جهينة- وائل حسن حفيان
كانت ولا تزال ربوة دمشق المقصد المفضّل للعائلات الشامية، حيث حافظت على مكانها المهم لاستجمام وتنزه السوريين منذ الفترة المملوكية وإلى الآن ، ويتذكر كثير من الدمشقيين نهر بردى حتى بداية السبعينيات، عندما كانت مياهه تفيض في مواسم الأمطار وذوبان الثلوج، وكانوا يتنزهون على جوانبه بقية أيام السنة فيما يُسمى «السيران»، الذي يُعد تقليداً ثابتاً لدى العائلات الشامية، ولكن هناك من يسعى لتشويه الصورة البصرية والبيئية لهذه المنطقة ويرتكب المخالفات من خلال قطع الأشجار والتعدي على الأراضي التي من المفروض أن تكون ملكاً للدولة ، كما يقوم أصحاب المنشآت السياحية برمي فضلاتهم بمجرى نهر بردى، وحتى سكة القطار لم تسلم من هذه التعديات ، إضافة إلى وجود (كازية) تعرقل حركة السير ما يسبب ازدحاماً مرورياً على الطرقات.. «جهينة» زارت منطقة الربوة والتقت العديد من روّادها وأصحاب الاستثمارات وبعض الزائرين.
أين الربوة؟
يقول ماجد أحد مرتادي الربوة: إن «تراسات وغابات استوائية وأجواء عائلية»، عبارات تُكتب على لوحات المطاعم، ولكن أي غابات استوائية يقصدون والأشجار في الربوة تقطع، حتى المنتزه الذي كتب هذه العبارة لا يتوفر فيه أكثر من ثلاثين شجرة، هل هذه سخرية أم هي من باب كسب للزبائن؟ مضيفأ: إن هناك إهمالاً من قبل محافظة دمشق حيث إنها تتغاضى عن هذه الاعتداءات التي تمارس بشكل دائم على هذه الحدائق وبحق هذه المنتزهات المتوزعة على طريق الربوة، إضافة الى الاعتداء على مجرى النهر وبناء جسور بشكل عشوائي، ورمي الأوساخ في مجرى نهر بردى حتى أصبحت تصدر عن المنطقة رائحة سيئة، مشيراً إلى أن النهر تعرّض إلى الإهمال، بالإضافة إلى التهاون في التعامل مع التجاوزات الفاضحة على مناطقه ومياهه من جانب أصحاب المعامل والمطاعم، الذين يلقون فضلاتهم في مياهه، فضلاً عن الإجراءات الخاطئة من بعض المسؤولين، مثل تحويل مياه الصرف الصحي لدمشق وريفها إلى النهر، وإكساء مجراه بالحجر والإسمنت و«البلاط» لاحقاً حين يمرّ بالعاصمة.
تعديات على أملاك الدولة
لاشك في أن مسلسل التعديات على أملاك الدولة وحرمة نهر بردى يشكل خطراً كبيراً يحدق بحقوق الأجيال القادمة، هذا ما قاله أبو محمود أحد ساكني منطقة الربوة ، إذ إن حالة الفساد المنتشرة ساهمت إلى حد كبير في زيادة حالات التعدّي، فكيف لهؤلاء أن ينفذوا القانون، مضيفاً: «ما زاد الطين بلّة» هو افتتاح (كازية) على هذا الطريق الذي يجب أن يكون فارغاً تماماً باستثناء السيارات المارة ما تسبب في اختناق مروري، وهذه الكازية تتوسع بشكل لافت، وخاصة عندما تكون هناك أزمة وقود، مشيراً إلى أن بعض المطاعم أصبحت تفرض (كراجية) على سيارات الزوار.
مشاريع خاصة
يقول (ثائر. ب) مستثمر سابق في مقاصف منطقة الربوة: تبدو مشكلة التعديات على أراضي الدولة وعلى أملاكها واضحة على امتدادها ومنها الاعتداء على السكة الحديدية ومجرى النهر، فضلاً عن أراضي الدولة ، ولعل خير دليل على ذلك قيام عدد كبير من المستثمرين بالاعتداء على الأراضي المملوكة لمحافظة دمشق، والتي تعد من ضمن أملاك الدولة التي يجب عليها حمايتها من تلك الاعتداءات، إذ قام عدد من المستثمرين والمخالفين بالاعتداء على مئات الدونمات من الأراضي المنتشرة على طرفي الطريق، ووصل الأمر إلى إقامة عدد منهم مشاريعهم الخاصة على تلك الأراضي والأبنية الموجودة فيها.
العبث بمجرى النهر
«اعتدنا أنا وعائلتي قضاء يوم الجمعة في الربوة»، تقول السيدة نزيهة . خ، وتضيف: «تجتمع عائلتنا في الربوة، ونأخذ الأغراض اللازمة للتنزه، ونجلس في أحد المنتزهات الشعبية التي تقدم لنا الخدمات بمبالغ لا بأس بها، ولكن هناك مشكلات حصلت في هذه المنطقة، حيث يقوم أصحاب هذه المنتزهات بالعبث بمجرى النهر وقطع الأشجار، أضف إلى ذلك روائح النهر التي تملأ المنطقة وكل هذا بسبب إهمال المعنيين لهذه المنطقة.
بدوره أبو محمود (75 عاماً) من سكان دمشق منطقة الربوة يقول: «كانت الربوة في السابق عبارة عن مصيف يتوجه إليه الدمشقيون لقضاء عطلتهم يوم الجمعة ويتمتعون بجمال الطبيعة الخضراء، ويتظللون بالأشجار الوارفة، إلى أن أصبحت الربوة أماكن للاستثمار السياحي التي عمد المستثمرون إلى الاعتداء على أشجارها ومجرى نهر بردى إذ أصبح مكبّاً لفضلات المطاعم الموجودة في المنطقة، مشيراً إلى أن الربوة مكان لاستعادة الذكريات، حيث نأخذ زاوية نلعب فيها الورق أو طاولة الزهر بعيداً عن حالة اليأس الموجودة في كل مكان من البيت».
رقابة شبه معدومة
أكد (جمال . ف) مستثمر أحد منتزهات الربوة أن الرقابة على أراضي الربوة شبه معدومة وكل صاحب مطعم يحاول أن يتوسّع بمنتزهه على حساب أملاك الدولة، حيث يقوم بقطع الأشجار التي تعطي جمالية للمنطقة أمام أعين المحافظة، مبيناً أن أكثر أصحاب المنتزهات يقومون بمخالفات لكسب المال ورفع سعر الإيجار على المستثمرين.
من جانبه الدكتور زياد مهنا من كلية الهندسة المعمارية يقول: إن منطقة الربوة تتبع إدارياً للمنظومة البيئية لمدينة دمشق لكونها جزءاً حيوياً لنهر بردى ووقوعها بين جبلين، ما يعطيها طبيعة جمالية، كما تعد استراحة لأهالي دمشق، وأي اعتداء على هذه المنطقة يكون له أثر سلبي على طبيعتها ما يؤثر في الثلاثية النهر والجبل والطبيعة، ولذلك يجب إعداد دراسات تأخذ بعين الاعتبار هذه الوقائع.
سياحة دمشق: ضابطة عدلية لحل جميع الشكاوى
(جهينة) التقت المهندس إليان الخوري مدير سياحة دمشق الذي قال: إن القرار رقم 9 لعام 2001 نصّ على تشكيل لجان مشتركة تضم محافظة دمشق ووزارة الدولة لشؤون البيئة ووزارة السياحة تشرف وتراقب جميع استثمارات الربوة، وتقمع أي مخالفة تُرتكب من قبل المستثمرين، مشيراً إلى أن الاعتداء على الأراضي وحرمة النهر يعد مخالفةً تتم تسويتها بما هو معمول به ضمن الأنظمة والقوانين الخاصة بهذه المخالفات، مبيناً أن هناك ضابطة عدلية مناوبة لحل جميع الشكاوى ومراقبة المنطقة والكشف على جميع المخالفات، موضحاً أن اللجان تنظم الضبوط اللازمة والتقارير في حال وجود تعديات أو مخالفات، وتحال إلى الجهة المختصة كل مخالفة لتتم تسويتها.
وأوضح الخوري أن التعدّيات من قبل المستثمرين على النهر والأراضي هي من اختصاص محافظة دمشق، والمسؤول عن مخالفات قطع الأشجار هو مديرية الحدائق، مشيراً إلى أن أي تعدٍّ على الأملاك العامة هو مخالفة ويتم تنظيم ضبوط قد تصل إلى حد إغلاق المنشأة، مضيفاً: إن اللجنة المكلفة مراقبة الربوة جالت على جميع المنشآت السياحية، وأخذت تعهداً خطياً بعدم رمي الأوساخ والفضلات الناتجة عنها في نهر بردى وروافده والحفاظ على مجراه تحت طائلة الإغلاق وسحب الترخيص، موضحاً أن أي مخالفة إغلاق لأي منشأة يتم اتخاذها من خلال التنسيق بين وزارة السياحة ومحافظة دمشق.
وكشف الخوري أنه تم مؤخراً بالتعاون بين وزارة السياحة ومحافظة دمشق البحث في تشكيل لجنة لإعداد مشروع يهدف لتجميل منطقة الربوة بطريقة مدروسة والحفاظ على طبيعة الربوة وتشجيع السياحة فيها.
وأخيراً..
من دون أن ندخل في التفاصيل حول طبيعة المخالفات والتعدّيات على هذه المنطقة، فهذا الموضوع يرتبط ببيئة المكان ومناخه إذ لا يعقل أن تتم عملية الاعتداء على الأشجار بقطعها بشكل منهجي بذريعة ترخيص منتزهات، وتجاوز حرمة ما تبقى من مجرى نهر بردى عن طريق بناء جدار استنادي للمنتزه وردمه بالمخلّفات التي تنتج عن عملية التسوية والتجريف، ناهيك عن بناء جسور فوق مجرى النهر. علماً أن تعليمات وقوانين استئجار المنتزهات في منطقة الربوة تمنع قطع الأشجار والاعتداء على مجرى النهر.
إن كل هذه المخالفات عجزت عن قمعها مديرية الحدائق في محافظة دمشق ليأتي السؤال: أين هي الرقابة والدوريات التي يجب أن يسيّرها المعنيون بحماية الربوة وحدائقها وإلا كما يقول المثل الشعبي «طعمي التّم بتستحي العين»؟!.
يقول المؤرخون والرحّالة عن الربوة الواقعة عند مضيق بين جبلين يحتضنان نهر بردى وفروعه السبعة، إنها قبل 400 سنة ضمّت أربعة مساجد تاريخية ومدرسة قديمة وقصراً مرتفعاً على سن جبل يدعى «التخوت»، وكان فيها أيضاً خمسة مقاصف, وفي عام 1148م أحرق الصليبيون الربوة، ومن ثم تخرّب ما تبقى فيها من قصور الأغنياء خلال القرنين الثامن والتاسع عشر على أيدي الانكشاريين العثمانيين، ولم يتبق من هذه القصور سوى قصر الأمير عبد القادر الجزائري الذي تعرّض بدوره لتخريب كبير قبل ترميمه وافتتاحه كمركز إقليمي لتنمية الإدارة المحلية المستدامة مع قاعة خاصة بالأمير الجزائري.
حسب الدراسة التي أجريت أواخر عام 2013 من وزارة الدولة لشؤون البيئة، والتي اعتمدت على عينات مأخوذة من مياه النهر فإن منسوبه منخفض حتى تحوّل إلى ساقية مملوءة بالأوساخ الصلبة الواضحة للعيان، كما تطفو بعض المواد الصلبة على سطح المياه وتظهر فيها الطحالب، وخلصت الدراسة إلى أن مياه فروع نهر بردى تصنّف على أنها عديمة الجودة وفائقة التلوث والخطورة على الإنسان والبيئة وأيضاً عديمة الصلاحية.