جهينة نيوز:
لم تكن معارض "خيمتي" العمل التجهيزي الذي رافقه تسجيل صوتي للآلات الموسيقية البدوية، ودمجَ بين عناصر مختلفة (رسم ونحت وصوت وفراغ)، و"نحن" المؤلف من سلسلة من أرجوحات الأطفال، أو "وعود" الذي تضمّن مواد محترقة وأسلاكاً شائكة.. وسواها من العروض الغرائبية الخاصة التي جالت معظم المدن السورية والعربية والأجنبية، إلا خطوة في التأسيس لفن تركيبي مختلف برعت الفنانة بثينة علي من خلالها في كسر الحالة التقليدية النمطية التي اعتادت عين وذائقة المشاهد والمتابع للحركة الفنية في سورية والوطن العربي على تلقيها، إذ ستخرجُ في هذه العروض عن الأماكن المغلقة وخيارات اللوحات المعلقة على الجدران بألوانها ودلالاتها، أو المنحوتات الموزّعة على زوايا صالات العرض وأركانها، لتدغم كل ما سبق في رؤية بصرية، مألوفة حيناً وصادمة في أحايين أخرى، ويجد المشاهد أو زائر العرض نفسه مشاركاً في تفسير حالة الإدهاش التي تعتريه، وهو يرى عناصر مختلفة في توزعها وأحجامها تحيط به من كل جانب وتدعوه إلى تأويلها بالقدر الذي يملكه عن صورة الواقع السياسي أو الاجتماعي العام، وما يختزن عقل هذا المتلقي من ميول وثقافة معرفية حول دور الفن ووظيفته.
في عرضها الخاص "صدى" الذي افتُتح أمس في دمشق، تعود الفنانة بثينة علي إلى الثيمة ذاتها، في مخاطبة العقل والوجدان قبل العين، ولتستفز البصيرة لا البصر عبر اختيارها مكاناً قيد الإنشاء، اخترقت عتمته ودهاليزه خيوط غير مرئية وبعض "السبوتات" والإضاءة الخافتة، واعتلته شبكة من قصاصات الأوراق الموزعة بعناية، لتروي كل ورقة منها حكاية وربما حكايات من فصول الحرب التي أرهقت أرواح السوريين وأتعبت قلوبهم على مدى عشر سنوات.
مكانٌ مفتوحٌ ستتخيّل في البداية أنه فراغ وكتل وأعمدة اسمنتية صمّاء، بناءٌ بلا جدران، أرضيةٌ من تراب وأعشاب بعضها أخضر والآخر يابس، ومحيط من السواد المجلّل بستائر ليلية صامتة، ستقع عيناك عليها جميعاً قبل أن تلج إلى عرض تركيبي، أتقنت الفنانة تصميمه وتوظيف عناصره، ليحتلّ أرجاء المكان الذي يسعى برمته إلى تحريضك على التفكير بما تريد قوله أو إيصاله!.
ولأن الفن الحقيقي هو الذي يبلسم الجراح في مثل هذه الظروف القاهرة، ويعدّ فرصةً لابتكار إبداع جريء وأسلوب تعبيري متجدّد متمرد على الواقع وليس نسخة عنه، وكلنا مؤمنون بهذا الاتجاه المغامر، فإنك ستكتشف أن بثينة علي في مشروعها التجهيزي التركيبي الجديد "صدى" انحازت إلى نفسها وإحساسها وصمتها العميق الذي دام عشر سنوات، لترصد من خلالها وتتلمّس إحساس ومشاعر الآخرين ممن عاشوا ذكريات هذه الحرب: قصص حبها وخيباتها، شهداؤها وجرحاها، آلامها وآمالها، أحلامها وكوابيسها، وعجزوا عن تدوين أو تصوير ذلك كله، ولاسيما بعد أن حاصرهم أيضاً وباء "كوفيد19".
تقول في تقديمها للعرض: "ألفت جمعَ بقايا الورق لأصيغ ألواحاً أرسم عليها.. ٢٠١١ توقف كل شيء! إلا جمع الورق، ٢٠٢٠ كوفيد ١٩ أخرج الأكياس المليئة بقصاصات الورق.. علّني أعود؟! أقلها لأتنفس رائحة الزيت.. أوراق وأوراق، كتابات عشوائية، كتابات تخصّني! إنها أنا! أفكاري ذاكرتي بين يدي! قصاصات من ورق مبعثرة! صدى تسع سنوات حرب، جرائد مجلات، بريد، مذكرات كلية، وكراتين ورق. أوراق بشعة، أوراق كثيرة فارغة، إنها صمت صدى، صمتٌ كثير، تسع سنوات صمت، يجب أن ينتهي، أريد أن أصرخ! أن أحوله إلى جسد.. بدأت ألصقها ببعضها لأشكل جملة بعمل نحتي. بعد شهر من المحاولة وجدت نفسي تحت شبكة،
شبكة من قصاصات الورق، شبكة من الأفكار المبعثرة، المختلطة غير المفهومة.. وكثير من الصمت، إنه عقلي، إنها كلماتي، إنها خلايا دماغي".
على أن اللافت في العرض أن بثينة علي أشركت مجموعة من طلابها في كلية الفنون الجميلة في وضع اللمسات الأخيرة بتوزيع شبكة الأوراق وعناصر العرض الأخرى، والذين استشعرنا مدى سعادتهم وبهجتهم الداخلية وهم يقفون إلى جانب أستاذتهم وإيمانها المطلق بهذا الشكل الفني التعبيري الجديد الذي سيكون في المستقبل خياراً لبعضهم في رسم وترجمة رؤاه الداخلية العميقة.
يُذكر أن بثينة علي فنانة أكاديمية وأستاذة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، حصلت على إجازة في الفنون الجميلة من جامعة دمشق ودبلوم دراسات عليا في الفنون الجميلة "قسم التصوير"، ودبلوم دراسات معمقة في تاريخ الفن الإسلامي من باريس، أقامت معارض فردية وشاركت بمعارض جماعية في سورية والبلدان العربية والأجنبية، وأعمالها كثيرة ومقتناة ضمن مجموعات عالمية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مجموعة المتحف (المتحف العربي للفن الحديث) في قطر ومؤسسة خالد شومان دارة الفنون في عمّان.
عمر جمعة