لطالما كانت "الديمقراطية" في تركيا تشكل نقطة ضعف وخاصرة رخوة أمام الإنتقادات الأوروبية والأمريكية, وتم استخدامها كورقة ضاغطة على المواقف التركية, ووسيلة لتبرير منعها من الوصول إلى تحقيق غاياتها ومصالحها.
الأمرالذي تلقفه الرئيس إردوغان, وحاول حرف دفة القيادة الداخلية بهدف تدميرهذه الورقة وسحبها من يد مستخدميها ضد بلاده وإدارته, وسار في إتجاهات تلبي وتحقق "معايير الديمقراطية" المدمرة التي يدعيها الغرب, واستطاع تحقيق تقدمٍ كبير في مضمار المنافسة السياسية بين الأحزاب التركية, وعلى صعيد احترام الحقوق المدنية للناخبين، وشفافية الإنتخابات الداخلية.
واستغل نتائج الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً, وفوز مرشحي المعارضة في المدن الكبرى وفي مناطق الفوز التقليدي لحزب التنمية والعدالة, وكذلك استغل التغييرات الحاصلة في البرلمان التركي, لإثبات تطور التحول الديمقراطي, على الرغم أن النتائج جاءت نتيجة الإنقسام السياسي الداخلي حول الأزمات المالية والإقتصادية، وتفشي الفساد والرشوة في صفوف مسؤولي حزب العدالة والتنمية, بالإضافة للسياسات الخارجية الخطرة للرئيس إردوغان.
ومن أجل تحسين صورة نظامه أمام العالم والولايات المتحدة, اعترف إردوغان بهزيمة حزبه وانتصار خصومه, وخصوصاً بنجاح حزب العمال الموالي لأمريكا، معتبراً أن "إرادة الشعب والديمقراطية في تركيا قد انتصرتا", وقرراحترام نتائج الانتخابات البلدية ووعد بتصحيح "الأخطاء التي ارتكبت", لإثبات حدوث التغيير الداخلي كما يشتهي الغرب, على أمل إعادة دفع مختلف العلاقات التركية وتطويرها مع الولايات المتحدة وأوروبا, وعينه على تليين موقف إدارة بايدن حيال الإجراءات الوقائية لوزارة الخزانة الأمريكية و"العقوبات الثانوية" التي فرضتها على تركيا عام 2023, في وقتٍ يخشى فيه الرئيس إردوغان من تفاقم هذه الأوضاع, وإتجاه البلاد نحو إنتخاباتٍ مبكرة, تُنهي حياته السياسية بهزيمة أمام ألد خصومه.
على الرغم من أن ثلاثية عوامل الدستور والعمر وصحة الرئيس إردوغان تفرض مجتمعةً ما يبعده عن الترشح مجدداً لرئاسة تركيا, لكن سنوات بقائه حتى نهاية ولايته الحالية, قد تحمل من المفاجئات و"الإبداعات" الكافية لإختراق جدارهذه الثلاثية, فضلاً عن كونه يمثل حزباً قوياً ولا يزال يحتفظ بالكثير من المؤيدين وبالقدرات التي تساعده على بقائه في دائرة المنافسة على معقد الرئاسة, عبر شخصيات حزبية وسياسية أخرى.
ولوحظ مؤخراً, تسيط الصحافة التركية الضوء على صهره سلجوق بيرقدار، أحد مؤسسي شركة بايكار التكنولوجية, المعروفة بتصنيع طائرات "بيرقدار" بدون طيار, التي تلقى رواجاً وأهميةً بالنسبة لعديد الدول, ناهيك عن كونه من مؤيدي المسار السياسي لإردوغان, المرتبط بالإستراتيجية العثمانية الجديدة, وبإظهار وجه تركيا الإسلامي, وتأييده العلني للقضية الفلسطينية, ورفض العدوان الإسرائيلي على غزة, ويحظى بثقة الرئيس إردوغان للحفاظ على ما يدعوها "إنجازاته" الشخصية والسياسية والحزبية, واستمرارها في مرحلة ما بعد إردوغان.
لا يمكن الجزم بأن التحولات الداخلية في تركيا هي من محاسن الأمور أم سيئاتها, خصوصاً في زمن العدوان الإسرائيلي على غزة, وأثرها على نتيجة الانتخابات, في وقتٍ يرى فيه البعض أن حزب العدالة والتنمية "خذل الشعب الفلسطيني"، واستحق العقاب الداخلي.
إن موقف تركيا – إردوغان المعلن من العدوان الإسرائيلي على غزة, اتسم بخطابٍ سياسي صاخب عالي النبرة, ترافق بتصريحات وإتهاماتٍ لفظية لرئيس وقادة الحكومة الإسرائيلية, بإرتكاب الإبادة الجماعية وجرائم حرب في غزة، وعشرات الإتهامات... لكن الأفعال غابت وانحصرت بالإعلان عن فرض العقوبات على "إسرائيل"، وبعرض تركي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع عبر الطائرات العسكرية التركية, لكن طلبها قوبل برفضٍ إسرائيلي أثار حفيظة واستهجان الوزيرهاكان فيدان الذي لم يجد لهذا الرفض مبرراً, متجاهلاً مواقف بلاده المشابهة وتأييدها للحصاراً الذي فرضته أذربيجان على ناغورنو كاراباخ على مدى 14 شهراً امتدت من تشرين الثاني 2022 إلى أيلول 2023.
قد تختلف الاّراء حول مدى دعم تركيا للقضية الفلسطينية ولحركة حماس, ومدى صدقها وكفاحها لوقف العدوان على غزة, ولإيجاد حلٍ سياسي عادل يضمن قيام الدولة الفلسطينية, وإستعادة كافة حقوق الشعب الفلسطيني, بما فيها حق تقرير المصير, دون تجاهل حقيقة العلاقات التاريخية والإستراتيجية والعسكرية والتجارية وغيرها مع الكيان الإسرائيلي, ودون تجاهل أطلسية الدولة التركية ودورانها في الفلك الأمريكي, خصوصاً بعدما بات الجميع يدرك أن الولايات المتحدة هي صاحبة وقائدة مشروع العدوان على غزة برمته, وما رافقها من مشاريع خبيثة كالتطبيع, كإستهداف قناة السويس, ومشروع قناة بن غوريون والممر الإقتصادي الهندي, والسيطرة على غاز السواحل الفلسطينية وسرقته.
كذلك لا يمكن تجاهل الدعم التركي وسفن أطنان المساعدات الغذائية كالخضروات والبندورة التي أرسلتها أنقرة إلى تل أبيب, لكسر حصار المقاومة للكيان, بما يؤكد دعم تركيا له في عدوانه على غزة, في وقتٍ تتحدث بعض المصادرعن مساعدات عسكرية وأمنية واستخبارية لا تزال تقدمها تركيا للكيان, فعن أية عقوباتٍ تركية يتحدث الأتراك, وأين منها إعلان استخدام الضغوط الاقتصادية وقطع العلاقات التجارية مع الكيان في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتعنته ورفضه وقف إطلاق النار الدائم, واقتحام رفح.
لا يمكن الرهان على صدق العقوبات التركية بعيداً عن التوجهيات والإملاءات الأمريكية, وعليه أتى تهديد وزير الخارجية الإسرائيلي بإتخاذ الحكومة الإسرائيلية إجراءات انتقامية بحق من يؤثر على الحد من استيراد البضائع التركية وتصدير المنتجات الإسرائيلية إلى أنقرة, وأكد "عدم خضوع إسرائيل للعنف والإبتزاز", وبأنها "لن تتسامح مع الانتهاك الأحادي للاتفاقيات التجارية مع تركيا".
كم يبدو سخيفاً مشهد تجميد "اسطول الحرية 2" الذي تقوده تركيا, بمشاركة عدد من دول العالم, بهدف كسر الحصارعن قطاع غزة, بعدما رفضت سلطات العدو السماح له بالوصول إلى شواطئ غزة, علماً أن الإسطول لم يتحرك حتى الاّن, وتصر السلطات التركية على حسم الشق القانوني المتعلق بالأعلام التي سترفعها سفن الإسطول أثناء عبورها المياه الدولية والإقليمية، وسط قرارغينيا بيساو المفاجئ والغامض بسحب أعلامها عن سفينتين مشاركتين بنقل المساعدات, نتيجة ضغوط ٍ إسرائيلية لمنع انطلاق الأسطول, وتتذرع تركيا بقانونية الأعلام, لعدم منح إسرائيل أية مبررات لمهاجمة الإسطول, في وقتٍ أنهت فيه الولايات المتحدة أعمالها لإنشاء الرصيف أو الميناء البحري العائم, وسيتم إدخال المساعدات إلى القطاع بعيداً عن تدخل تركيا.
من الواضح أن الولايات المتحدة لا تريد التسرع بمنح تركيا أي دور وفرصة للتدخل في ملف الصراع ويوميات ومفاوضات العدوان على غزة, بصفة شريك أو حتى وسيط وبديل لقطر, وقد أثار منعها من إقتحام هذا الملف, غضب واستياء وزير خارجيتها الذي سارع لإطلاق تصريحاتٍ نارية غاضبة, أكد من خلالها أن بلاده "لن تترك القضية الفلسطينية على أكتاف الدول العربية فقط، وستتحمل مسؤولياتها تجاهها", وأطلق تحذيراته على شكل وعيد بحروبٍ أخرى, في تلميحٍ قوي لإستهداف الوجود الأمريكي في سوريا, ولا يمكن استبعاد تدخل الإستخبارات التركية واستخدام نفوذها وأدواتها داخل تنظيم جبهة النصرة, لدفع أدواتها للتظاهر مجدداً ضد أبو محمد الجولاني زعيم تنظيم جبهة النصرة - هيئة تحرير الشام الإرهابية المدعومة من واشنطن, في الشمال الغربي لسوريا.
إن استقبال تركيا مؤخراً وفداً حمساوياً, سمح لـ هاكان فيدان للإعلان بأن حماس ستتخلى عن السلاح في حال الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية, في محاولة لإظهار قدرات تركيا على المشاركة في الحل الدولي المؤيد لوجهة النظرالأمريكية, وبما يشكل نوعاً من الغزل تجاه واشنطن والرئيس بايدن, للقبول بدورتركي يتجاوز الإعتراف بإستقلال فلسطين ضمن حدود 1967, وبالقدس الشرقية عاصمةً لها, ويصل حد طرح فكرة أن تكون تركيا دولة إنتداب دولي وضامن للأمن, تضمن لها نشر قواتها "لحفظ السلام" في شواطئ غزة, أمور تشي بحقيقة إهتمام إردوغان بالغاز الفلسطيني على حساب القضية الفلسطينية, في وقتٍ تبقى فيه الإندفاعة التركية مرهونة بإتفاقٍ أمريكي – تركي, يأتي في سياق طبيعة علاقاتهما الثنائية على قاعدة "السيد والعبد".
م. ميشيل كلاغاصي // كاتب وخبير استراتيجي