جهينة نيوز:
كان أمام مؤسسات الدولة أثناء تطبيق الإجراءات الاحترازية وقت كاف لتحضير نفسها لمواجهة كل السيناريوهات المتعلقة بفيروس كورونا... لكن للأسف ضاع ذلك الوقت في الاجتماعات التي كانت تخلص إلى جملة قرارات، إما لا تنفذ من قبل المؤسسات المعنية بها أو أنها تنفذها من باب "رفع المسؤولية عنها"...
لن أتحدث عن عدم الالتزام بتنفيذ الاشتراطات الصحية لإعادة تشغيل وسائل النقل العامة، ولا عن طوابير المواطنين أمام الأفران وصالات السورية للتجارة، ولا عن المنشآت السياحية التي تخالف علانية تعليمات العمل وتقيم الحفلات الغنائية... وغير ذلك من الحقائق التي تثبت أن المسؤولين في القطاعين العام والخاص لم يكونوا على قدر جيد من المسؤولية والحرص...
سأكتفي هنا بالحديث عن نقطتين هامتين...
الأولى تتعلق بطريقة تعاطي إدارات المؤسسات العامة مع هذا التهديد الصحي، سواء لجهة سلامة العاملين أو لجهة مراجعة كل ما من شأنه أن يشكل سبباً لانتشار الفيروس داخل تلك الجهات. فالكثير من المؤسسات تعاملت باستهتار واستخفاف مع تهديد الفيروس، إذ قليلة هي المؤسسات التي وفرت للموظفين والمراجعين على حد سواء أدوات التعقيم اللازم رغم ما خصص من اعتمادات مالية لهذا البند، لا بل إن بعض المؤسسات تعتبر أن مسؤوليتها تنحصر فقط في توفير التعقيم لموظفيها وكأن المراجعين هم من دولة أخرى وتالياً فإن صحتهم ليست ذات أولوية، أو أنهم لا يشكلون خطراً على الموظفين لجهة نقل العدوى بالفيروس....!
الأهم في هذه النقطة أن الوزراء والمحافظين وإدارات مختلف الجهات العامة لم يتعبوا أنفسهم في مراجعة آليات العمل المعتمدة في المؤسسات والجهات التي يديرونها، وتقييم ما إذا كانت مصدراً محتملاً لنقل العدوى بالفيروس أم لا.... فمثلاً هناك جهات عامة لا تزال تطلب توقيع الموظفين صباحاً وظهراً، وهناك جهات أخرى لا تزال تعتمد في تسليم الرواتب "الكاش" على التوقيع اليدوي والبصمة، في حين أن المؤسسات التي تشهد ازدحاما على خدماتها لم تبادر إلى أي إجراء يخفف من ذلك الازدحام....وغير ذلك من الأمثلة وما أكثرها..
لهذا كان من الطبيعي أن نشهد هذه الفوضى واللامبالاة في هذه المرحلة الخطرة، حيث كل التقديرات والتوقعات تشير إلى انتشار للفيروس... على الأقل في دمشق وريفها.
أما النقطة الثانية فهي تتعلق بأداء القطاع الصحي بكل مرافقه، والذي بات اليوم يواجه ضغطاً شديداً نتيجة زيادة أعداد المرضى والمصابين وإمكانياته المحدودة والضعيفة... هنا ومقابل الجهود والتضحيات الجبارة التي يقدمها الكادر الطبي في المنشآت الصحية العامة في مواجهة هذا الفيروس، لابد من الإشارة إلى عدة نقاط أسهمت في زيادة مخاوف الشارع وقلقه مما ينتظره فيما لو تكرر ما حدث في دول أخرى... أكثر تقدماُ علمياً وصحياً واجتماعياً، ومن هذه النقاط ما يلي:
-سوء إدارة الأزمة بكل جوانبها والغموض والضبابية التي تكتنف واقع انتشار الفيروس، وهذا ليس فقط على صعيد الإصابات المتحققة وحالات الشفاء والوفاة، وإنما على صعيد مشاركة جميع مؤسسات الدولة والمجتمع والرأي العام بما يجري، ومساعدة جميع المصابين وتحديداً أولئك الذين لم يتمكنوا من حجز سرير لهم في مشفى أو مركز طبي، فتكلفة العلاج باتت مرتفعة وتفوق قدرة وإمكانيات عائلات كثيرة، وحتى تكلفة الإجراءات الوقائية التي يطالب المواطن بتطبيقها تزداد يوما بعد يوم بخلاف المنطق والوضع الاقتصادي لشريحة واسعة من السوريين.
-اقتصار استعدادات المنشآت الصحية العامة خلال الفترة الماضية على سد بعض النواقص في إمكانياتها الحالية كترميم النقص في بعض الأصناف الدوائية وصيانة بعض التجهيزات وغيرها، في حين كان يمكن توسيع رقعة الاستعدادات لتشمل إشراف المستشفيات العامة على تجهيز مناطق خارجية لاستقبال المرضى والمصابين(بعض المدن الرياضية-صالات حكومية واسعة-أجنحة مؤسسة المعارض.....الخ). فحاليا هناك مصابون كثر خارج أرقام وزارة الصحية والمستشفيات... يعتمدون في مواجهة الفيروس إما على إمكانياتهم المادية أو على أهل الخير !
-استمرار المستشفيات الخاصة بآلية عملها المعتادة، والتي تثار حول بعضها إشكاليات واتهامات كثيرة، فيما يفرض الظرف الحالي على الحكومة إلزام هذه المستشفيات بالعمل وفق استراتيجية البلاد العامة لمواجهة الأزمة (إن وجدت أصلاً)، وحتى لو اضطرت تلك المستشفيات إلى تقديم خدماتها العلاجية مجاناً.
-نقص واختفاء الأصناف الدوائية الموصى بها لعلاج المصابين بفيروس كورونا وارتفاع أسعار الموجود منها في السوق المحلية إلى مستويات غير منطقية، وهو ما يطرح تساؤلات عن مصير الأصناف المنتجة وأسباب تقصير المعامل الدوائية في توفير احتياجات السوق المحلية في هذه الظروف الاستثنائية، وعن أسباب عدم استثمار الفترة السابقة لتلافي تلك الثغرات، والجهات التي تستثمر اليوم في صحة المواطن لتحقيق مكاسب ومراكمة أرباح كبيرة...الخ.
-شكاوى الأطباء القائمين على تقديم العلاج للمرضى والمصابين ومناشداتهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي لوزارة الصحة لمعالجة كثير من القضايا، تؤكد أن الوزارة التي تتحكم بإدارة الأزمة الحالية غير موجودة فعلياً على أرض الواقع لمتابعة واقع المستشفيات العامة والخاصة والسوق الدوائية، فضلاً عن فشلها في التواصل ومخاطبة الجسم الصحي بشكل لحظي ومشاركته في اتخاذ ما يلزم من قرارات...
-عدم اعتماد خطة للإعلام الصحي تتماهى مع تطورات انتشار الفيروس والسيناريوهات الموضوعة، إذ لا يمكن مخاطبة الرأي العام بذات العبارات والنصائح التي اعتمدت منذ بداية الإجراءات الاحترازية عندما كانت البلاد خالية أو الإصابات الموجودة فيها قليلة ولأشخاص قادمين من الخارج...
اليوم دخلت البلاد في مرحلة انتشار الفيروس، وسواء كان ذلك الانتشار بطيئاً أو متسارعاً أو مؤقتاً وهو نتمناه، فإن المسؤولية أولاً وأخيراً تبقى على الفريق الحكومي المشكل لمواجهة الفيروس، والذي انسحب تدريجياً تاركاً الأمر لوزارة الصحة وللوزارات والمحافظات والمؤسسات لتدير كل منها شأنها الخاص، فيما كان يفترض أن يحافظ هذا الفريق على قيادته للمهمة ويزيد من اجتماعاته وتواصله مع مختلف الجهات والشرائح الاجتماعية والاقتصادية، ومتابعته لحظة بلحظة لتطورات الوضع في جميع محافظات البلاد ومؤسساته ومنشآته...
وحتى المؤسسات التي كان يفترض بها أن تضع صاحب القرار والرأي العام في صورة ما يجري والسيناريوهات المتوقعة لانتشار الفيروس وخسائره، بقيت هي الأخرى عاجزة وفاشلة عن أداء مهمتها كما كانت منذ بداية الحرب... كالمكتب المركزي للإحصاء، الذي تحول إلى مجرد دائرة إحصاء تنتج بيانات مشكوك بصحتها ومصداقيتها، وبيانات المجموعة الإحصائية الأخيرة حول قوة العمل خير دليل، إضافة إلى غياب روح المبادرة عنها والحرص على تلبية احتياجات صاحب القرار من البيانات والمؤشرات الإحصائية المنتجة بموضوعية استقلالية...
لذلك عندما تغيب البيانات الوطنية فمن الطبيعي أن تحضر وتنتشر البيانات والتقديرات الإحصائية المنتجة من قبل بعض الباحثين وأساتذة الجامعات والعاملين في القطاع الصحي، فمثلاً في آخر دراسة نشرتها مدرسة لندن للاقتصاد، والتي استندت فيها على استخدام نموذج (SIR) في علم الأوبئة لتقدير عدد الاصابات والتعافي والوفاة بسبب الكورونا (حتى نهاية شهر آب 2020)، خلصت إلى وضع أربعة سيناريوهات هي:
السيناريو الاول ونتائجه مخيفة، ويقوم على استمرار الحال على ما هو عليه مع أخذ بعض الاجراءات المحدودة مثل فرض ارتداء الكمامة على الطلاب أثناء الامتحانات، وتقديرات الدراسة تشير إلى أنه مع نهاية شهر أب الحالي سيكون عدد الإصابات النشطة مخيفاً، ولن نذكر الرقم كي لا نتهم بأننا ننشر الرعب.
السيناريو الثاني وهو في حال تم اتخاذ اجراءات أوسع مثل منع التجمعات الكبيرة وفرض التباعد في أماكن العمل وإغلاق المطاعم وأماكن الترفيه، فإن تقديرات عدد الإصابات النشطة ستنخفض بمعدل 85% مقارنة بالسيناريو السابق.
السيناريو الثالث والذي يتجسد عند اتخاذ اجراءات صارمة مثل منع استخدام المواصلات العامة، إغلاق كافة الأنشطة الاقتصادية باستثناء الأساسية منها، التشديد على فرض التباعد، إضافة إلى تحسن وضع القطاع الصحي من خلال المساعدات الدولية. وهنا سيتراجع عدد الإصابات خلال الفترة المذكورة بمعدل 65% عن السيناريو السابق..
السيناريو الرابع: هو مزيج بين السيناريوهات الثلاثة في شهر آب أي أول 10 أيام السيناريو الاول، ثاني 10 أيام السيناريو الثاني وثالث 10 أيام السيناريو الثالث. والتوقعات في حال السير بهذا السيناريو حدوث تراجع بعدد الإصابات النشطة بمعدل 79% مقارنة بعدد الإصابات المتوقعة في حالة السيناريو الأول...
وبغض النظر عن نتائج هذه الدراسة وغيرها، فإن كل المؤشرات والحقائق تؤكد ضرورة الإسراع بتغيير الآلية والعقلية التي تدار بها الأزمة الصحية، فعلى الأقل لنتبع ما تقوم به دول المنطقة... وإلا فإن النتائج ستكون كارثية لا سمح الله.
تذكير 1: المشكلة أن الدولة بدأت بشكل صحيح في مواجهة خطر انتشار الفيروس، وهناك مقالات نشرت في صحف عربية وغربية تشيد بنجاحها، لكن مع مرور فقدت تلك الإجراءات زخمها وتراخت مختلف المؤسسات العامة والخاصة في تطبيقها، وعادت الحياة إلى سيرتها السابقة المليئة أساساً بالسلوكيات الخاطئة.
تذكير2: من دون شك كان للحرب وللعقوبات الغربية الظالمة تأثيرات سلبية عميقة على إمكانيات النظام الصحي وقدراته، إنما ذلك يجب ألا يلغي ضرورة المراجعة الدائمة لما يجري على أرض الواقع والاعتراف بالأخطاء الداخلية والعمل على تصحيحها.
المصدر: المشهد اون لاين