لم تكن الحجامة يوماً، حكراً على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، فقد عرفها الفراعنة والإغريق القدماء والصينيون والبابليون، كما تشير بعض الدراسات الحديثة، «كمزاولة» طبية لعلاج بعض الأمراض، لها تقاليدها وأدواتها.. وهي تندرج ضمن «المعارف» الطبية وأساليب المعالجة القديمة، التي كانت متداولة عند أهل الطب في تلك الأزمنة.. ولا يختلف الأمر كثيراً عند العرب والمسلمين فيما بعد. ولكن الحجامة أخذت أشكالاً مبالغاً فيها عند بعض «معاصرينا الجدد» الذين جيّشوا لها ما في استطاعتهم بالقول: إن فيها شفاء لكل داء، ما يثير جدلاً علمياً وطبياً ودينياً نحاول في هذا المقام أن نتلمس بعض وجوهه وحقائقه.
جهينة- غسان شمه:
الحجامة والتراث
الحجامة هي عملية امتصاص الدم الفاسد من جسم الإنسان كما يقولون، باستخدام أدوات معينة. وهذه الأدوات اليوم هي الكؤوس المفرغة من الهواء، التي توضع على مواضع معينة في الجسم، ولاسيما الظهر، لمدة محددة ثم يشرط المكان بمشرط معقم عدة مرات لينساب الدم الفاسد خارج الجسم.
وقد ورد في الصحيحين عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطي الحجّام أجره. كما روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي قال: الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي.
وهناك الكثير من الأحاديث التي تم نقلها عن النبي، حول الحجامة وفوائدها ومواقيتها، لفتت نظر الأئمة والعلماء منذ زمن بعيد، وأكدوا أن بعضها ضعيف بأسانيد ضعيفة.. كما يشير ابن القيم الجوزية في كتابه الطب النبوي على سبيل المثال، حيث يستطيع المرء في هذا الكتاب وغيره الوقوف على جانب كبير مما نشير إليه.. ولكن من الثابت أن النبي ص قد احتجم وفي أكثر من مكان لأسباب علاجية، كما يؤكد العالم الجليل ابن القيم الجوزية الذي يشير في كتابه أيضاً إلى الخلافات في تحديد أفضل الأوقات لممارسة الحجامة بين منتصف الشهر، والثلث الأخير منه، أو في أيام محددة وومن الشهر ومن يؤكد أنها تنفع في أي وقت إذا كانت للعلاج..
وقبل الذهاب إلى أهل الاختصاص في المعرفة الدينية والعلمية، نتوقف عند عدة تجارب، تعكس آليات تفكير وطرق تعامل وتقبّل أو رفض، وهي ذات دلالة على مناخ عام.
تجارب وآراء
الحاج س: خفت من سوء التعقيم...
هو رجل كبير في السن، وله قناعة راسخة في فوائد الحجامة، وقد احتجم عدة مرات، لكنه يروي لنا مغامرته الأخيرة التي تدل على أسلوب عمل البعض، الذي يعدّ بمثابة إنذار للفوضى الحاصلة في هذا المقام.
يقول الحاج س: اعتدت كل عام أن أقصد أحد شيوخ الجوامع المعروف بسلوكه الطيب وتواضعه وخبرته في هذا المجال، لأقوم بالحجامة بعد صلاة الفجر في منتصف الشهر العربي في مثل هذا الوقت من كل عام، إلا أنني فوجئت هذا العام بوجود أكثر من شخصاً، وقد توزعوا بين غرفة الجلوس والممرات والمطبخ، بالإضافة إلى نحو عشرين آخرين بانتظار دورهم على الدرج.. ونظراً للفوضى الناتجة عن هذا العدد الكبير من الأشخاص، ولخوفي من قلة أو سوء التعقيم تخليت هذا العام عن إجراء الحجامة، على أمل القيام بها العام القادم وبوجود أعداد أقل.
حسن- موظف: لم أستفد شيئاً
يقول حسن الذي يعاني من أوجاع بالظهر والمفاصل: قمت بإجراء الحجامة قبل أربع سنوات وتابعت الأمر سنوياً، وآخر مرة أجريت الحجامة كانت في نيسان الماضي عند أحد الحجامين، ولكن لم ألمس أية نتيجة.. بالنسبة لي مازالت الأوجاع نفسها ولم يتغير شيء.
وأضاف: راجعت أطباء، وسألت عن فائدة الحجامة فقالوا لي إذا لم تنفع فإنها لا تضر، ولكن لم يتغير شيء بعد الحجامة.. ربما كانت لا تفيد في مثل حالتي.
مهدي العسلي: فائدتها كبيرة
يقول الشاب مهدي العسلي: إنه كان يعاني من وجع في الظهر، وقد لجأت إلى الحجامة قبل فترة، أجريتها ثلاث مرات خلال السنوات الماضية وهذه السنة فقط لم أقم بإجراء الحجامة. ويؤكد العسلي أنه لمس نتيجة جيدة وشعر بالراحة بعد الحجامة، وأن فائدتها كبيرة بالنسبة له وسيعود إلى الحجامة دائماً.. وهو على قناعة كبيرة بفائدتها.
ياسر: لا أفكر بإعادتها!
يقول الشاب ياسر ح موظف إنه أقدم على إجراء الحجامة قبل سنوات طويلة بدافع من الكلام الذي قرأه وسمع به حول فائدتها، ولكنه لم يشعر بأي شيء بعد الحجامة، ولم يجد أنها تقدم أية فائدة رغم الإقبال الشديد عليها، سواء حين ذهبت إلى إجرائها في مكان معين.. أو حتى ما أسمعه من إقبال شديد عليها اليوم.. وأنا لا أفكر بإعادتها لأنني لم أجد فيها ما قيل عنها.
ولكن ياسر حمزة أصرّ على رواية حادثة وقعت لجاره الشاب، حين ضعف نظره نصحه البعض بالحجامة، ولأنه كان فاقداً الأمل ذهب إلى هذا الخيار، وقالوا لنا إن نظره تحسن.. لكنه مات بعد ثلاث سنوات دون أن يعرف أحد سبب موته، وحقيقة لا ندري ماذا حدث وكل ما سمعنا به كان كلاماً..!
رامي: لست مقتنعاً بها
يقول الشاب رامي: أسمع وأقرأ الكثير حول هذا الأمر، ولست على يقين حاسم، لكنني متأكد أن مثل هذا الأمر مخيف من الناحية الطبية على الأقل، وأنا لن أقدم على مثل هذا العمل، لأنني أكاد أفقد ثقتي بالطب والمستشفيات بعد كل ما نسمع، فكيف برجل لا ندري بأية طريقة يعقم أدواته. أليس من الممكن أن ينقل إلينا مرضاً ما؟!
محمد قاسم: الحجامة من العادات
الصحفي محمد قاسم الخليل- محاضر في كلية الشريعة سابقاً، يقول: تعتبر الحجامة من الأساليب البدائية في الطب، وكانت العلاجات تقوم على ثلاث طرق وهي الحجامة والكي والأشربة.
وكانت موجودة قبل عصر النبوة، وعندما تقدم الطب في العصرين الأموي والعباسي لا نجد لها ذكراً، ثم عادت في العصور الوسطى، والعجب العجاب أن تعود الحجامة إلى الواجهة في أواخر القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وما يثير العجب أكثر أن يعتبرها بعضهم سنة يجب اتباعها، وهم في ذلك يجهلون أو يتجاهلون من جانبين، جانب يتعلق بالمقصود من السنة، وجانب الخلط بين أعمال الناس العادية وبين ما فعله أو قاله النبي حول أمور الدنيا.
فالسنة تكون في العبادات والتقرب بفعل إلى الله تعالى، كالصلاة والصوم والحج، ويتبعها من السنن قيام الليل أو صلاة الضحى وصيام عاشوراء والعمرة، وكذلك الصدقات المتنوعة من الأموال بعد أداء الزكاة المفروضة.
بينما لا يمكن اعتبار العادات، كالأكل والشرب والمشي والعلاج والتطبيب من السنن، وطبعاً هناك أمور من العادات ينال عليها الإنسان أجراً إذا نوى بها نيّة طيبة.
وبالطبع يمكن أن نعتبر أمراً من السنة، إذا ورد فيه نصٌ صريحٌ صحيح عن النبي،
وهنا بيت القصيد، حيث يذكر بعضهم أن الحجامة من السنة، وأن النبي ص أمر بها وفعلها وفي ذلك مغالطة كبيرة.
المغالطة الكبرى أن نعتبر أمراً من أمور العادات سنة، ونلحقه بالعبادات.
والمغالطة الثانية لا يوجد نص يحث على الحجامة، أو أن النبي فعلها تقرباً من الله تعالى..
وبالعودة إلى الأحاديث الصحيحة، نجد خمسة أحاديث فقط وردت في صحيحي البخاري ومسلم، حديثان وردا في صحيح البخاري، وثلاثة وردت في صحيح مسلم.
وهناك عشرات الأحاديث التي تحث على الحجامة في غير الصحيحين، وقسم منها أجمع علماء الحديث على ضعفها، بل هناك قسم منها موضوع، ومن يريد التوسع فيها يمكن العودة إلى ما ذكره الألباني، حيث فصّل درجة كل حديث من الصحة أو الحسن أو الضعف، وذكر الموضوع أيضاً وهو المختلق.
عميد كلية الشريعة د. البغا: ليست دواء لكل داء
للوقوف على وجهة النظر الدينية الإسلامية في الحجامة، توجهنا للدكتور محمد الحسن البغا عميد كلية الشريعة، وسألناه عن موقف الدين الإسلامي من الحجامة، وهل هي مجرد عمل إجرائي طبي أم أنها أكثر من ذلك؟ فأوضح لنا: وردت الحجامة في أحاديث الرسول (ص) وأن الرسول احتجم، والحجامة نوعان منها ما يكون بشكل دوري في كل سنة، ومنها ما يكون للمرض مما يعرفه أهل الاختصاص بالحجامة، والذي ورد أن الرسول احتجم، وأنه أصيب بقدمه واحتجم بعرقه، ولكن هل يعني ذلك أن الحجامة واجبة وأنها سنّة وأنها مباحة؟...
يجيب د. البغا عن هذا السؤال الذي طرحه بنفسه: إذا أردنا أن نقول كأصل، فالحجامة تكون على سبيل الإباحة كأصل، فأما إن نوي بها الاقتداء بفعل الرسول ص بجعلها دورية كل سنة، فهي سنّة لكن نسميها سنّة اتباعاً... يعني لابد من نيّة الاقتداء عند الفعل.
وحول قول البعض، وإشاعة أنها دواء لكل داء، يقول الدكتور البغا: ما عرفت هذا ولا سمعت به. الحجامة عبارة عن عملية أو إجراء يتم في محله المعروف طبياً... ولها فوائدها ولها شروطها، ولكنها ليست دواء لكل داء، وهذا يتعارض مع حديث رسول الله ص ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواءه... وهذا يعني أن الأدوية متعددة، كما أن الداء متعدد، ولا سبيل للقول بأنه يُحتجم لداء بالحجامة، ولم يرد هذا بالمصادر المختلفة.
ويضيف عميد كلية الشريعة: إن قرر الطب لزوم الاحتجام للمعالجة، وتعيّن هذا فلا بأس به كدواء من الأدوية، وقد ورد أن الرسول ص احتجم في عرق قدمه، واحتجم في رأسه... ولكن ينبغي في هذا أن يحدده المختصون بالطب، حبذا لو توسعنا في طبنا العريق وخاصة الطب النبوي، لا أن نكون معتمدين على الأدوية الكيماوية التي قد يكون لبعضها آثار ليست مُرضية، بينما ينشط الآخرون اليوم فيما يسمّى الطب البديل وطب الأعشاب.
الطب العربي كان من أكثر المدارس الطبية نجاحاً دون أن ندخله في الشعوذة والدجل والمهاترات، أو أن نقصره على ذلك، أو نتركه فنسمح للمستهترين والمدّعين بادّعاء الطب العربي.
أما الذين يمارسون نوعاً من الادّعاء والدعاية حول مثل هذه الموضوعات، فيؤكد الدكتور البغا أنه عندما ينظم ذلك تنظيماً دقيقاً، ويتم التوسع فيه خلال الدراسات الطبية المختصة يمكن أن تنشط الأجهزة الرقابية أيضاً في متابعة ومكافحة ظاهرة الادّعاء الكاذب والتغرير بالناس.
ومن جانب آخر يضيف الدكتور البغا: حبذا لو تم الانتباه خاصة إلى مجبري الكسور الذين يتناولون ما يحتفّ بكل ذلك، ويعالجونها علاجاً دقيقاً وناجعاً، مما يمكن جمعه وحفظه ودراسته من الزيادة عليه وتطويره ليكون في غاية الإحكام والإتقان، وحفظاً للحقيقة وترسيخاً للإبداع العلمي الذي يوجد في مثل هذه العمليات.
د. القوتلي: لا نقبل بالإجراءات غير الطبية
اتجهنا إلى نقابة أطباء دمشق للسؤال عن ممارسة الحجامة، وموقف النقابة كجهة طبية وعلمية منها، فقال لنا د. عبد الحميد القوتلي جراحة عامة رئيس فرع دمشق: نحن كنقابة ضد ممارسة الإجراءات والأعمال غير الطبية الحجامة مثلاً من قبل أي شخص إذا لم تثبت صحته علمياً.. هناك أشخاص غير أطباء يمارسون هذه الأعمال، ولكن هذا الأمر ليس من مسؤولية النقابة... نحن نطالب بإيقافهم ولكن ليست مسؤوليتنا، فالنقابة ليس لها سلطة تنفيذية، لأن معظم أولئك الأشخاص غير أطباء..
وأكد د. القوتلي أن الأطباء الذين يخالفون تعليمات النقابة ويجرون بعض الأعمال غير الطبية، تقوم النقابة بالتحقيق معهم وتحويلهم إلى مجلس تأديب للنظر في الأعمال المنسوبة لهم..
مؤكداً مرة ثانية بالقول لسنا مسؤولين عن السماح بها ولا عن منعها.
وأشار د. القوتلي إلى أنه أقيمت قبل خمس سنوات ندوة عن الحجامة وممارستها، وكانت هناك آراء مع وضد، لكن أي شيء لم تثبت فائدته العلمية لا تستطيع النقابة التصريح به، وعادة مثل هذه التصاريح تكون من وزارة الصحة.
ويضيف: إن مهمة النقابة هي ممارسة رقابة على عمل الأطباء وحسن ممارستهم للمهنة.
وحذر د. القوتلي من آثار ممارسة الحجامة قائلاً: إن ممارسة الحجامة من قبل أشخاص غير مختصين وغير مؤهلين تؤدي إلى اختلاطات وأخطاء تحمل الكثير من النتائج غير المرغوب بها، وخاصة عند مرضى الدم المميعين ومرضى السكري.
أخيراً...
أمام كل هذه الواقع سواء الرسمي، أو الموقف الديني الواضح الذي كشف عنه المختصون، نتساءل: لماذا أخذت الحجامة كل هذه الضجة من معاصرينا؟ وهل هناك غايات تجارية تسهل للبعض من الراغبين ببيع الأوهام على حساب العقل والدين والمعرفة العلمية؟
قد يكون من حق الناس اتخاذ القناعات التي يريدون، ولكن من حق الإنسان والإنسانية، والدين القويم، والأخلاق السليمة، على أولئك الراغبين باستغلال فرص سانحة، أن يقفوا أمام ضميرهم الإنساني والديني للسؤال عن مدى شرعية وسلامة هذا العمل الذي يقدمون عليه في الخفاء..!
والأخطر: كيف يستطيع بعض أصحاب شهادة الدال تسويق مثل هذا الأمر باسم العلم والدين وهم يدركون حجم خطره..؟ وإذا كانوا لا يدركون فأية مصيبة تقع على رؤوس البسطاء؟!.