ميشيل كلاغاصي
24/5/2023
على الرغم من الأزمات والصراعات والحروب التي تعصف حول العالم , استطاعت وسائل الإعلام سرقة كافة الأضواء وتسخيرها لخدمة الإنتخابات الرئاسية التركية , وما رافقها من إنتخاباتٍ برلمانية , ستكون تركيا وعشرات الدول معنيةً بنتائجها لعقود قادمة , فالحديث عن تركيا لا يشبه الحديث عن غير دول , وهي التي تنفرد بموقعها الجغرافي المميز الذي ضمن لها دائماً مقعداً أمامياً في المشهد التاريخي والسياسي والعسكري والتجاري والإقتصادي , ووضعها في قلب كافة الأحداث الإقليمية والدولية , ومنحها مكانةً جيوسياسية , ضمنت لها الأرباح في لعبة أرجحة التوازن ما بين الشرق والغرب , بما يتجاوز خسائرها ومشاعر الكراهية الغربية تجاهها , وأصبحت على مدى 20 عاماً , رقماً صعباً في علاقات السلم والحرب , والصراعات الإقليمية والدولية , خصوصاً في ظل حكم الرئيس رجب طيب إردوغان.
فقد استطاع من خلال قدرته على المناورة والخداع والتنصل من الوعود الداخلية والإتفاقيات الدولية , وبراعته بكسب اللحظة , تحصين الموقع والدور الجيوسياسي لبلاده , ورفع سقف المقامرة السياسية والعسكرية لبلاده , وبتفاديه الوقوف مطولاً على الألغام الدولية شديدة الخطورة قبيل انفجارها , وبات الحمل ثقيلٌ على من سيخلفه في حال خسارته الإنتخابات الحالية.
ومع ذلك , لم يستطع إنقاذ نفسه من تبعات سياساته الداخلية والإستبداد والهيمنة والقبضة الأمنية الحديدية , ومصادرة الحريات , وخطورة زج ضباط الجيش ومعارضيه السياسيين والصحفيين والإعلاميين والنشطاء الحقوقيين والمدونين على مواقع التواصل الإجتماعي , في السجون, ناهيك عن الأخطاء الفادحة لسياساته المالية والإقتصادية , وسط تفشي الفساد , وإعتماده على طبقة الفاسدين في العائلة الحاكمة , والمقربين داخل حزب العدالة والتنمية , أمورٌ تسببت بمجملها بإدخال البلاد بحالة التضخم , وبتراجع القيمة الشرائية لليرة التركية ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة , لامست في كثير من الأوقات اقتراب إقتصاد الدولة التركية من الإنهيار, وعليه تضاعفت أعداد من يبحثون عن الخلاص من حكمه , ويجدون في الإنتخابات الحالية الفرصة الملائمة للخلاص.
وعلى المقلب المعارض , وجد المرشح الرئاسي كمال كليجدارأوغلو الفرصة لعقد التحالف المعارض من ستة أحزاب وقيادتها تحت زعامته , وقدم برامج إنتخابية غير واضحة , بدت عناوينها تصب في خانة الردود على حملة إردوغان ومجمل سياساته , والتصويب على نقاط وأماكن ضعفها , وقدم من الوعود "الوردية" ما يكفي لإظهار تركيا في حال فوزه , دولةً ديمقراطية , مسالمة , قادرة على العيش يودٍ ووئام في محيطها الإقليمي والدولي , متجاهلاً طبيعة تركيا كإمبراطورية استعمارٍ قديم – حديث , وكدولة أطلسية وحليفة لروسيا في اّنٍ واحد , وكدولة دينية مسلمة عثمانية القلب والهوى , إخوانية السلوك , والحائرة ما بين التدين والعلمانية , وما بين القومية الواحدة وتعدد القوميات , ما بين الإختلافات الإيديولوجية في مجتمعاتها.
هكذا اتجه ما يقارب الـ 64 مليون ناخبٍ تركي في صباح يوم الأحد 14/مايو , نحو صناديق الإقتراع داخل وخارج تركيا , في يومٍ انتخابي طويل , ترقبت فيه عيون العالم بحذر فوز أو سقوط الرئيس رجب طيب إردوغان , وسط الصراع الداخلي والخارجي , في عالمٍ مضطرب لم يحسم معاركه بعد في جميع الساحات الإقليمية والدولية المجاورة لتركيا , والحرب الغربية - الأطلسية – الأوكرانية على روسيا , وعلى ضفاف عالمٍ عربي تتغير ملامحه ويتجه نحو الاستقرار والتوازن والمصالحة مع ذاته ودوله وشعوبه , ومع جيرانه ومن كانوا ألد أعدائه في الأمس القريب , وعلى وقع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة والشعب الفلسطيني , وهو الكيان والحليف الإستراتيجي لتركيا سواء كان إردوغان الذي قدم نفسه "قائداً سنياً" , أم كليجدار أوغلو "كقائد علوي" على رأس السلطة فيها.
ساعات طويلة , وانتهى اليوم الإنتخابي وعملية فرز الأصوات , وبحسب وكالة الأناضول , فقد حصد فيها الرئيس إردوغان 49.50% من مجمل الأصوات , فيما حقق منافسه كليجدار أوغلو على 44.89% منها , واكتفى المرشح سنان أوغان بنسبة 5.17 % , والذي فاجىء الجميع بتلك النسبة , وحصل المرشح المنسحب محرم إينجه على نسبة 0.44% , ووفق هذه النتائج , تأجل الحسم إلى الجولة الثانية المقررة يوم 28 مايو/أيار , وانحصر السباق الرئاسي بالمرشحين إردوغان وأوغلو.
ومن اللافت أن تمتدح كافة الأطراف المتنافسة نتائج الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية والبرلمانية , وسط التهليل والمفاخرة بالديمقراطية التركية , وهي التي لا تملك تاريخاً يؤيد وصفها بالديمقراطية الخالصة , وبخلوها من عمليات التلاعب والتزوير, ومع ذلك دعت المخضرمة ميرال إكشنار كلا الطرفين إلى إحترام نتائج الانتخابات , وسط تأكيد إردوغان وكليجدار أوغلو , على قبولهما برأي الشعب وما ستسفر عنه النتائج النهائية للإنتخابات.
وفي أجواء غابت فيها الإنتقادات الداخلية والخارجية , أثارت "ديمقراطية" العملية الانتخابية التركية , إعجاب بعض البرلمانيين الأردنيين , ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين , التي اعتبرتها "مكسباً جيداً" , فيما وصفها الرئيس التركي بـ "العرس الديمقراطي الجديد" , في مشهدٍ يستحضر المثل القائل "إن حضرت الملائكة انصرفت الشياطين" , ويدعو للتساؤل أين ذهب استبداد السلطة , قمعها للحريات , وملاحقة طلاب الجامعات , وإكتظاظ السجون بالضباط وبأصحاب الأقلام والصحفيين وكل من يخالف "السلطان" , أي حدثٍ هذا وأي يومٍ "مبارك" , حلت فيه الديمقراطية وغسلت عار السنوات الماضية , وغابت فيه أجهزة الإستخبارات التركية , وحلت فيه الملائكة محل الشياطين؟.
في وقتٍ تحدث فيه المسؤولون الأتراك عن إتمام العملية الانتخابية بعيداً عن التدخلات الخارجية , يمكن ملاحظة تكثيف وسائل الإعلام الأمريكية تركيزها للترويج على هزيمة الرئيس إردوغان , وتأكيد المتحدث بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن تركيا "دولة ديمقراطية ناضجة قادرة على إجراء انتخابات شفافة ومنع حدوث مخالفات قانونية" , كذلك تأكيده على"أمل موسكو في استمرار العلاقات الوثيقة مع تركيا بعض النظر عن الفائز بالإنتخابات".
في الحقيقة , لا يمكن التعويل على فكرة عدم التدخل الخارجي في الإنتخابات التركية , وإن بدت الأجواء هادئة , فمن المعروف أن جميع مفاصل الدولة التركية الحديثة أمريكية وغربية الصنع , ومع ذلك فهي تبدي تداخلاً معقداً وقوياً في العلاقات مع روسيا والصين وإيران ودول الإتحاد الأوراسي , والدول الاّسيوية , ما يجعل القرار التركي خارجي أكثر منه داخلي , وقد يفسر الهدوء الحالي , بتوافقٍ أمريكي – روسي , على عدم حسم المعركة , والإبقاء على الرئيس إردوغان , بنسب نجاحٍ تقيد نظام حكمه الرئاسي , وبنزع أظافره في البرلمان التركي بتقاسم المقاعد الـ 600 بالمناصفة مع التحالف المعارض , وهنا يبرز دور المنسحب سنان أوغان الحائز على بنسبة 5.17 % , بما يقارب الـ 3 ملايين صوت , وعليه قد يكون لتلك الأصوات أهميتها الكبيرة , وقدرتها على ترجيح كفة الرئيس إردوغان أو أوغلو في الجولة الانتخابية الثانية , فهل يفعلها سنان أوغان وعلى طريقة ميلونشون الفرنسي , الذي قامر بأصواته ما بين لوبان وماكرون في فرنسا ؟ , وهل سيمر التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية عبر "ملعبه" ؟.
لكن , وعلى ما يبدو تعمّد تحالف الأجداد على إظهار الإختلافات الحقيقية والجدية داخل التحالف , لتبريرعدم وقوفه في الجولة الانتخابية الثانية وقفة رجلٍ واحد , وانقسامه التكتيكي على قاعدةٍ مصالحية إلى فريقين , ما بين سنان أوغان وأوميت أوزاغ رئيس حزب النصر, فمن جهةٍ أعلن الأول دعمه وتصويت مؤيديه لصالح الرئيس إردوغان , فيما ذهب الثاني نحو دعم مرشح المعارضة كليجدار أوغلو , وعلق كل منهما مواقفه على شماعة الشعارات والمواقف التاريخية الثابتة لحزبيهما , وعلى قاعدة عدم التوافق ما بين أصوات الأكراد والقوميين اليمينيين.
ومن خلال مؤتمرٍ صحفي عقده سنان أوغان يوم الاثنين الماضي , دعمه الصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 28 من الشهر الجاري , أكد فيه بأن المعارضة التركية "لم تستطع إقناعنا ولم تتمكن من الحصول على أغلبية البرلمان"، مشددا على أن الرئيس الجديد يجب أن يكون في حالة توافق مع البرلمان , ونفى مطالبته بأي مناصب , وأن ما يهمه هو المصالح التركية , في وقت كثر فيه الحديث الداخلي عن إتخاذ سنان اوغان موقفه الداعم لإردوغان بعدما استقبله هذا الأخير في قصر "دولمة بهجة" في إسطنبول , ويبقى السؤال عن الطريقة التي أقنع فيها الرئيس إردوغان ضيفه بالتصويت له , في ظل نفيه المطالبة بمنصب نائب الرئيس ؟.
على الرغم من إستياء كل من موسكو وواشنطن , والتنافس الحاد بينهما للإستحواذ على مواقف الرئيس إردوغان لصالح كل منهما , إلا أنهما تبدوان بحاجةٍ إلى بقائه في السلطة , وبحاجة إلى استمرار أدوره اللا أطلسية , في عديد الملفات كإستعداده لتحدي النظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة , كذلك دوره في إتفاقية الحبوب , وبتحويل تركيا إلى مركزٍ دولي للغاز الروسي , وبإطلاقها كدولة نووية , ناهيك عن الصراع في أوكرانيا , وبالرغم من التواجد العسكري الإحتلالي في سورية والعراق , ودعمه الإرهاب , وانخراطه في الوقت ذاته في مفاوضات السلام والتسوية مع سورية تحت الرعاية الروسية والإيرانية , بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية ورفع مستوى التبادل التجاري مع روسيا , وهي بمجملها أمورٌ تعبر عن المستوى الرفيع للتعاون التركي الروسي , والتي لا تملك واشنطن سوى إظهار إمتعاضها منها.
ومع ذلك تحتفظ المعادلات التركية الداخلية بأهميتها , وبقدرة تأثيرها على الناخبين , في لحظة حاسمة من تاريخ تركيا , والتي يحتل فيها الإقتصاد مكانته على سلم إهتمامات المواطن التركي , في ظل الظروف الحالية التي تعيشها تركيا وغالبية دول العالم , كذلك تحافظ المعادلات الداخلية على حضورها في الانتخابات , على أنها جزء من مواجهةٍ ما بين الحركة الإسلامية التي يمثلها أردوغان والحركة العلمانية التي يمثلها كيليجدار أوغلو , وسط رهان البعض على إعتبار الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم في تركيا من نظام رئاسي إلى نظام برلماني , قادر على توزيع وتفاسم السلطة بشكل أكثر إنصافاً.
أخيراً .. يبدو الرهان على فوز كليجدار أوغلو , فرصة لإقتراب السياسة الخارجية التركية نحو الولايات المتحدة والغرب , في حين يبدو فوز الرئيس إردوغان فرصةً للحفاظ على التوازن ما بين الغرب وروسيا وحلفائها.