جهينة نيوز
سبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن قال: سأنسحب من سوريا, ثم قرر الإنسحاب, وبالفعل بدأ بالإنسحاب ... لكن الأصوات علت وبدأ الصراع الأمريكي الداخلي في أروقة ودوائر ومفاصل التأثير والحكم في الإدارة الأمريكية, وبدا الرئيس الأمريكي وحيدا ً في الدفاع عن قراره, حاول استيعاب الهجوم العنيف, وأبطئ وتيرة تنفيذ الإنسحاب ومنحه مدةً إضافية, لكن ذلك لم يعفيه من دخول الحلبة, ووجد نفسه في أمام أقوى "الملاكمين", ووجها ً لوجه مع وزير الدفاع جيمس ماتيس وداعميه, ومع بعض الوجوه البرلمانية المتشابهة, فإختلط عليه الأمر ولم يعد يستطيع التمييز بين الصقور والحمائم , وما بين الديمقراطيين والجمهوريين ...
فإستخدم قبضته القوية وأطاح بالوزير المتمرد و"أقاله" من الجولة الأولى، لكن الهجوم لم يتوقف، وبدأت تلوح في وجهه مواجهةٌ جديدة مع المحقق مولر من بعد قضية "مايكل فلين" مستشار الأمن القومي الأسبق، والمحامي "كوهين" وقضية الممثلة الإباحية "ستورمي دانيلز"، فقد ألقت الأجهزة الأمنية القبض على مستشاره المقرب "روجر ستون" بتهمة محاولة التأثير على الإنتخابات، وإعتماده على إتصالات ومعلومات من دولة اجنبية عبر "ستيف بانون" وويكيليكس، يمكنها أن تدين هيلاري كلينتون, إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة... الأمر الذي أعاد "الألق" لإتهامه بالعلاقة مع روسيا.
لم تنته مشاكل الرئيس ترامب عند هذا الحد، خصوصا ً مع وصول السيدة نانسي بيلوسي إلى رئاسة الكونغرس، وبدأ معها إصدار التشريعات التي تضيّق الخناق على قرارات الرئيس وتفرض عليه الإلتزام بتطبيقها، كالتشريع الجديد الذي يعارض إنسحاب القوات الأمريكية من سوريا وأفغانستان، وبدأ عدد النواب اللذين يتحدثون عن كارثية تجديد ولاية ترامب يتزايد، حتى أن بعض داعميه -كاليمينية المتطرفة " اّن كالتر" -أخذوا يتحدثون عن فشله حتى الاّن بإقامة الجدار مع المكسيك.
كعادته هرع الرئيس ترامب نحو إطلاق التغريدات، ووصف ستون "بالشجاع"، والذي كان قد أكد أنه لن يشهد ضد الرئيس ترامب ... لكن الأمور السيئة – لترامب –، تابعت طريقها، ووصلت حدّ تلقيه إنتقاداتٍ شديدة من أعضاء جهاز الإستخبارات المركزية الأمريكية، حيال سياسته في سوريا وإيران وفي الشرق الأوسط عموما ً، الأمر الذي دفعه إلى دعوتهم لتوخي الحقيقة.
لقد أصبح الشرخ واضحا ً بين الرئيس ومفاصل عديدة في الإدارة وما تسمى بالدولة الأمريكية العميقة، خصوصا ً بعدما بدأ الجيش الأمريكي بالإنسحاب من سوريا، والأزمات التي بدأت تتوضح حول عدم جدوى الإنسحاب حاليا ً، ومن دون تحديد من سيملئ الفراغ من بعدهم، ومن دون إيجاد صيغةٍ تمنع إصطدام الأكراد والأتراك، ومن دون جني محاصيل قتال "داعش"، والتي على ما يبدو تذهب دائما ً لصالح موسكو وإيران وسوريا – كما يقول خصوم ترامب -, ناهيك عن إمتعاض سلطة كيان الإحتلال الإسرائيلي, وبعض الأنظمة الخليجية, والتي فقدت كل أفق لتحركها الميداني بعد القضاء على أذرعها الإرهابية, ولم يبق لها سوى المراهنة على دعم بعض الميليشيات الإنفصالية في الشمالي الشرقي لسوريا...حتى أن قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أتى باهتا ً وسريعا ً, ويعكس رغبة واشنطن بالانسحاب لمجرد الإنسحاب, دون أي حصاد مهم في الوقت الحالي أو في المستقبل.
ويبرر خصوم ترامب والمتربصين به، بأن الانسحاب الأمريكي من سوريا يأتي بدون أية ترتيبات أو إتفاقيات، الأمر الذي سيدعم الأحلام والأطماع التركية في شمال سوريا، وسيكون على حساب الأكراد في عفرين ومنبج، وسيتسبب ذلك لاحقا ً بأزماتٍ كبرى مع تركيا، على غرار أزمتها مع إيران بعدما الانسحاب الأمريكي من العراق... في الوقت الذي يرى فيه بعض الخصوم أيضا ً، أن دحر "داعش" والقضاء عليه بشكلٍ نهائي سيصب في صالح الدولة السورية، التي ستتقدم نحو حقولها النفطية ومنابع ثرواتها، ولن تتمنكن القوات "الكردية" أو التركية من منعها.
… يبدو الأمريكيون مترددون ويحاولون البحث قبل إتمام انسحابهم عن اتفاقٍ ما وفائدةٍ ما، كي لا يكون حصادهم بعد سبع سنوات بلا مقابل، وبالتأكيد قد تبحث عن ذلك في جيوب الدولة الإيرانية وربما الروسية أو الصينية، وفي غير ساحات كأوكرانيا أو فنزويلا، والأكيد من جيوب الدولة السورية صاحبة المصلحة الكبرى في خروج القوات الأمريكية من أراضيها...
وعليه تبدو العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على عشرات القطاعات والشخصيات السورية, والتشريعات الخاصة بتطبيق قانون قيصر، الذي يستهدف بشكلٍ مباشر مشروع إعادة الإعمار وقطاع الطاقة والطيران, وما أشيع عن التعويضات بمبلغ 202 مليون دولار التي أقرتها محكمة أمريكية جراء تحميلها الحكومة السورية مسؤولية مقتل الصحفية الأمريكية "ماري كولفين" عام 2012 في مدينة حمص... كذلك العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على شحنيات النفط, وما تقوم به من عمليات قرصنة واحتجاز للبواخر المتجهة إلى سوريا, والحوادث التي تتعرض لها كالحريق الذي تعرضت له – قبل أيام - ناقلتين في البحر الأسود كانتا تتجهان نحو سوريا.
بات من المؤكد أن الإدارة الأمريكية تسعى لمنع تحقيق وإعلان النصر السوري الكبير على الإرهاب الوكيل وعلى دول العدوان الأصيل، بشكلٍ باتت تتضح معه معالم الحرب الإقتصادية على الدولة السورية، والتي من أجلها جاء قرار الإنسحاب العسكري كبديل عن الهزائم التي منيت بها في سوريا، وبات الهدف الواضح من تطبيق القوانين والتشريعات والعقوبات هو التضييق على الشعب السوري والدولة السورية على أمل تركيعها عبر الحرب الاقتصادية…
لن تنال الولايات المتحدة من صمود الشعب والدولة السورية، على الرغم من خطورة وقساوة الحروب الإقتصادية، خاصةً بعد ما يقارب الثماني سنوات للحروب العسكرية والسياسية والإقتصادية، ويبقى الشعب السوري الوحيد في المنطقة العربية، الذي يأكل مما يزرع ويلبس مما يُصنّع ويُنتج، وله تجارب سابقة العقوبات والحصار، ويرى فيها تحديا ً يأبى ألاّ ينتصر بها، ومع التصميم الكبير على إنجاز وإتمام النصر, يبدو من المهم أن يلتف السوريون وراء القيادة الحكيمة والشجاعة للرئيس بشار الأسد, وبتشجيع السوريين على العودة إلى وطنهم, وأن تتضافر كافة الجهود لتحصين الوضع الداخلي بكافة مفاصله, وعلى وجه الخصوص الوضع الإقتصادي, والعمل على تطوير وسائل الإعتماد على الذات, بما يضمن الفوز مجددا ً ودائما ً.