جهينة نيوز:
عندما نتحدث عن التراث الشعبي الموسيقي الدمشقي فإننا نعني تلك الأغاني والأهازيج والمواويل والأنغام التي رددها أبناء دمشق جيلاً بعد جيل وغنوها في أفراحهم وأحزانهم وسهراتهم حتى نميز هذا التراث عن التراث الشامي والتي تعني في الغالب الفن الموسيقي في بلاد الشام ككل.
ويعتقد بعض الباحثين أن عمر هذا التراث لا يزيد على مئتي سنة على أبعد تقدير لأنه خلال فترة الحكم العثماني على بلاد الشام ضاع العديد من القصائد والموشحات في زمن ساد فيه الجهل والظلام لتخلي هذه الفنون العريقة الساحة لأغان وطقاطيق أبسط وأسهل للحفظ وللغناء ليصبح النقل والاستماع الطريقة الوحيدة لحفظ التراث الغنائي في دمشق.
غير أننا مدينون لقامة موسيقية دمشقية شامخة حفظت لنا تراث هذه المدينة العظيمة من الاندثار و الانقراض أنه الفنان والموسيقي الراحل مصطفى هلال الذي يعتبر أكبر جامع للتراث الغنائي عرفته بلاد الشام وكان سباقاً في وعيه وثقافته ما دفع به للاهتمام بهذا التراث وليقضي 23 عاماً من عمره يحقق ويبحث في أغاني آبائه وأجداده من عام 1944 وحتى وفاته عام 1967.
ولد الفنان مصطفى هلال في دمشق عام 1911 وتعلم في طفولته العزف على آلة الهارمونيكا و العود والقانون وانتسب في شبابه الباكر لعدد من الأندية الفنية والموسيقية وشارك في تمثيل عدد من الروايات على خشبة المسرح وكان في طليعة المشاركين بتنفيذ أول فيلم سوري عام 1931 بعنوان تحت سماء دمشق.
شارك في الحفلات و المهرجانات الوطنية التي تلت جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن وأقام أول مهرجان فني سوري بعد الاستقلال حمل اسم مهرجان الربيع الكبير لينتخب بعدها نائباً لرئيس نقابة الموسيقيين السوريين ثم مراقباً للقسم الموسيقي في إذاعة دمشق التي بدأت إرسالها عام 1947 كما عمل على تأسيس أول نقابة للممثلين وانتخب رئيساً لها في عام 1951.
ذاع اسم مصطفى هلال في أوساط جمهور المستمعين داخل سورية وخارجها عبر برنامج من نشوة الماضي الذي كان يعرض فيه ما جمعه من أغان قديمة للتعريف بالتراث الدمشقي بعد أن ينقح كلماتها و يهذب لحنها دون الخروج عن أصلها ثم يوزعها و يلقنها لأفراد كورس الإذاعة و يرتبها و يسجلها مع الاحتفاظ بطابعها الأصلي.
ترك هلال وراءه عدداً من الأغاني والمقطوعات الموسيقية مثل لحن الخلود ويا حبيبي ونشيد الجلاء وأوبريت حب من التاريخ وقصيدة حلو العيون.
استمر الفنان مصطفى هلال يقوم بجمع وتوثيق الغناء الدمشقي وعرضه على المستمعين حتى داهمته الوفاة وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين بعد أن تمكن من جمع نحو 300 أغنية وأهزوجة شعبية كادت أن تنسى لولا أن الأقدار قيضت شخصاً مثله أمضى نحو نصف عمره وهو يؤرخ لموسيقا مدينته.
ويقول الناقد الموسيقي صميم الشريف إن عملية جمع التراث الشامي التي أرهقت مصطفى هلال كان يرى فيها هذا الأخير واجبا فنيا وقوميا عبر نقل هذا الفن الأصيل من صدور الناس والحفظة والاسطوانات البدائية ثم إضافة المقدمات الموسيقية للأغاني التي حققها دون أن يخرج عن ألحان الأغاني الأساسية وهو أمر لم يسىء للتراث بل أضفى عليه نوعا من الكمال الفني الذي يحتاجه.
ويؤكد الشريف أن التراث الشعبي الدمشقي كاد أن يندثر لافتقاره إلى ما يعينه على الحياة مثل التدوين الموسيقي الذي لم يأخذ به العرب إلا في مستهل القرن العشرين لافتاً إلى أن الاستماع والحفظ أديا لتغيير مستمر في بنية الأغنية وكلماتها ولحنها لأن كل من يسمع الأغنية يضيف إليها شيئاً يتناسب مع حالته ومع الظرف الذي ستغنى فيه كما حصل مع أغنية أمسى على الخير يا بلدنا عندما غنيت للترحيب بالملك فيصل لدى دخوله دمشق عام 1920.
ويوضح الشريف أن عملية جمع التراث الدمشقي التي أرهقت مصطفى هلال لم تكن عملية سهلة وكان كلما عثر على أغنية بادر فورا إلى تدوينها بالنوطة الموسيقية وإذاعتها من إذاعة دمشق في برنامجه الشهير من نشوة الماضي مشيراً إلى أن أول أغنيتين بدأ بهما عمله هما طالعة من بيت أبوها و قدك المياس يا عمري.
ويتابع الشريف أن رحلة مصطفى هلال في البحث عن الأغاني القديمة قادته إلى المغنيات المسنات اللائي اعتزلن الغناء وغنين في الأعراس والأفراح فأخذ عنهن الزغاريد والأهازيج والأغنيات ودار على حفظة الأغاني المسنين من أهل الطرب واستمع منهم مطولا إلى ما يحفظونه من أغنيات فحفظها بدوره ودونها بالنوطة الموسيقية.
ويلفت إلى أن هلال أعلن من إذاعة دمشق وفي الصحف عن جائزة مالية مقدارها مئة ليرة سورية لكل من يقدم له أغنية شعبية شامية تراثية فحصل من وراء ذلك على بضع عشرة أغنية منها أغنية يا سمك بني.
ويوضح الشريف أن رحلة البحث والتوثيق أفضت بمصطفى هلال إلى الاعتقاد أن كثيراً من الأغاني العربية التراثية أصلها واحد ولكن غنيت بلهجات مصرية و فلسطينية وسورية وكذلك الأمر بالنسبة للألحان التي كانت تتعارض مع بعضها بعضا في الأغنية الواحدة أحيانا مما دفعه للدراسة والبحث والتنقيب في أصل كل أغنية إلى أن توصل لوجود رابطة قوية بين بلاد الشام والعراق ومصر أدت إلى انتقال وتبادل هذه الأغاني وشيوعها في الأقطار المذكورة عن طريق السفر والسماع والمشافهة.
ويشير الشريف إلى أن مصطفى هلال رجع إلى أصول أداء الأغنية الشعبية الشامية فانتشلها من حضيض الملاهي وطبق عليها أسلوب الغناء الشعبي كأغنية للمجموعة كورال يتناوبون على أداء الأغنية ثم أعاد تسجيلها ثانية بأسلوب الأغنية الشعبية الدارجة بالاستعانة بمطربين شباب فظهرت أصوات سورية جميلة أمثال أحلام وكروان وياسين محمود.
بدورها تؤكد الباحثة الموسيقية الهام أبو السعود أن الأغنية الشعبية في دمشق عرفت ازدهاراً حقيقياً على يد الفنان مصطفى هلال الذي انصرف إلى إحيائها خوفاً عليها من الاندثار معتمداً في ذلك على المجموعات الرديدة أكثر من اعتماده على الغناء الإفرادي.
وتلفت أبو السعود إلى أن هلال كان يلجأ في تقصيه عن الأغنية الشعبية إلى مصادر كثيرة من بينها كبار السن والمناسبات الاجتماعية كالزواج والمباركة والمبارزة والولادة والنزهات وغير ذلك موضحة أن هذه المناسبات شهدت ولادة العديد من الأغاني الشعبية الجميلة التي تعكس حياة الناس وتترجم مشاعرهم كما استوحى الفنان الراحل عمر النقشبندي موسيقى رقصة ستي من السهرات الخاصة بالنساء والتي عايشها أيام طفولته.
وستبقى أغاني مثل ليمونة عالليمونة وآه يا أسمراني اللون وعالصالحية يا صالحة وعلى دقاقة البن وتعي عالفي وتحت هودجها وشفت الحلوة ودومك دوم وسواها من الأغاني التي إلى وقتنا هذا نسمعها من مطربين كبار ونرددها من حين لآخر مدينة إلى فنان دمشقي كبير حفظ لمدينته تراثها ونقله إلى الأحفاد ليصبح ما غنته الجدات والأمهات والصبايا الدمشقيات جزءاً أصيلاً من التراث العربي الموسيقي برمته.