جهينة نيوز- د. ابراهيم خلايلي
من قلب الجولان إلى قلب دمشق إلى ما وراء الأطلسي، ثم إلى القاهرة، فدمشق...مسيرة ولادة وحياة وعمل ثم رحيل مؤلم، ولكن ما أجمل أن تحط رحالك أيها الوفي من حيث انطلقت، ولتهدأ روحك بعد رحلة الشقاء والتعب والقلق والتألّق، وليسترح قلبك أيها الصديق.
وارى جثمان الفقيد المخرج حاتم علي اليوم ثرى دمشق التي أحبّ، مودِّعاً إياها وموّدعةً إياه، إذ لا فرق بين وداع الحبيبين، ولطالما عشق الراحل وطنه وقدّم له خيرة أعماله ومجهوده الفكري والثقافي والفني.
ولا غرابة في أن تنعى حاتم كل صفحات المجتمع والفن والصحافة، كما لا غرابة أن تتوحد الكلمات في نعيه، فهو كما عرفه أهله وأبناؤه وأصدقاؤه وأساتذته وتلاميذه، عرفه الجمهور العربي الكبير، فناناً مبدعاً هادئاً مكتنز الفكر والمعرفة، وإنساناً جادّاً وعصامياً فياض المشاعر.
إنه طريق "تل منين" الصاعد من دمشق نحو معهد اللغة الروسية، قبل ثلاثين عاماً بالضبط... استعادته الذاكرة على الفور لدى سماع نبأ رحيلك المؤلم يا حاتم، وكيف لا وقد كنا معاً نشق طريق المستقبل في أولى خطواته، حين أوفدتنا وزارة التعليم العالي مطلع عام 1991 إلى الاتحاد السوفييتي السابق لتحضير الدكتوراة لصالح وزارة الثقافة، وكان علينا أن نخضع –وزملاءنا المئة آنذاك ومن كافة الاختصاصات- لدورة مكثفة في اللغة الروسية في معهد "التل"، لمدة عشرة أشهر كاملة، قبل الالتحاق بموسكو، فجمعنا طريق التل والمعهد الروسي وقاعاته ومخابره اللغوية وحديقته الكبيرة وأساتذته، "لاريسا بتروفنا" و"نينا أندريفنا" و"زفيتلانا" و"فلاديمير" و"سيرجيو" و"فاديم"...وآخرون...
كان علينا جميعاً أن ننجح بامتياز لنحصل في نهاية الدورة المكثفة على فيزا دخول إلى الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن شاء القدر أن يسقط هذا الاتحاد مع نهاية الدورة، وبعد أن أتقنّا لغته، وذلك في السادس والعشرين من شهر كانون الأول عام 1991، وبعد فشل انقلاب "غينادي ياناييف" على "ميخائيل غورباتشوف"، وليتولى بعد ذلك "بوريس يلتسين" رئاسة الاتحاد الروسي، عقب إصدار مجلسالسوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، الإعلان رقم (H-142) والذي أُعلِن فيه الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي.
لم يكن آنذاك من يتابع أخبار الاتحاد قبل سقوطه مثلنا، نحن الموفدين المئة إليه، فالتحاقنا بعاصمة التاريخ والمسرح والفنون، كان مرهوناً باستقرار الاتحاد وسريان اتفاقيات "التعليم العالي" معه، إلا أن ما كنا نخشاه طيلة دورة اللغة الروسية، قد وقع، فسقط الاتحاد ولم تأت "الفيز" التي انتظرناها طويلاً، وقد حاول مسؤول الموفدين في التعليم العالي جاهداً في موسكو، لتمكين موفدي دورة "المئة" من السفر، إلا أنه فشل بسبب سوء أوضاع الاتحاد المتفكك، فتبددت آمالنا جميعاً، لكن وزارة التعليم العالي ارتأت أن تنظر بملف كل موفد من الموفدين المئة، ليعاد إيفادنا إلى بلدان عدة، في مقدمتها مصر وتونس وإيران، لكن بعض الموفدين خسر فرصة الايفاد مجدداً، وبعضهم الآخر تخلّى عنها وشق طريقاً آخر في العمل...
كان حاتم –رحمه الله- وزوجته –أطال الله في عمرها وألهمها الصبر والسلوان- متزوّجيْن حديثاً، وموفديْن مواظبيْن على الدوام في معهد اللغة الروسية، وكان كلاهما موفداً إلى الاتحاد السوفييتي لتحضير الدكتوراة في اختصاص "مسرح الطفل"، لكن خروجنا جميعاً مكسوري الخاطر من معهد اللغة –ولو بشهادات لغة جديدة- أدّى بكل منا لاختيار طريقه الجديد...ومنذ ذلك الحين افترقنا، لتجمعنا بحاتم فيما بعد أخبار تألّقه الفني، حيث بدأ مسيرة الاخراج مبكراً، وبتشجيع كبير من زوجته...لم نستغرب نجاحه، حيث كان طموحاً وجاداً إلى أبعد الحدود، كما لم يكن ليبتسم بسهولة، أو يقتحم الأحاديث، بل كان صامتاً أغلب الوقت، يفكّر ويفكّر، ولا شك أنه كان يبني أملاً فعلياً، وقد نجح.
ثلاثون عاماً أيها الفقيد العزيز، مرت على لقائنا الأول...وفي مثل هذه الأيام قبل ثلاثين سنة، كنا نتبادل تعابير خيبة الأمل مما حدث لنا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ولكن لا أمل يخيب أو يخبو مع الاصرار، وربّ ضارة نافعة، فالقدر الذي سعى إليك مبكراً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- جعل منك عَلَماً بعلمك وعملك وتألقك، واسماً لا يُمحى من ذاكرة الوطن.