جهينة نيوز
يذكرُ تاريخُ الأدب، أنّ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحين حطّتا أوزارهما، تجلّى فيهما الأدب الذي كتبَ أحزان الناس، وسجّل حالات الفقْد، ورسمَ مشاهد الخراب والدمار، وغصّ بمفاجآت الحرب التي أتت على كل جميلٍ ونبيلٍ، فقد كان الأدبُ هو مَنْ حقّب لهاتين الحربين وما تبعهما من أفكار ورؤى ومشاعر، وقد رأى الجميع ما صنعته الأيدي القذرة، والعقول المُغلقة، والنفوس التي امتلأت بالأحقاد الشائنة.. ومثل هذا الأمر حدثَ قبلاً حين قامت حرب طروادة التي لم تبقِ مُورقاً أو عمراناً إلا وأتت عليه بالنائبات الثقال، ومثل هذا الأمر أيضاً عرفته الحرب الأهلية في إسبانيا (1936-1939) التي طوت بـمِدحَلَتها الجارفة كل شيء بما في ذلك الآمال والأحلام، وقد ذهبَ ضحيتها شعراء وأدباء وفنانون وبشرٌ قُدّرت أعدادهم بالملايين هرباً من الحرب الدموية المتوحّشة.
وقد غدتْ آثار الحرب جليّةً لكل من يمتلك عينين رائيتين، وفي جميع الأمكنة التي انداحت فيها، ومن آثارها مواليدها البادِيةُ على شكل خرابٍ وفقْدٍ وموتٍ وقهرٍ ومخاوف وأذياتٍ ودفنٍ للأحلام وقلقٍ على المستقبل، ولا مُحقّب لهذه الآثار وويلاتها سوى المعرفة، أعني الكتابة والأدب والفنون بعيداً عن الأرقام والإحصائيات، ولعلّها في طليعة المدونات التي حقّبت وتحقّب للحرب بوصفها قطعاً شائناً لمسيرة الحياة، أو قلْ وقفاً لحيوية الحياة واندفاعها نحو الأمام نشداناً للعمران والتقدّم.
كان الأدب بمختلف أجناسه، وهذا لا يعني التقليل من أهمية الفنون الأخرى وأدوارها، وفي أثناء الحرب التي فُرضت على سورية منذ ثماني سنوات، هو من حقّب لها ولكل ما طرحتْهُ من أذياتٍ ومواجع وأسى، وكانت في مُقدمة أجناس الأدب الرواية، ولهذا بين أيدينا (اليوم) أكثر من مئة روايةٍ سوريةٍ تتحدّث عن الحرب كتَبَها أدباء أصحاب تجارب أدبيةٍ كبيرةٍ، وهواة أدبٍ، ومقاتلون عاشوا أحداث الحرب، وأسرى كتبوا يومياتهم ومذكراتهم وسجّلوا بطولات رفاقهم الجنود الذين نالوا الشهادة.
هذه الروايات المئة ليست على سويّةٍ واحدةٍ، وإن كانت تتحدّث عن الحرب، بعضها اكتفى بأخبار الإعلام ومشهديات الصور التي عرفتْها شاشات التلفزة، وبعضها الآخر احتشد بالغضب وقولات السياسة من جهة، ومحبة الوطن الجاهرة بالمباشرة من جهة ثانية، وبعضها فيه أدبٌ يرقى إلى مستوى الروايات العالمية التي حقّبت للحربين العالميتين الأولى والثانية، وفيها احتشاد لمعاني النبل التي أبداها الآباء والأبناء الشهداء وأهاليهم في آن، وبعض هذه الروايات كان مجرد صرخةٍ كبيرةٍ تقول علناً: لا للحرب الدموية المتوحّشة، ولا لخراب سورية وتدميرها بالأيدي السود القذرة.
كل الروايات التي صدرت في سورية هي روايات ملأى ببكاءٍ عميمٍ وغصّاتٍ أليمةٍ ومواجع ضاقَ بها الفضاء وأحزانٍ لم تعرفها البلاد السورية من قبل، وبطولاتٍ نادرةٍ جعلت من تراب الأرض رايات مشى الجنود في ظلالها طلباً للشهادة أو النصر، وقد امتازت هذه الروايات بأنها كانت رواياتٍ سوريةٍ من حيث توزّعها على الجغرافيا السورية، وحديثها عن المواطن السوري الذي صنعَ خنادقه الوطنية بنفسه، ودافعَ عن سورية بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال التنوّع.
وهناك روايات كُتبت عن الحرب على سورية، لكنها صدرت خارج البلاد السورية، ومعظمها شاركَ الإرهابيين إرهابهم، وخرابهم خراباً، وتقوّلاتهم وكذبهم تقوّلاً وكذباً من أجل أن ينضوي كتّابها طيّ ما سُمي «المعارضة».. وهي روايات لا مصداقية لها لأن أكاذيبها تفيضُ من صفحاتها، ناهيك عن روائحها الزاكمة.
ما يهمُّ هنا، هو أن الروايات السورية، المكتوبة عن الحرب والصادرة في سورية، هي الروايات التي قدّرت عافية الجنود ووطنيتهم، وهي أيضاً التي حبّرت بكل النبل والافتخار لجروحهم وفقْدهم وأَسرِهم واستشهادهم، كما أنها ستكون في الأيام القادمة الكتابَ الوطني الذي ستقرأ فيه الأجيالُ الطالعةُ ماذا فعلَ الآباء من أجل وطنية سورية وسيادتها وعمرانها وحضارتها واسمها العظيم.
المصدر: مجلة جهينة العدد 110
03:13