جهينة نيوز:
لم يكن اغتيال الكاتب الأردني "ناهض حتّر" في الخامس والعشرين من أيلول 2016 حدثاً جديداً على تاريخ هذه المنطقة ,ولم تكن طريقة تعاطي الشارع , ذو الوعي الإعلامي, مختلفاً عن اليوم الذي اغتيل فيه مهدي عامل في ثمانينات القرن الماضي أو حين اغتيل حسين مروه أو ناجي العلي أو غيرهم مما رحلوا عنوةً , ولست هنا في موقع المدافع عن أيٍّ منهم , ولي تحفظّاتي على عدة أفكارٍ طرحوها أو تبنّوها خلال مسيرتهم , ولكن ما يستوقفني هو الشكل الخفي والمتعدد الأوجه للصراع الحاصل في المنطقة والذي يحصد معه هذه الأرواح دون أن يقدح فينا رغبة مراجعة البنية المؤسِّسة لهذا الصراع , والتي تؤمّن بدورها استمراره , ليظهر الحاضر كأنّه معلّقٍ بين لحظتين لا ثالث لهما , الأولى هي "الماضي القريب" والثانية "الفوضى" والتي تعني بدورها غياب البنية أو الدولة التي سبقت نشوب هذا الصراع بوصفها الطرف المقابل للفوضى , دون محاولة لتفكيك هذه البنية التي أنتجت هذا الصراع أو أسّست له أو ربّما تسلّل إليها حين ظنّت أنها قادرة على أن تبقى خارج التاريخ.
إن استمراء حالة الطائفية التي حوّلت الدولة إلى "دولة طائفية" أو "دولة طوائف" ليصار إلى استبدال طرفي العقد الاجتماعي من "فرد - دولة" إلى صيغة "طوائف - دولة" ومن ثم التأسيس على هذا الحال من خلال المحاصصة الطائفية بشكل علنيٍ كما هو الحال في النموذج اللبناني أو بشكل خفيٍّ , ومن ثم التحوّل للدفاع عن هذا النموذج في كتابات المنظّرين والمفكرين بوصفه نموذجاً فريداً من نوعه , ومحاولة تدجينه بنماذج غربيّة أو شرقيّة في مراحل لاحقة , إلى إن وصلنا لمرحلة تفكّك هذه البنى حين دارت رحى الحرب الحاصلة اليوم في العالم العربي , إضافةً لتناول هذا الصراع الحاصل من وجهة نظر أن تلك البنى السابقة كانت الصيغة الوحيدة الضامنة لعدم حصول هذا الصراع متناسيين أن تاريخ هذه المنطقة هو تاريخ صراعات لا تاريخ سلام , ولست هنا بصدد الحديث عن سبب كون هذه المنطقة هي منطقة صراع دولي بل نحاول تفكيك البنية التي تتقبّل حصول هذا الشكل من الصراع , والذي يكرّر نفسه كل عقدين إلى ثلاثة عقود يدار وفق الجيوبوليتيك ولكن على حاملٍ طائفيٍّ , ليس لأن غياب الدولة يعني اقتتالاً طائفياً بل لأنّ كل الايدولوجيات المطروحة اليوم هي ذات عقل مكوِّن طائفي , ولعل الوضع السوري اليوم قد أبرز الكثير من الأسماء التي انسلخت بشكل علنيٍّ عن فكرها لتعود للعقل المكوّن لها , إذ حوّل العقد الاجتماعي في العالم العربي عموماً شكل الدولة إلى نظام تحاصص وأعطى للطائفة بعداً سياسيّاً , فما عادت الأحزاب أحزاباً سياسيةً بل باتت طوائف سياسيّة ونعود هنا للنموذج اللبناني كمثال , ليتطوّر الحال اليوم ويخرج لنا نموذج يجعل من الطائفة دولةً وهذا هو حال "داعش" التي تمثّل تجليّاً للحامل الطائفي للصراع الجيوبولتيكي ليس على حامل "سنّي - شيعي" فقط بل على حامل "سنّي - سنّي" , إذ تشترك كلٌّ من السعودية و داعش بتبنّيهما للفكر الوهابي , وفي حين تمثّل الدولة السعودية الحالية الدولة الوهابية الثالثة التي خرجت للنور عام 1902م , فإن الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" تمثّل الدولة الوهابية الرابعة والتي في حقيقتها ارتكاس للفكر الوهابي نحو الدولة الوهابيّة الأولى التي تأسست عام 1744م وانتهت عام 1818م على يد محمد علي وبمباركة عثمانيّة , ولعلّ كتابات منظّري داعش غنية بالإشارة لهذا الموضوع من أبو بكر ناجي إلى محمد بن عبدالله إلى أحلام النصر وأحمد الحميدي وناصر الفهد وحمد الريّس وغيرهم واعتبارهم آل سعود منحرفين عن النهج الوهابي الأول.
إن هذا الفكر الذي نقل الطائفة لتصبح هي الوحدة الاجتماعية الأولى وحاول تأسيس الدولة وفق عقل مكوّن طائفي , وإن كان قد تراءى لنا هنا أو هناك ببعد قومي أو يساري أو علماني أو غيرها , يحاول اليوم تأطير الصراع بأطر تجعل من البنية السابقة للدولة هي "النموذج الوحيد والفريد" لإنهاء هذا الصراع , بمعنى آخر السعي إلى تطويع التاريخ ليصار إلى "نمذجة الواقع" أو "وقعنة النموذج" كما حصل في لبنان إبان الحرب الأهلية وكأن تاريخ هذه البنيّة الفكريّة "للدولة" لا يمر عليه تاريخ , لتنتقل القوى التي تنادي بالتقدمية , وفي غفلةٍ تاريخيّة , لتصبح قوى رجعيّة في موقع الدفاع لم تعد تملك من أمرها سوى الشعارات خاصّةً بعد سقوط التجربة السوفيتيّة وسقوط التجربة القوميّة في المنطقة , فبات الصراع بين القوى هو صراع على استمناء الماضي في الحاضر في ظل غياب تام لأي مشاريع تؤسس لمستقبل "الدولة" خارج رهان القوى الدولية الكبرى وخارج البنية الفكرية السابقة والتي باتت بحكم الضرورة خارج السياق التاريخي الحالي.
وإن كان البعض اليوم يرى في النموذج اللبناني حلّاً ويريد تطبيقه في الحالة السورية و أسّس له في الحالة العراقية , لكنه بالحقيقة يبقى هو "صراعاً مؤجّلاً" مرهون برغبة الأطراف لتحويله إلى شكل دموي أو إبقاءه في الشكل السياسي له حسب المتغيرات الدولية والإقليميّة.
ما نريد أن نخلص إليه أنّ التفلّت الحاصل على المستوى السياسي إقليمياً نتيجة حالة التخبّط في شكل النظام الدولي ونوسانه بين حالة القطبية واللاقطبية أو ما بينهما لم يُترجم إلى اليوم في سياق فكري مؤسّس لـ"الدولة" خارج العقل المكوِّن "الطائفي" , وإن كان قد انتج بعض أشكال السلام "العقيم" كما حصل مؤخّراً بتفلّت سعد الحريري من السعودية و رشّح الجنرال عون لرئاسة لبنان , لكنّنا حتى الآن لم نرى تفلّتاً فكريّاً خارج النموذج السابق لفكرة "الدولة" بما يتيح إعادة صياغة العقد الاجتماعي خارج منظور المحاصصة الطائفية العلني أو الخفي.
المصدر جهينة نيوز