جهينة- خاص
"القدود" هي منظومات غنائية، تم تركيبها على ألحان معروفة ومستمرة ومتداولة، و"القد" لغةً يعني "المقاس"، أي أن الكلمات الجديدة بُنيت على مقاس موسيقي معروف، وغالباً ما يكون متميزاً، سواء كان لحناً دينياً أو غير ذلك، مما شد انتباه الشعراء لإبراز أشعارهم ملحّنةً بألحان مشهورة، وكلما كانت الكلمات الجديدة جميلة وموزونة بدقة على الالحان، كلما ازدادت شهرة القدود، بل إن الكثير من القدود اشتُهر بأسماء مؤلفيه الشعراء، في الوقت الذي يعدّ فيه جل الملحنين مجهولين، الأمر الذي يؤكد تاريخية تلك الألحان، وعودة الكثير منها إلى عصور سابقة لعصور الموشحات الأندلسية والأعجمية، من فارسية وتركية عثمانية...
بلاد الشام القديمة موطن القدود
ولا شك فتاريخ القدود عموماً، والحلبية منها خصوصاً، صعب التحديد في بلاد الشام التي أنتجت أهم "نوتاتها" الموسيقية المغنّاة قبل قرابة ثلاثة آلاف وخمسمئة عام في أوغاريت على الساحل السوري، وكان التبادل والتلاقح الحضاريين بين سورية القديمة وبلاد الرافدين، حيث "ملحمة جلجامش" التي كان تُغنَّى بمرافقة القيثارات السومرية ذات الأوتار السبعة، مروراً بسنوات ازدهار الموسيقا السريانية السورية منذ مطلع القرون الميلادية الأولى، ثم نشوء فن الموشحات الأندلسية، قد ترك أبلغ آثاره على نشأة فن القدود.
من معابد الآراميين وكنائس السريان إلى تكايا حلب وزواياها الصوفية
كان من أهم الكتّاب والشعراء السوريين الذين نظموا القصائد والترنيمات الدينية والروحية على ألحان قديمة، الراهب "مار أفرام السرياني" المولود عام 306م في مدينة "نصيبين" الواقعة بين نهري دجلة والفرات والملاصقة لمدينة القامشلي السورية، والمتوفى عام373م في مدينة "الرها" (أورفة المحتلة حالياً)، وتُنسب نشأة الترتيل الكنسي المقدس إلى هذا الراهب الذي وضع على ألحان آرامية سريانية قديمة كلمات جديدة، اعتُبرت من روائع الأعمال الغنائية السريانية، والتي طوّرت الموسيقى الكنسية السريانية المستخدمة في القداديس، بل وأسهمت في نشأة أهم قدود مدينة حلب وتطورها خلال القرون الخمسة الأخيرة، ولا سيما في القرنين الأخيرين، حيث كان هذا الفن يتطور في حلب متفاعلاً مع عناصر البيئة المحلية، فاكتسب الموشح الحلبي سمة فنية مستقلة بالكلمة والإيقاع والأداء والضروب التي تجاوزت بفروعها وتفاصيلها المئة، وأصبحت لها قواعدها وأسسها وتقاليدها، وبلغ هذا التطور ذروته في القرن الماضي، وذلك على مستوى النصوص والألحان التي ازدهرت في الزوايا والتكايا الصوفية عبر حلقات الذكر والأناشيد الدينية، وهي عماد فن الغناء في مدينة حلب.
وكان لتأسيس إذاعة حلب عام 1949 دور كبير في توثيق وتسجيل العديد من القدود ضمن وصلات الغناء التراثية التي سجلتها الإذاعة وبثتها بأصوات عدد من مطربي حلب الكبار، كصبري المدلل وعمر بطش وصباح فخري وأديب الدايخ وحسن الحفار ومحمد خيري وشادي جميل وغيرهم الكثير.
وبالطبع فلا يمكن إنكار دور مدينة حمص في نشأة فن القدود وتطويره، وذلك على يد الشيخ "أمين الجندي الحمصي" ( 1766- 1841م) الذي ما زال بعض قدوده يُغنّى في جلسات الموالد والأذكار في حمص، بالإضافة إلى بعض الشعراء والموسيقيين الحمصيين الذين ساروا على نهج الشيخ "الجندي" في تأليف القدود من أمثال "عبد الهادي الوفائي (1843-1909م( الذي ألّف ولحَّن حوالي مئة موشح ضاع معظمها للأسف، والفنان "محمد خالد الشلبي" (1867-1929م) صاحب العديد من القدود منها (علموا المحبوب هجري) و(يا باهي الشيم) والفنان "أبو الخير الجندي" ( 1867-1939) ومن قدوده "كووا الألباب بالميل"...
تسجيل القدود الحلبية في "اليونسكو" إنجاز يُسجَّل للأمانة السورية للتنمية
يجمع التراث الثقافي اللامادي العناصرالتقليدية والمعاصرة في نفس الوقت، حيث لا يمثل هذا التراث التقاليد الموروثة من الماضي فقط، ولكن أيضاً الممارسات المعاصرة التي تشارك فيها المجموعات الثقافية المتنوعة... والتراث اللامادي- كما هو معروف- تراث هش وغالباً ما يتعرض للتهديد بالانقراض بفعل التغيرات العميقة والطارئة على المجتمعات، لذلك كان لا بد من وضع آلية لدعم هذا التراث الحي لحفظ الهوية الثقافية للسوريينمن الاندثار، واتخاذ التدابير اللازمة والعاجلة لجمع التراث الشعبي وفق قواعد وبيانات علمية، تسمح بالاستثمار الفعلي لها، بهدف إعادة إحياء الكثير منها.
ومن هنا عملت الامانة السورية للتنمية على ترشيح القدود الحلبية لقائمة اليونسكو للتراث اللامادي الإنساني، لكون الموسيقا والتراث الغنائي الشفهي جزءاً لا يتجزأ من التراث اللامادي، فصونه والحفاظ عليه وتعزيزه يجب أن يتم لحظه كما يتم لحظ بقية أنواع هذا التراث، فالتراث اللامادي –كما صرّحت السيدة أسماء الأسد خلال مشاركتها في فعالية ظلال الخاصة بصون وحماية وتوثيق عناصر التراث الثقافي السوري المادي واللامادي، بتاريخ 16/3/2019- هو تراث حيّ يمثّل التقاليد والعادات والممارسات والقصص والأمثال الشعبية والأغاني والرقصات وسائر الممارسات الثقافية، مما يدعونا إلى الحفاظ على التراثين المادي واللامادي مجتمعيْن، كضرورة تتخطى تماماً جوانب الرفاهية، ويحافظ على نموّنا كشعب يفهم ماضيه بشكل صحيح، ذلك أن هذا الماضي أساس فهمنا لحاضرنا ومستقبلنا، فتراثنا اللامادي –حسب السيدة أسماء الأسد- كوّن شخصيتنا عبر العصور، أما إهماله وعدم صونه وتشويهه واحتلاله، فهو جريمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولا تختلف عن جرائم الحرب، وعلينا جميعاً أن ندافع عنه بكل ما نملك من قوة من أجل الحفاظ عليه، كما علينا ألا نتأخر في الحفاظ على هذا التراث، لأن خسارته مرهونة بتأخرنا في ذلك، كما أن التراثين المادي واللامادي يشبهان جسد الانسان وروحه، فالتراث اللامادي هو الروح للتراث المادي.
وفيما يخص مشروع القدود الحلبية، فإن البداية كانت من توجه ورغبة المجتمع الحلبي في تعزيز موسيقاهم التراثية، فتواصلوا مع الأمانة السورية للتنمية، وكان لديهم أساساً مشروع يعملون عليه هو (حلب مدينة مبدعة) في المجال الموسيقي، فجاءت فكرة ترشيح القدود الحلبية لقائمة اليونسكو للتراث اللامادي الإنساني، وبما أن الأمانة تمتلك تجربة سابقة في هذه الترشيحات، ومنها تسجيل مسرح خيال الظل أواخر عام 2018، وملف الممارسات والمهارات المرتبطة بقطاف الوردة الشامية عام 2019، فكان أول تدخل يخص الموسيقا التراثية هو ملف القدود الحلبية الذي عملت الأمانة على ترشيحه بالتعاون مع المجتمع الحلبي ومؤسسات حكومية ذات صلة، بالإضافة إلى أهل الاختصاص وفي مقدمتهم الفنان الراحل صباح فخري الذي قدّم دعماً معنوياً وعلمياً وشارك بجزء من مسيرته في إثراء ملف الترشيح... هذا وتنتظر الأمانة السورية للتنمية نتيجة إدراج الملف على القائمة التمثيلية للتراث الإنساني في اليونسكو والذي تتم دراسته حالياً في الفترة ما بين ١٠-17/12/ ٢٠٢١.
خاتمة
كانت حرب الارهاب التي تعرضت لها سورية –ومن ضمنها مدينة حلب- قد هددت فن القدود الحلبية بمحاولة حرفه عن مساره، فتمت صياغة بعض القدود بعبارات التوظيف السياسي وغيره، وتعرض الكثير من القائمين على هذا الفن إلى متاعب اللجوء والتشرُّد في دول الجوار وأوروبا على مدى سنوات الحرب، لذا فإن سعي الأمانة السورية للتنمية تجاه الحفاظ على هذا الفن، إنما يسهم في حمايته واستمراره كجزء هام من عناصر الهوية الثقافية السورية، بل وكفنٍّ تختبئ ضمن علاماته الموسيقية وكلماته المغناة صفحات من تاريخ الفن السوري والعربي القديم.