جهينة نيوز:
صيغة لمثل قديم حفظناه وفهمنا معناه من زمن طويل وما يزال حياً ! وفهمنا من معناه أن من يكحل أو يعمي قد يكون فرداً أو حزباً أو سلطة نافذة ، يدّعون تحقيق المنفعة فإذا بها تنعكس أذى وضرراً في كثير من الأحيان ، اما لانعدام الخبرة والرؤية الصحيحة أو لغاية في نفس يعقوب كما يقال !
أتذكر أنني قمت في نهاية ثمانينات القرن الماضي بزيارة عمل الى الاتحاد السوفيتي وكانت اقامتنا في العاصمة موسكو لكننا زرنا مدينة ليننغراد العريقة ، والحقيقة وبغض النظر عما شاهدناه سواء في موسكو أو ليننغراد الا أننا سررنا بأحاديث الصراحة التي كان يتحفنا بها مرافقنا الروسي . ومما قاله لنا أن ليننغراد عانت الأمرين في فترة حصار هتلر لها في الحرب العالمية الثانية حيث قطع عنها كل امدادات المواد حتى الأساسية والتي كان لها تأثير جد هام في حياة المواطن فصارت الجهات الرسمية تقنن في توزيع المواد وخاصة الأساسية واخترعت نظام البطاقات ووصلت حصة الفرد في اليوم من الخبز مثلا الى عشرين غراماً حتى فرجها الله وانتصرت روسية وبدأت روسية تعيد بناء ذاتها مختارة النظام الاشتراكي وصارت دولة عظمى . ونحن ومصر وبعض الدول الأخرى اعتقدنا أن الاشتراكية حل ناجع لرسم ملامح حياة أفضل فاستوردناها معلبة وطبقناها كما أتتنا سواء كان بعضها يناسبنا أم لا فقضينا على الاقطاع والرأسمالية ووزعنا الثروات على مستحقيها كما اعتقدنا حتى أننا التزمنا بتفاصيل لو درسناها جيداً وبفكر علمي متفتح لما فعلناها منها نظام توزيع المواد ذات الاحتياج المعيشي بالبطاقات ( البونات) وحاولنا ايصالها الى المواطن بسعر مخفف على أن تتكفل الدولة بالفارق السعري مع أن الأسلم لنا كان أن نوجد طريقة لتأمين هذه المادة بسعرها المتداول ورفع حصة الفرد من الدخل ولو فعلنا ذلك لما وقعنا في الأزمات التي عصفت بــــنا لا حقاً وعانى منها غالبية أبناء الشعب !
في بلاد كبلادنا وعموم بلدان العرب والاسلام سرعان ما تتدخل الارادات من مدعي الوطنية وفتاوى دعاة الدين فيصبح أن تشارك في تدمير بلدك ثورة ويصبح الحلال حراماً والحرام حلالاً شرعاً ! وسرعان ما ينساق وبسبب قلة الوعي بعض الناس الى الميدان الطائفي ويبدأ تصنيف البشر على أساس ذلك وفي يوم يكون هذا أخ أو أب أو صديق حميم أو جار عزيز فإذا به يتحول فجأة الى نصراني أو شيعي أو حتى سني ولكنه كافر لأنه يكفر بمذهب الامام الفلاني فينتشر القتل والغدر وتتبدد مشاعر المحبة والأخوة ويصبح القتل وخيانة الوطن جهادا ً ؟! لذلك عندما حوصرت بلدنا في ثمانينات القرن الماضي فجأة خـُلقت فئة منها مؤتمنة وفي موقع المسؤولية فاستغلت فارق السعر وصارت تهرب مقدرات البلد الى البلدان المجاورة وعبر منافذ حدودية رسمية وغير رسمية لتحرم الناس من حصتها فيها وتجني الأموال الطائلة ! ولو أن السعر المحلي كان موازياً لسعره في هذه الدول لما حدث ما حدث ولما فقدت أية مادة ، ومن حسن حظ بلدنا في الثمانينات أن الحصار كان خارجياً فصرنا نستهلك من مدخراتنا من قمح ومياه وبترول ..الخ وتضايقنا ولكنها مرت بسلام . اليوم انتبه أعداؤنا الى ذلك ففعلوها في الداخل والخارج فسرقوا وحرقوا وهربوا وعانى المواطن الأمرين ومــــــا يزال . من يتذكر عندما حاصرونا في الثمانينات كم كان ثمن ليتر المازوت مثلاً ؟ كان في بلدنا بسبع ليرات وفي لبنان بخمس وعشرين ، ولذلك كنت تشاهد وبالعين المجردة طوابير صهاريج المازوت والبنزين وهي تعبرالحدود خلسة وحتى علناً لتفرغ حمولتها ثم تعود وعلى عينك يا تاجر ! ترى لو أن السعر واحد بين البلدين وبدل أن تتكفل الحكومة بدفع الفارق قامت باعطائه لدخل المواطن فهل كان سيحدث ما حدث ؟ نعم مررنا منذ فترة بأزمة غاز واستطعنا أن نحلها باستخدام البطاقة الذكية لأن نظام التوزيع تم حصره وتقييده الكترونياً والا لكان التهريب وقلة الضمير عند الكثيرين ستهربها ضاربة بمصلحة العامة والوطن عرض الحائط !
عندما كان سعر ليتر البنزين يباع بفارق الضعف أو أكثر بيننا وبين الأردن أو لبنان ومنذ فترة كم من السيارات اللبنانية والأردنية كانت تدخل الى بلدنا يومياً فقط من أجل تعبئة سيارتهم بل وحتى بيدونات بلاستيك مخفية طمعاً بفارق السعر ، وعندما انحصر السعر بالبطاقة الذكية انكفأ هؤلاء ؟ فهل دعم المواد الضرورية كان حلاً ناجعاً بالرغم من أن الحكومة كانت تتحمل فارق السعر المتداول عالمياً ؟ هل فهمنا كيف أن نية الحكومة في مساعدة الناس انقلبت وبالاً صاعقاً عليهم ؟
لابد للحكومة ومن الآن أن تكلف مختصين أولي نظرة علمية منطقية لدراسة تناسب الدخل مع كلفة العيش وألا يرتبط ذلك بإجراء داخلي تتبدد فائدته لسبب ما كالحصار والحروب ...
الأمور التي يجب على الحكومة أن تيسرها للمواطن وبأسعار رمزية أو حتى مقبولة هي غير ذلك ، ليست اسعار المواد ومتطلبات العيش على اختلافها فهذه تأتيها ظروف تسرق فيها وتستغل ويفقدها المواطن الدرويش . الأمور التي نطالب الحكومة بتأمينها بيسر وسهولة أهمها التعليم والصحة والخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والاتصالات وليس تلك التي يمكن تهريبها والاستفادة من فارق سعرها ليستفيد منها ضعاف النفوس وعوز الجيران الأشاوس ويدفع الثمن الغالي في النهاية المواطن المسكين ، ويا حبذا لو تهتم حكومتنا المحترمة بذلك وعلى عجل لأن الوضع لم يعد يحتمل .