ميشيل كلاغاصي
11/6/2023
مع اختتام أعمال قمة مجموعة السبع في هيروشيما , توجه على الفور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو منغوليا في قلب القارة الاّسيوية والواقعة ما بين الصين وروسيا , وهذا بطبيعة الحال كان ولا يزال يشكل الدافع وراء الإهتمام الغربي بها , وسبق لوزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري وصفها بـ "واحة الديمقراطية بين جيرانها المستبدين".
وعلى الرغم من النمو الإقتصادي الملحوظ في منغوليا خلال السنوات الأخيرة , إلاّ أنها تعاني ولا يزال حوالي ثلث سكانها يقبعون تحت خط الفقر, وتبدو بحاجة ماسة للاستثمارات الأجنبية والفرص الإقتصادية الجديدة , ومع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا , ظهر إنقسام في الشارع المنغولي بين من اعتبروه "غزواً روسياً", وبين داعمي روسيا .
ومن خلال سعيها لمواجهة العقوبات الغربية ، وبعد خمسة أيام من بدء العملية العسكرية في أوكرانيا , وقعت شركة غازبروم الروسية عقداً لوضع التصميم وكافة أعمال والمسح لمشروع خط أنابيب الغاز "سويوز فوستوك" ، الممتد من روسيا إلى الصين عبر منغوليا ، وباتت أقرب لكلا الدولتين , وامتنعت عن إدانة العملية الروسية في أوكرانيا , وخرجت فيها المسيرات والشعارات والتصريحات المعادية للغرب وأوكرانيا والنازية , بالتوازي مع قمع رجال الشرطة الهجوم على السفارة الروسية في العاصمة المنغولية , وبعض المظاهرات المناهضة لروسيا , الأمر الذي وضعها أكثر فأكثر تحت المجهر الغربي.
يدرك الرئيس الفرنسي أهمية منغوليا بالنسبة لروسيا والصين , وتُعتبر أكثر من دولة جارة لهما , في وقتٍ تعاني فيه فرنسا من إضطراب علاقاتها مع دول القارات القديمة , وبأنها تُطرد من بعض مستعمراتها السابقة , وتبدو غير مرحبٍ بها في معظم بلدان القارة الاّسيوية , وحيث يتجلى النفوذان الصيني والروسي بأعلى تجلياتهما , وهذا بدوره يدفع للسؤال حول أسباب الزيارة , وأهدافها , ومالذي يبحث عنه إيمانويل ماكرون في منغوليا ما بين الصين وروسيا ! , ويجده عبر إستفزازهما معاً , أم تراه يغتنمها فرصة للاقتراب والتقارب معهما , بدخوله زائراً "مسالماً" إلى منغوليا وهي المنطقة الإستراتيجية لنفوذهما.
على الرغم من نظرة دول الإتحاد الأوروبي والناتو السلبية إلى حلفاء روسيا والصين , وفي ظل إنقسام الشارع المنغولي بين مناهض وموالي للغرب , تبدي القيادة والحكومة المنغولية قلقها وترفع هواجس مخاوفها على أمنها وهويتها , من "عطورات" فرنسا و"مساحيق تجميل" الثورات الملونة الغربية , رغم حاجتها للاستثمارات الخارجية , ولتوسيع نطاق علاقاتها الاقتصادية وشراكاتها بما يتعدى المنطقة الاّسيوية أيضاً.
وقد أعلنت باريس رغبتها في "تخفيف القيود المفروضة على جيران روسيا ومنحهم خياراً من الخيارات" , لكن الرئيس ماكرون لم يُخفِ الجانب التجاري والإقتصادي لزيارته , وتحدث عن أهمية شراكة منغوليا مع شركة التكنولوجيا النووية الفرنسية أورانو، بما يشمل قطاع التعدين وإنتاج اليورانيوم.
علماً أن شركة أورانو تعمل في منغوليا منذ عام 1997, مع الشركات الرسمية المنغولية في مشاريع استغلال الرواسب في صحراء غوبي ومشاريع تعدين اليورانيوم الطبيعي , الذي يُصدّر إلى فرنسا على الرغم من ضعف كميات إنتاجه في منغوليا , الأمر الذي دفع ماكرون لمطالبة نظيره المنغولي بتسريع تطوير اثنين من رواسب اليورانيوم لإنتاج ما يفي بحاجة فرنسا من اليورانيوم السنوية والتي تقدر بحوالي 7000 /طن , وهذا يحتاج إلى جهود إضافية كبيرة , وإلى زيادة أعداد العاملين المحليين.
على الرغم من إعتراض المجتمع الأهلي المنغولي على هذا المشروع ، خصوصاً مع تسجيل عديد الحوادث صحية الخطيرة التي سبق وتعرض لها السكان المحليين الذين يعيشون حول مواقع تشغيل المناجم , وتقديم مجموعة منهم شكوى في عام 2018 ضد شركة بدراخ للطاقة التابعة لشركة أورانو في منغوليا , بدعوى أن أعمال التعدين تسببت بتشوهات للماشية ، وبأمراض سرطانية وحالات إجهاض , وبتلويث آبار المياه , ناهيك عن فساد شركة أورانو وتقديمها الرشاوى لأعضاء البرلمان والمديرين التنفيذيين للشركات الحكومية , والتي لعبت دوراً حاسماً في الحصول على تراخيص استخراج اليورانيوم في صحراء غوبي , مما استدعى خروج اّلاف المنغوليين للتظاهر أيضاً مع نهاية عام 2022.
وأثناء الزيارة وخلال المحادثات ، أشار ماكرون إلى أهمية شراكة منغوليا مع شركة التكنولوجيا النووية الفرنسية أورانو ، بما في ذلك في قضية تعدين المعادن , وتوسيع التعاون في مجالات الطاقة الخضراء والنقل بالسيارات والرعاية الصحية والزراعة , على الرغم من فشل فرنسا في الإستفادة من تلك المشاريع فعلياً , وأن إثارتها داخل فرنسا بدت سياسية أكثر منها اقتصادية وتجارية.
ومع سوء العلاقات الحالية مع موسكو , تبدو فرنسا مهتمة بالبدائل الممكنة , وعلى ما يبدو بأنها حددت منغوليا هدفاً وسوقاً جديداً لمواردها من اليورانيوم , وهذا بدوره يفرض على موسكو إعادة تقييم علاقاتها مع منغوليا وزيادة استثماراتها فيها , قبل إنجرارها نحو الغرب عبر البوابة الفرنسية , والتركيز على سرعة تنفيذ مشروع إنشاء خط أنابيب الغاز "سويوز فوستوك" , خصوصاً مع اقتراب الانتهاء من أعمال التصميم والمسح للمشروع , فالمشروع يحظى بأهمية خاصة بالنسبة لمنغوليا , ليس لجهة حصولها على الغاز فقط , بل لحصولها أيضاً على مبالغ طائلة مقابل عبور خط الأنابيب الجديد , بالإضافة إلى تعزيز دورها ومكانتها في علاقتها المميزة مع روسيا , ومع الصين أيضاً.
تبدو زيارة ماكرون سياسية أكثر منها تجارية وإقتصادية , وتبدو كرسالة قوية لجهة استمرارها بالسير على طريق إنهاء العلاقات مع روسيا , و بمنافسة الصين في عقر دارها كدولة مسيطرة على صناعات التعدين والمعادن الأرضية النادرة , تحت ذريعة اهتمامها بتنمية تلك الصناعات على المستوى الفرنسي , بما يبرر تقاربها مع منغوليا ووجود إيمانويل ماكرون فيها ضيفاً على قيادتها وحكومتها وأرضها وزائراً لمتحفها , وذهب إلى أبعد من ذلك بحديثه عن منغوليا كبلد "محاط " بجيرانه الروس والصينيين , وأشار إلى أنه "يمثل نموذجاً لحكم ليبرالي , يمارس الانتخابات وتداول السلطة , ويسعى إلى تنويع شراكاته" , وبدأ بقوله هذا كمن يقتبس ويغزل على كلام وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري حيال منغوليا .
كذلك , يمكن ملاحظة التقييم الكبير للرئاسة الفرنسية للزيارة وأهميتها "الإستراتيجية", وبحسبها فقد كانت الزيارة "لأجل ضمان سيادة فرنسا في مجال الطاقة", ومن أجل "تشجيع الإستثمارات الأجنبية الضرورية لمكافحة ظاهرة الإحتباس الحراري في منغوليا" , ومساعدتها على إنهاء اعتمادها على الفحم (الكربون) لتوليد الكهرباء , في وقتٍ تنظر فيه الرئاسة الفرنسية للزيارة على الصعيد "الجيو- استراتيجي" , وتندرج – بحسب قولها - في إطار رغبة باريس في "تخفيف القيود المفروضة على جيران روسيا وفتح المجال أمامهم ليقوموا بخياراتهم".