة اللقاء والنقاش المباشر، مضيفةً: أنا كإعلامية أرى أن المجال أصبح خصباً لانطلاق أقلام الشعراء والكتّاب لتبدع وتحاور، وأخرى تبحث عن الشهرة فحسب، ما أدى إلى تنافسية عالية بين الأقلام، وهي ظاهرة إيجابية إن قامت على احترام الآخر، كاشفةً أنها ترى أن المشهد الثقافي بطبيعة الحال هو مأزوم يعاني من قلّة الخبرة والثقافة والتعاضد، والأضواء الساطعة التي قد تُسلط على أحدهم على مواقع التواصل لا تعني بالضرورة أنه مبدع، فمن حق الجميع أن يكتب وينشر وينجح، لكن من حق القلم والجمهور والتاريخ عليه أن يكتب ما يُستحق القراءة.
هشاشة التواصل الاجتماعي
المسرحي والشاعر سامر منصور يذهب إلى أصل المشكلات الاجتماعية وحواملها المتعددة، بالقول: إن هذه الأمور تكون أكثر انتشاراً فيما يسمى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يأخذ التواصل في ظاهره شكلاً كثيفاً ومستمراً، ولكنه في جوهره يبقى هشاً، ولهذا الانتشار أثره على المشهد الثقافي والإبداعي، إذ يتجلى في شقّه الإيجابي بكونه يساهم في كسر طوق (الشللية) التي يعاني منها الوسط الثقافي أمام الراغبين بنشر إبداعهم من الكتّاب الشباب، ويخفف – هذا العالم الافتراضي- من الهيمنة والنزعة الوصائية على العملية الإبداعية التي يمارسها بعض من ينتمون إلى الجيل الأكبر سناً من الذين يقبعون في مفاصل القرار المؤسساتي المعني بالحراك الثقافي، مضيفاً: لقد ساهم (فيسبوك) في انتشار الملتقيات والمنتديات الثقافية والإبداعية، وتعريف المجتمع أكثر بمبدعيه وتوفير عناء الوصول إلى مكان محدد في زمان محدد للحضور، أو المساهمة في ندوة ثقافية. ويختم منصور بالقول: مع الأسف ثمة جيل من الكتّاب الشباب لا يمتلكون مسودات ولا القدرة على التمييز بين ما يجب أن يكون مسودةً وما يستحق النشر بين الناس، ذلك أنهم لا يستخدمون الأقلام وتغرّيهم سهولة النشر والوصول إلى الآخرين عبر ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعي.. وكل ذلك ينعكس سلباً على التجربة الإبداعية للكاتب، ويحدّ من الوعي بمناحي هذه العملية الإبداعية، وبالتالي يؤخّر التجاوز إلى ما هو أرقى وأبلغ.
خلاصة تركيبية
مع ذلك وبصرف النظر عن استحقاقات مواقع التواصل الاجتماعي بتجلياتها المجتمعية والأخلاقية وصولاً إلى التجليات الثقافية والتباس معاييرها، لعلّنا نجد في الحرب على سورية، أي في ذلك الاستخدام السيئ والمغرض لكثير منها، أحد وجوه هذه المسألة، وليس السؤال في محض استخدامها، بل في كيفيات ذلك الاستخدام الذي أصبح تربةً خصبةً لحرب من نوع آخر، حرب تسجّل بالنقاط الافتراضية لتظهر تجلياتها في الواقع وفي الوعي، إذ لم يعد العالم افتراضياً بما يكفي أن يكون مجرّداً من المواقف والغايات واستراتيجيات اللعب بالعقول والاستهتار بالقيم المجتمعية المستقرّة في الوعي الجمعي، وبالمقابل نجد أن استثمار تلك الفضاءات كان فرصة لدى بعض المثقفين لإحياء تقاليد تعيد للكلمة ألقها وللموقف نصوعه وبيانه، لا سيما فيما يتصل بالحرب على سورية وتوظيف الأدوات والمناهج في ذلك.
وأخيراً.. تبقى هذه الإشكالية مفتوحةً ولا يمكن نفي أحد طرفيها، فيما يبدو أننا سنعلّق الآمال على الأجيال الجديدة التي أدركت أن التكنولوجيا هي في خدمة القيم فحسب.
نقلا عن مجلة جهينة