جهينة نيوز-الدكتور عقيل سعيد محفوض
أعلنت الحكومة التركية نتائج الاستفتاء الذي أجري (16 نيسان/أبريل 2017) على التعديلات الدستورية التي راهن أردوغان عليها باعتبار أن "نعم" للتعديلات هي حل حاسم -وبضربة واحدة - لمشكلات تركيا الداخلية والخارجية وحتى التاريخية.
لا بد من الإشارة إلى أن عملية الاستفتاء ليست من أجل إجازة للشروع بـ "النظام الرئاسي"، ذلك أن أردوغان كان يمارس كل الصلاحيات التي تخوله إياها التعديلات موضوع الاستفتاء، بل أكثر من ذلك، وكان هو الدستور وهو الدولة، وهذا أمر يكاد يكون مستقراً في قراءة السياسة التركية منذ سنوات، ذلك أن الدولة تتمركز حول الحزب، والحزب يتمركز حول الرجل، كما يتمركز حوله الإعلام ورأس المال، بالإضافة إلى الطريقة (الصوفية) أيضاً. ومعلوم أن أردوغان كان استنجد بشيخ الطريقة النقشبندية من أجل الفوز في الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول/أكتوبر 2015، بعدما كان قد فشل أو لم يحقق الفوز المطلوب في انتخابات تموز/يوليو من العام نفسه.
كانت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية معروفة سلفاً، ليس لأن لدينا معرفة يقينية باتجاهات الناخبين في تركيا، وإنما لمعرفتنا اليقينية أو شبه اليقينية بأمور عديدة، وهي نقاط عشر، يمكن لها أن تفسر لماذا كانت النتيجة نعم للتعديلات الدستورية.
الأولى:
هي أن كل شيء في تركيا كان يتجه إلى مركزة السلطة وإقامة السلطنة بتأثير مخاوف فعلية أو متخيلة على مستقبل تركيا أو مستقبل العصبة المؤيدة لأردوغان ورهطه ومشايعيه.
الثانية:
ان سردية المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو 2016، تتظهّر نتائجُها العملية بالموافقة على التعديلات الدستورية. ذلك أن أردوغان بحاجة لشرعنة ما قام به ضد "حركة خدمة" التي تتبع الداعية فتح الله غولن، وضد المجتمع (وضد منطق الدولة)، تفادياً لأي نكوص محتمل، إذ إن لديه مدارك تهديد كبيرة بأن الانقلاب عليه لا يزال وارداً!
الثالثة:
هي، ونحن هنا نستفيد من ميشيل فوكو -يؤيده في ذلك نعوم تشومسكي- من ان الفواعل والمتلقين يمكن ان يوضعوا ضمن شروط تجعلهم يقبلون أحداثاً وتطورات معينة بوصفها "حقائق" و" لا تحتاج الى برهان"، وذلك لمجرد تناغمها مع شيفرة للاعتقاد مكرسة، جماعية، ومدروسة. وثمة فواعل ينخرطون في تعزيز مدارك وتوجهات تصب في خدمة "الاقتصاد السياسي للحقيقة"، أو لنقل -بتعبير آخر- في خدمة "إعادة إنتاج" النظام السلطاني. وهذا ما يجعل الـ "نعم" للتعديلات الدستورية من باب الواجبات. وهو ما عززته فتاوى ونصائح وتقديرات دينية صدرت تباعاً في تركيا وخارجها.
الرابعة:
هي أن أردوغان وضع عشرات الآلاف من المواطنين (ربما علينا أن ندعوهم منذ اليوم بـ رعايا) في المعتقلات وطرد مثلهم وأكثر من أعمالهم، وأغلق مؤسسات إعلامية وتربوية وتعليمية وصحية وبنوكاً ومعامل وجامعات ومراكز بحث الخ بتهم "الإرهاب" أو "الكيان الموازي" الخ وهو لا يمكن أن يترك الأمور تسير إلى "لا" على التعديلات الدستورية.
الخامسة:
أقام أردوغان شبكة تفاعلات ريعية وزبانات وعطايا مادية ومعنوية في مناطق مختلفة من البلاد، وركز جهده على مناطق جنوب شرق الأناضول بهدف اختراق الـ "لا" الكردية بواسطة مشايعين كرداً له، وحيث يكثر تأثير الطرق الصوفية (النقشبندية على نحو خاص) الموالية لأردوغان. فضلاً عن أنه أغدق العطايا لتيار دولت بهجلي في حزب الحركة القومية اليميني المحافظ، وللعلم فإن أردوغان كان بدأ نشاطه السياسي في الحزب المذكور. السادسة:
لا توجد معارضة قوية للرجل لا داخل الحزب ولا داخل تركيا، ومنذ انتفاضة جيزي بارك في أيار/مايو 2013 وما بعدها، كان من الواضح أن تركيا تفتقر لقيادات سياسية قادرة على تحويل الحراك الشعبي الكبير المناهض لأردوغان وحزبه إلى قوة سياسية فاعلة، ثم إلى واقع سياسي. كما لو أن تركيا تعاني من "أنيميا سياسية"، وهو ما أفاد أردوغان في أن يكون اللاعب السياسي الوحيد تقريباً في تركيا. وقد قام أردوغان بعملية إزاحة لا هوادة فيها لأي منافسين محتملين داخل مجموعته المقربة، وهو ما حدث للرئيس السابق للدولة والزعيم السابق لحزب العدالة والتنمية عبد الله غول ولرئيس الحكومة السابق أحمد داوود أوغلو وغيرهما.
السابعة:
استفاد أردوغان من لحظة دولية مواتية، أبرزته قائداً منقذاً لتركيا في لحظة احتدام دولية بالغة الخطورة، وظهر أنه القادر على إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وغيرها، وتحقيق مكاسب من كل ذلك. وهذا يعزز مدارك الأمان لدى الرأي العام في
تركيا. بل إنه إلى ذلك يستثمر – في الوقت نفسه- في إدارة مخاوف الناس من روسيا والولايات المتحدة وغيرهما، وأنه القادر على الاستجابة لها. وحيث لا يجد العالم بديلاً عنه في تركيا يمكن التعامل معه أو دعمه الخ
الثامنة:
لحظة إقليمية مواتية أيضاً، وخاصةً أن القوى الإقليمية الرئيسة مهتمة بإقامة علاقات واسعة معه، وهذا ينسحب على إيران، والسعودية، وإسرائيل، وهو يستثمر في إدارة مخاوف الرأي وفواعل السياسة داخل تركيا من تلك القوى الإقليمية، ومخاوف القوى المذكورة من تغيرات "غير محسوبة" داخل تركيا نفسها، ذلك أنها تتعامل مع رجل خَبِرَته ولديها مصالح قوية معه، وليس من أولوياتها أن تقوم بما من شأنه أن ينعكس سلباً على علاقاتها معه.
التاسعة:
الأزمة السورية، وقد مثلت الازمة السورية أزمة كاشفة لحدود رهانات أردوغان في داخل تركيا وخارجها، وما يهمنا هنا هو كيف استثمر الأزمة السورية في السياسة الداخلية، لجهة زيادة الاستقطاب المذهبي والقومي بما يزيد في أعداد ويعزز في تماسك الكتلة الاجتماعية المؤيدة له، وإدارة مخاوف الناس من تداعيات الأزمة على تركيا. واستثمر في ملف اللاجئين لجهة العمالة والتجنيس والتأثير الاجتماعي، وكذلك التأثير في الانتخابات.
العاشرة:
ترهيب الناخبين الذين يمكن أن يقولوا "لا" للتعديلات، وقد تحدث مسؤولون حزبيون، بينهم كما كيلشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري - بأن ثمة عمليات تزوير واسعة النطاق في العملية الانتخابية. ومن الواضح أن حزب العدالة والتنمية غير بعيد عن عمليات من هذا النوع، ليس لأن ذلك من أخلافه السياسة فحسب، وإنما لأنه واجب فقهي وسياسي أيضاً، على قاعدة التمكين. ثمة مداخل عديدة لتفسير كيف أن ما جرى في تركيا يوم 16 نيسان/أبريل 2017 هو تظهير لعملية امتدت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في بداية القرن الحادي والعشرين، وهو في جانب منه نكوص من الجمهورية إلى السلطنة، ليس بفعل فاعل (سواء أكان
رجل أو حزب أو تيار شعبي) فحسب، وإنما هو نوع من "مكر التاريخ"، إذ إن أردوغان يستخدم في سعيه إلى الدولة السلطانية أدوات ووسائل مشابهة كان مصطفى كمال أتاتورك استخدمها في تفكيك السلطنة وإقامة الدولة الجمهورية قبل حوالي مئة عام (1923).
مركز دمشق للأبحاث والدراسات "مداد" www.dcrs.sy