جهينة نيوز-خاص
لا يخفى على أحد ممّن عاصروا أحداث لبنان في زمن عراك السبعينات والثمانينات، أن هذا العراك كان طائفي الشكل والمضمون، ولو أنه لم يكن للّبنانيين يدٌ في خلق الشكل والمضمون المختَلَف عليهما بدءاً من عام1975 وحتى عام 1990...فقد وُلد المجتمع اللبناني في العصر الحديث، في بيئة الاحتلال العثماني التي خلقت الكُتل والزعامات، ثم نشأ وترعرع تحت الاحتلال الفرنسي الذي رعى الطوائف والتكتلات...أما النقلة النوعية للبنان من الاحتلال العثماني إلى الفرنسي، فلا بد أن يؤخذ فيها بعين الاعتبار، الفرز الفرنسي الجديد لمكونات شعب لبنان بين جبل وسهل وساحل وداخل، وهذا الفرز ما زال إلى يومنا هذا، يميّز اللبنانيين كلّهم.
"ربيع عربي" خاص بالجمهورية اللبنانية!
ودون الخوض في تفاصيل ما آلت إليه الأمور منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990 إلى أيام قليلة قبل انطلاق ما سمي بـ"الحراك" الشعبي عام 2019، فما كنا نخشاه –ويخشاه كل محبٍّ للبنان واللبنانيين- هو أن تعود صيغة تَقاتُل السبعينات والثمانينات إلى لبنان كلما اختلف جناحان أو أكثر فيه...ولئن أثبت الأخوة اللبنانيون انضباطهم السياسي والطائفي طيلة قرابة ثلاثة عقود مضت، إلا أن لبنان العربي المجاور لسوريا والكيان المحتل، لم يكن مستثنى بـ"إلا" من قبل إدارة "الربيع العربي"، فقطع هذا "الربيع" شوطاً طويلاً من السنوات الخائبة في سوريا، دون أن يتمكن من إركاع هذا البلد –ومعه لبنان- بصيغة "اثنان في واحد"...!...فسوريا مستهدفة لكونها بلد الصمود الأخير في وجه المشروع الأميركي الصهيوني، أما لبنان فقد استُهدف مؤخراً لأن تعريفه منذ قرابة عقدين من الزمن هو لبنان المقاومة المنتصرة على العدو الصهيوني، وهذه المقاومة قامت بدورها الأخوي الطبيعي في محاربة الارهاب جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري، ولم تنكسر، بل اكتسبت المزيد من القوة والخبرة على الأرض، كما حظيت بتسليح جديد كمّاً ونوعاً، الأمر الذي دفع بإدارة "الربيع العربي" إلى إعداد موجة طارئة من "الربيع" للبنان خصيصاً، على أن تكون مواصفات تلك الموجة مختلفة عما شاهدناه في "أربِعة" تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، فكنا –وما زلنا- أمام مشاهد تحدث في لبنان، يظنها المرء الذي لا يسمع الأخبار، "كليبات" جديدة لمطربي "الراب" العربي، أو لوحات "كومبارس" شرقي لأفلام رومانسية أجنبية، أنّى أدرنا معها موجات الفضائيات اللبنانية، نجد لها تغطية إخبارية فائقة الدقّة والاتقان!
لبنان الأخضر نحو الأخطر
وإن صادف الحظ مجيء مسافر إلى لبنان "الحراك"، فلم يعد بالضرورة أن يسأل على الفنادق وأسعارها، ولا على المطاعم وما تقدمه من "ترويقات" ومأكولات لبنانية، ولا على المقاهي وما تختص به من مشروبات ساخنة وباردة و"على المزاج"، بل بات على ذلك المسافر الزائر للبنان على عجل، أن يتجه إلى ساحات المدن المعروفة، ليرى فيها ما كان يريد أن يراه في لبنان، ويستمتع بما قيل له عنه...وإذا تحلى هذا الزائر بعضلات مفتولة، فلا شك سيكون في عيون الجميع في الساحات، لا سيما إذا أسهم بعضلاته في جرّ سيارة ووضعها في عرض الطريق، فمنذ الصباح الباكر ستكون "ترويقته" على حساب "الشباب والصبايا" بألذ مما يمكن أن تقدمه له مطاعم زحلة وشتورا وضهور الشوير وجونيه، وفوق "الترويقة" أغنية "لايف" لفيروز أو صباح، مع دبكة لبنانية على الهواء، لا أحلى ولا أجمل، يتلوها غداء عمل "نضالي" تطغى روائح مشاويه على كل مشاوي الشرق، بما فيها مشاوي "أبو نعيم" و"أم شريف"...!...وكل ذلك ليفهم اللبناني والعربي والأجنبي "الحليف" أن لبنان "الحراك والمطالب الشعبية"، قد ألغى العنف و"الطائف" و"الطائفية" إلى الأبد، وأحل محلّها السلم و"السلمية"...
ولا شك أن إلغاء الطائفية أمرٌ سحري ومذهل ورائع للبنان الشارع ولبنان الإدارة والحكم، ولكن هل تنبّه "الحراكيون" اللبنانيون إلى أنهم أضافوا إلى طوائفهم طائفة جديدة ليست من صنعهم هي "الثورة"؟!...وهل لاحظوا أن ثورتهم هذه، هي على المقاومة؟!...
(كلّن يعني كلّن)...من المقصود؟!
لقد أكّد جميع "الثائرين" و"الثائرات" أن ثورتهم هي على كل دوائر الفساد في لبنان، بدليل شعار "الثورة" (كلّن يعني كلّن)...وهذا لا بأس به ألا يُستثنى فاسد من الحساب...ولكن في الأيام القليلة الماضية، فقد تمخضت "ثورة" لبنان عن "أبطال" أشعلوا أثير "اليوتيوب" –ومعه أثير فضائيات لبنان "الحر"- بيوتيوبات أكّدوا فيها أن (كلّن يعني كلّن) ليسوا إلا حزب الله المقاوم وحركة أمل...!...كما استفاض أولئك "اليوتيوبيون" في الشرح أكثر –لمن لا يفهم- فضموا إلى حزب الله رئيس الجمهورية "الماروني" وصهره وزير الخارجية جبران باسيل ...!...نعم لقد جلبوا كل هؤلاء من "عظة" يوم الجمعة و"قدّاس" يوم الأحد في الكنيسة المارونية، إلى أول دشمة قتالية في الجنوب ضد العدو الاسرائيلي!... وحتى "سعد الحريري" فقد أخرجه "الثوّار" من دائرة (كلّن) على أنه لا شيء أمام حزب الله و رئيس الجمهورية ...!...وبالتالي فقد اشتغل الاعلام –بأجنحته الثلاثة، "الثائر" والمحايد والحكومي- على موضوع الفرز المخادع للشارع اللبناني، الذي بات الآن -بقدرة قادر- مقسّماً إلى طرفين هما "الثورة" (اللبنانية) و"المقاومة" (؟؟؟)...!...وبالتأكيد، فستفعل هذه الحيلة البشعة فعلها في الشارع البريء، لأن "المحتالين" قد ربطوا تحقيق مطالب المظلومين المغبونين بمقاومة المقاومة.
بين وعي المقاومة وجهل "الثائرين"
وبالنظر إلى الوضع اللبناني، من حيث تصدي لبنان المقاومة لأطماع العدو الصهيوني، ومساندته لسوريا قائدة الحرب على الارهاب في المنطقة، ومن حيث سوء الحالة الاقتصادية والمصرفية وما شابه من أزمات لبنانية مألوفة...فقد لا يكون هناك مهرب من شرّ القتال، ولئن تقوم المقاومة الآن –وبعدة أساليب مدروسة- بتوعية الشارع "الثائر" إلى خطأ ما يرتكبه، فقد تكون بمأمن من قتال قد يقع في أية لحظة، لأن هذا النوع من الثورات مجهولة المحرِّك والقيادة، يأكل أبناءه المخدوعين في حالتيْ النجاح والفشل، في الوقت الذي سينجو فيه الواعون والمدركون لما يجري، وبالتالي فالمجتمعون في الساحات والقاطعون للطرق، قد يصبحون أثراً بعد عين، في الوقت الذي تكون فيه المقاومة قد استنفذت أساليب توعيتها لهم وتراجعت نحو مرابضها مرغمةً بفعل حكمتها وعدم نيتها القتال مهما كان السبب، وذلك استعداداً للشوط الثاني من "الثورة" المزعومة، والذي سيكون حتماً بتدخل خارجي...وعندها سيستيقظ المغرّر بهم في الساحات ويطلبون النجدة من المقاومة نفسها...فهل حسبوا لتلك الجولة الحساب؟!
صاحب "الوعد الصادق" صادق!
لقد قالها السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، لـ"الحراكيين"، إن المقاومة لا تخشى على نفسها، بل تخشى على لبنان...فصدِّقّوه أيها اللبنانيون "الثائرون"، ولا تنسوا أنكم كنتم –في الأمس القريب- تنتظرون خطبة أو تصريحاً له، وبفارغ الصبر، لتسمعوا منه خبراً صادقاً، ما تعوّدتم أن تسمعوه من غيره، فماذا دهاكم يا من رعاكم الله وحزب الله؟!
02:16
02:18
02:20
02:24
02:27