حين يفشل السوريون في حل مشكلاتهم بأنفسهم

الخميس, 26 حزيران 2025 الساعة 19:04 | اخبار الصحف, الصحف العربية

حين يفشل السوريون في حل مشكلاتهم بأنفسهم

بكر صدقي - القدس العربي

مر الآن أكثر من ستة أشهر على السلطة الجديدة في دمشق، بما يمكّننا من فهم تعقيدات المشهد في سوريا إلى حد معقول، ولإعطاء بعض أجوبة محتملة على سؤال: إلى أين تتجه الأمور؟

على رغم كل الضخ الإعلامي الذي يسعى إلى بث التفاؤل بشأن مستقبل البلاد بعد خلاصها من الحقبة الأسدية البغيضة، يمكننا ملاحظة أن أموراً أساسية لم تتغير في سوريا الجديدة عما كانت عليه قبل الثامن من كانون الأول 2024.

أولها خريطة سيطرة السلطة المركزية، فهي قد بقيت كما كانت عليه في السنوات الأخيرة من حكم نظام الأسد، مع بقاء مناطق واسعة خارج سيطرتها في شرق الفرات وفي الشمال والجنوب، مع إضافة مناطق الساحل التي يمكن اعتبارها قد باتت في حالة «انفصال نفسي» عن سوريا بعد المجازر التي تعرضت لها في شهر آذار الماضي.

وثانيها استمرار وجود القواعد والقوات الأجنبية في أكثر من منطقة (الأمريكية في الشرق وجيب التنف في الجنوب، التركية في الريف الشمالي لحلب ومنطقة إدلب، الروسية في قاعدتي حميميم وطرطوس) مع إضافة جديدة تمثلت بتوغل عسكري إسرائيلي في الجنوب أضيف إلى الجولان المحتل منذ عقود.

وثالثها استمرار العلاقة بين الأدوات الأمنية للسلطة من جهة والمجتمع من جهة ثانية في كونها قائمة على علاقة قوة وشوكة وقسر، سواء في ذلك مخابرات نظام الأسد وشبيحته وجيشه وميليشيات حلفائه، أو الأمن العام وفصائل وزارة الدفاع في السلطة الجديدة أو المجموعات الدعوية التي تريد تعليم الناس «الدين الصحيح» وموجباته وقواعد السلوك «الصحيح». الواقع أن هؤلاء قد تفوّقوا على ما كان لدى نظام الأسد من تدخل في تفاصيل حياة الناس بالنظر إلى أنهم في مرحلة بناء نظامهم الجديد، في حين كان نظام الأسد المستقر (قبل الثورة، وبعدها أيضاً في المناطق الموالية) يبتعد عن التدخل في تلك التفاصيل ما دام الناس متخلين عن حقوقهم السياسية ومستسلمين أمام أبدية النظام.

رابعها أن البيئة الموالية في كلا النظامين متشابهة في تعبيراتها ومسالكها وحججها إلى حد التطابق، أو لنقل إن فكرة الموالاة الممجوجة في المجتمعات المتحضرة بقيت هي هي مع تغيير موضوعها من نظام الأسد إلى «السلطة الانتقالية». نعم، في كل المجتمعات البشرية ثمة قطاعات اجتماعية تكون راضية عن السلطة القائمة لأنها تعتبرها ممثلة لمصالحها وتطلعاتها ومثلها، تمنحها تفويضاً مشروطاً ومحدوداً زمنياً ما دامت وفية لتعهداتها. لكن هذه لا تسمى موالاة، بل قاعدة اجتماعية، والعلاقة بينها وبين السلطة السياسية هي علاقة سيد هو الناخب مقابل خادم هو السلطة. في حين أن فكرة الموالاة قائمة على تزلف هذه لسلطة قاهرة وخضوع لها مقابل مكاسب محتملة أو تفادي أذاها.

هذا ما كان قائماً في علاقة السوريين بنظام الأسد، وما زالت المعادلة نفسها قائمة في سوريا «الجديدة». ما هو مختلف في هذا الصدد يتلخص في أن النظام المخلوع لم يكن يسمح بأي نقد علني أو معارضة سياسية، في حين أن النقد لمسالك السلطة الجديدة في دمشق موفور اليوم لا بفضل سعة صدر الحكم الجديد بل بفضل ضعف حيلتها في مرحلة تأسيس مضطربة وهشة. فنحن نعرف أن ضيق أفق البيئة السلفية المسيطرة يترافق مع ضيق صدر شديد إزاء أي انحراف عن عقيدتها المتصلبة وخطابها الأكثر خشبية من خطاب البعث المنهار. ما تعجز السلطة عن منعه من صنوف النقد الحاد تحاول جوقة من الموالين تلافيه بخطاب عدواني وسفيه يستهدف كل «تطاول» (!) على السلطة الجديدة التي تبدو بالتزامها الصمت أكثر رصانة منهم.

خامسها أن كلا النظامين مهتم بتأمين شرعية خارجية أكثر من اهتمامها بالشرعية الداخلية، ولا يتعامل مع مطالب قطاعات وازنة من المجتمع إلا بصلف واستعلاء وفقاً لمنطق «أنا الدولة وعلى الجميع الخضوع!» وتتصرف البيئات الموالية بالمنطق نفسه إزاء البيئات المعارضة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن سوريا في مرحلة تأسيسية وبحاجة لرضى جميع الفئات بلا استثناء.

سادسها هو كيفية تعاطي المجتمع الدولي مع المشكلة السورية. ونلاحظ استمرارية لافتة بين سنوات الثورة والحرب ومرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. فحين اندلعت الثورة الشعبية في العام 2011 كان موقف الدول الأطلسية هو نوع من إدارة الأزمة من خلال السماح للاعبين الإقليميين بالتدخل الفعال، بما في ذلك التدخل الروسي. وحين بدأ التطبيع العربي مع نظام الأسد في سنواته الأخيرة، أيضاً تركت المبادرة للدول الإقليمية لمحاولة حل الأزمة السورية مع بقاء النظام من خلال مقاربة «خطوة مقابل خطوة». والآن نرى استمرار هذا الموقف من خلال رفع العقوبات الاقتصادية بناء على طلب دول إقليمية تراهن على السلطة الجديدة في دمشق، ومن خلال التعاطي الدبلوماسي معها الذي لم يبلغ درجة اعتراف رسمي بمعانيه الإيجابية. هذا ما يوصف عادةً بالتعاطي الحذر مع وضع السلطة الجديدة تحت المراقبة والاختبار إلى حين.

هل هذا جيد للسوريين أم سيئ؟ إن عدم التدخل الفظ وإملاء الشروط من فوق هو أمر جيد بلا شك، فهذا يترك هامشاً واسعاً ليقرر السوريون مستقبلهم بأنفسهم.

وهنا بالضبط تكمن المشكلة، فالسوريون غير موحدين في رؤية ما يجب أن تكون عليه دولتهم ونظامهم السياسي ونموذجهم الاقتصادي وكل ما يمكن أن يتفرع عن ذلك من تفاصيل عيشهم المشترك في وطن واحد، بل تتنازعهم ميول وتصورات متعارضة فشلوا إلى الآن في التقريب بينها وتدوير الزوايا الحادة وإبراز المشتركات التي تجمعهم أو اختراعها إذا كانت غير موجودة. هذا صعب جداً في ظل سلطة انتقالية تظن أنها الدولة! ليس مما يبهج القلب أن يستمر السوريون في هذا الفشل فيأتي المجتمع الدولي ليفرض عليهم ما يراه مناسباً من زاوية نظره، ليبقى لنا فقط أن نلعن الأشرار الذين يتدخلون في شؤوننا!


أخبار ذات صلة


اقرأ المزيد...
أضف تعليق

تصنيفات الأخبار الرئيسية

  1. سياسة
  2. شؤون محلية
  3. مواقف واراء
  4. رياضة
  5. ثقافة وفن
  6. اقتصاد
  7. مجتمع
  8. منوعات
  9. تقارير خاصة
  10. كواليس
  11. اخبار الصحف
  12. منبر جهينة
  13. تكنولوجيا