جهينة نيوز:
ليس واضحاً على نحو جلي بعدُ إن كان ما أصاب الصين من فيروس كورونا شيئاً مقصوداً وبفعل فاعل أم لا . لستُ من أنصار نظرية المؤامرة، ولو أن توقيت ما حدث يدعو للتفكير والتأمل في الأسباب والخلفيات.
هناك اتجاهان في النظر الى ما جرى في أزمة فيروس كورونا، وكلاهما يشير الى ثقافة صراعية:
الإتجاه الأول يذهب الى أن انتشار الفيروس تم بتدبيرٍ أميركي بهدف إضعاف الصين، بعدما صارت لاعباً عالمياً ينافس الولايات المتحدة في كل مجال تقريباً، ويوشك أن تصبح الصين الإقتصاد الأول في العالم إذا ما استمرت في وتيرة النمو نفسها. ولقد تداول أنصار هذا الإتجاه أخباراً (غير مؤكدة بعد) عن وجود مواد جرثومية في فناء القنصلية الأميركية في مدينة ووهان الصينية. ويستعيدون قصة فيلم Contagion الذي عُرض عام 2011 ويحكي عن فيروس قاتل سريع الإنتشار منشؤه الخفافيش، تحمله امرأة من هونغ كونغ التي تتبع للسيادة الصينية وينتشر على نطاق عالمي. وتشبه ملامح هذه القصة بعض التفاصيل التي أحاطت بملابسات انتشار فيروس كورونا، حيث قيل إن الخفافيش التي يأكلها الصينيون وسكان بلدان أخرى في آسيا هي سبب محتمل للفيروس. والآن يقال في الصين إن حيوان البنغول الذي يأكل النمل قد يكون الناقل الأكثر احتمالاً للفيروس. وأياً كان السبب، فإن بعض قصص الخيال العلمي والمؤمرات التي تجد طريقاً لها الى السينما، غير بعيدة عن الواقع. وبعضها تحققَ بشكل غريب.
وثمة تقارير نُشرت سابقاً عن قيام الولايات المتحدة باختبار فيروسات تستهدف عنصراً عِرقياً معيناً، وظهرت مثل هذه التقارير في وكالة سبوتنيك الروسية العام الماضي.
الإتجاه الثاني في تفسير ما جرى يميل الى نفي نظرية المؤامرة الاميركية، ويقول إن أسباب الفيروس ترجع أساساً الى نمط غذاء الصينيين الذي يتضمن تشكيلة واسعة من الحيوانات البرية. وهذه الفرضية لا تأخذ في الإعتبار أن الصينيين وشعوباً أخرى تتناول هذه الكائنات الحيوانية منذ قديم الأزمان، وبالتالي فإن فرضية ارتباط ظهور فيروس كورونا بتناولها تستلزم الإستنتاج بأن المرض كان ينبغي أن يظهر في أزمنة سابقة.
مَن المستفيد؟
لكن بمعزل عن هذا الإتجاه أو ذاك حيث نتحدث عن فرضيات وإشاعات يصعب التحقق منها، فإن ما هو مؤكَّد أن تحول فيروس كورونا الى وباء يتركز في الصين ويضرب الكثير من أوجه النشاط الإقتصادي فيها يقودنا الى التوقف ملياً عند المستفيد من ذلك. نعرف على الأقل أن الولايات المتحدة تعيش قلقاً محموماً بشأن استمرار نمو إقتصاد الصين، وحاولت على مدى سنوات طويلة الحد من هذا النمو من خلال ضغوط سياسية من أجل إجبار بكين على القيام بخطوات مثل رفع قيمة عملتها الوطنية “اليوان” بسبب تأثير انخفاضها إيجاباً على صادرات الصين في مقابل المنتجات الأميركية وغيرها. وجاءت إدارة ترامب بخطوات أكثر خشونة ومباشرة مثل فرض رسوم جمركية على صادرات صينية لكبح مزاياها التنافسية مع المنتجات الأميركية، كما زرعت عوائق وهواجس أمنية أمام شركة هواتف هواوي الصينية التي تطور شبكة الجيل الخامس من الإتصالات الخلوية.
تخشى مراكز النخب الأميركية أيضاً فقدان أميركا موقعها القيادي العالمي من خلال النمو المتسارع للصين والذي ينتشر جغرافياً من آسيا الى أفريقيا مروراً بأوروبا من خلال “مشروع الحزام والطريق” لتكوين أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، بينما تكبل واشنطن نفسها بسياسات إكراهية بحق العديد من الدول، مما يجعل الصين قوة ناعمة بنّاءة في مقابل صورة خشنة وهدّامة لواشنطن.
في مقابل هذا التعملق الصيني الناعم، يأتي انتشار فيروس كورونا في توقيت مثير للملاحظة ليفرض طوقاً حول الصين: حول السفر اليها، حول الإستيراد منها، حول الإستثمار فيها، وكل ما يمكن أن يشكل جزءاً من النشاط الإقتصادي المتبادل مع الخارج، وصولاً الى القيود على الحركة والإستهلاك الداخلي المحرِّك للإقتصاد. ومن شأن ذلك أن يضر بإقتصاد الصين.
“شيطنة” الصين من منظور فيروسيّ
ولقد غذّت الادارة الأميركية موجة ذعر حول الصين، من خلال منعها دخول الأجانب الذين كانوا في الصين إليها، وهو ما أثار حفيظة بكين. وبات كل صيني أو كل ما يأتي من الصين من بشر أو سلع حاملاً للفيروس أو مرادفاً له، كأن المطلوب عزل الصين دولياً لحماية بقية العالم! وبينما كانت الصين مشغولة بمكافحة كورونا وعزل المناطق المصابة به، كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يصرح في لندن نهاية الشهر الماضي بأن الصين “اقتصاد هائل يرتبط به الإقتصاد الأميركي بشكل وثيق، وهذه فرصة هائلة لنا للعمل معاً”، لكنه اعتبر أن النظام الشيوعي الصيني لديه أهداف لا تتوافق مع القيم الغربية، معلناً أنه يجب على الحلفاء الغربيين “ضمان أن تحكم القرنَ المقبل هذه المبادئُ الديمقراطية الغربية”. وهكذا، تمنح الإدارة الأميركية الصراع مع الصين بُعداً أيديولوجياً وليس إقتصادياً فحسب، ما يفتح الباب أمام تغذية نظرية “المؤامرة” الاميركية بشأن كورونا أو غيره. فهل كان الفيروس أداة في الترسانة الأميركية لإضعاف الصين وتحديد مكامن قوتها ؟! لا نعلم، لكن انتشاره يمثل على الأقل فرصة للحد من نمو الصين ولتعزيز الصادرات الاميركية على حساب الصادرات الصينية.
الغريب في هذا الجدل كله، أن بعض المسلمين تطوعوا لخدمة مخطط محاصرة الصين وشيطنتها، من خلال نشر معطيات على شبكة الإنترنت تركز على نمط الغذاء الصيني كسببٍ لانتشار المرض وتُبرز سلبيات أخرى للتعامل التجاري مع الصين إنطلاقاً من فوارق حضارية، وصولاً للقول مثلاً إن بعض المسابح التي تصنَّع في الصين لغاية الإستخدام من قبل المصلّين المسلمين مأخوذة من عظام الخنزير! وكل ذلك يسهم في صنع جدار نفسي في التعامل بين العالم الإسلامي وهذا البلد. وقبل ذلك، تم توظيف موضوع “اضطهاد” مسلمي شينجيانغ لإيجاد هوة بين العالم الإسلامي والصين. ولعبت الإدارة الاميركية دوراً في هذا المجال.
بين “كورونا” و”حرب الأفيون”
ويبقى أن كل التفسيرات حول ما جرى تخضع للنقاش بمقدار ما تلتزم بمعايير الحقائق المثبتة وتقف على أبعاد السياسات الإستراتيجية للدول الكبرى والأدوات التي تستخدمها في الصراعات الجارية. ولا بأس أن نتذكر ونأخذ في الإعتبار أن الدول الإستعمارية لا تتورع أحياناً عن اللجوء الى أساليب غير تقليدية لتحقيق أغراضها. ومن ذلك ما جرى في ما دُعي “حرب الأفيون” عام 1839 والتي قامت بين الصين أيام سلالة تشينغ وبريطانيا التي كانت تريد السيطرة على هذا البلد ولجأت خلالها الى تصدير الأفيون الى الصين لحمل حكومة الأخيرة على تقديم تنازلات تجارية أمام الصادرات البريطانية. فهل يشبه كورونا الأفيون في شيء، أم أن الوسائل تختلف بين زمن وآخر؟
ختاماً، قد يكون من المبكر حتى الآن تقدير حجم الخطر الذي يمثله فيروس كورونا على نمو العملاق الصيني، وهل سيقتصر ضرره على حدود 160 مليار دولار، بحسب بعض الأرقام الأولية، في بلد يمثل إجمالي الناتج المحلي أكثر من 8 تريليون دولار، أم سيتوسع في حال استمرار الأزمة. لكننا نعلم أن السلطات الصينية تقوم بجهد جبار للسيطرة على المرض عبر إجراءات صارمة يتجاوب معها شعب يلتزم الإنضباط مع السياسات الحكومية الى حد كبير.
علي عبادي - موقع المنار