يا له من مشهدٍ سوداني مأساوي , لا يمكن الفصل فيه بين المشهدين الداخلي والخارجي , ولا يمكن تقزيم خطورة وفداحة ما يجري على الأرض , واختزاله بصراع الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي ) , والتعامل معه على أنه مجرد إنقلابٍ جديد يضاف إلى سلسلة الإنقلابات التي شهدها السودان منذ استقلاله عام 1956حتى اليوم , في محيطٍ عربي – أفريقي - دولي , يغلي بصراعات النفوذ العسكرية والإقتصادية والتجارية , وسط الأطماع الدولية , والثروات والموارد السودانية والأفريقية الهائلة.
فمنذ استقلال السودان عام 1956, شهد ما يقارب 23 إنقلاباً عسكرياً , افتتحها الفريق إبراهيم عبود عام 1958 , وصولاً إلى عام 2021 بإنقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان , رئيس "مجلس السيادة", ومعه والجنرال ومحمد حمدان دقلو (حميدتي ), قائد ما تسمى قوات التدخل السريع , وقد لقي هذا الإنقلاب العسكري إدانات دولية واسعة ، ومطالبات بعودة الحكم المدني.
من المهم قراءة العدد الكبير لمحاولات الإنقلاب العسكرية التي حدثت في السودان منذ استقلاله , سواء كانت ناجحة أم فاشلة , والإشارة الواضحة إلى احتدام الصراع داخل السودان وفي محيطه الإقليمي والدولي على مدى خمسة وسبعون عاماً , في وقتٍ لا يمكن فيه تبرئة أياً من الأطراف الخارجية بتحويل السودان إلى بقعة توتر, حُرم فيها السودان الأمن والإستقرار, وسفكت فيه الدماء , ونهبت ثروات البلاد , وتحولت حياة السودانيين إلى جحيمٍ حقيقي , ضرب فيه الجوع والفقر أصقاع السودان الغني والقادر بمفرده على ضمان استقرار الأمن الغذائي لعشرات الدول المحيطة به لأكثر من خمسين عاماً .
أعوام طويلة عاشها السودان في ظل الحكم العسكري لقادة الإنقلابات , على حساب الحكم المدني الديمقراطي , وبات واضحاً إصرار الأطراف الخارجية الفاعلة والمؤثرة في الصراع الداخلي خلال العقود المنصرمة , للإبقاء والحفاظ على حكم العسكر, وحاملي السلاح لضمان نفوذها وسيطرتها ومصالحها بشكلٍ دائم.
وعلى الرغم من نجاح الإنقلاب العسكري والإطاحة بنظام عمر البشير في نيسان 2019 ، وتولى الفريق عبد الفتاح البرهان مقاليد الحكم تحت مسمى "مجلس السيادة – الإنتقالي" , الذي ضم مدنيين وعسكريين , ومع وصول حكومة انتقالية برئاسة عبد الله حمدوك , للتحضير لإنتخاباتٍ برلمانية عام 2023 ، وجد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزرائه أنفسهم تحت قبضة الجيش ، وأصبح الفريق البرهان الحاكم الوحيد للسودان , ونصّب الجنرال حميدتي نفسه طرفاً لإجبار البرهان على التخلي عن السلطة , وبذلك وقف الجنرالان وجهاً لوجه , معتبرين أنهما يخوضان معركة البقاء والمصير التي لا مفر منها...
ومع فشل النداءات والدعوات الإعلامية الإقليمية والدولية لوقف القتال بين قوات الجنرالين , ومع الفشل المتكرر للهدن التي استغلتها الولايات المتحدة وغالبية الدول , في عمليات إجلاء رعاياها , أصبحت الساحة السودانية ساحة حربٍ مفتوحة بين الجنرالين , اللذين تحولا من حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم , وأصبح المشهد مثالياً لمن يبحث عن الفوضى والحروب في الشرق الأوسط وأفريقيا واّسيا , وفرصة كبيرة لنقل الصراع والمواجهة من أوروبا إلى أفريقيا , وتحديداً إلى السودان , كمرحلة أولى , وسط قلق كافة عدد كبير من الدول , وخصوصاً دول الجوار السوداني السبعة , من إنتقال الفوضى , وأقله من تداعياتها الخطيرة على أمنها الوطني , بكافة أبعاده.
للأسف , تستمر حتى اللحظة المواجهات والأعمال القتالية , ومحاولات السيطرة على القصر الرئاسي والمطارات , واتساع رقعة المواجهات في العاصمة , وتعرض مبنى التلفزيون وعدد من المباني الرسمية والوزارات للقصف والنيران.
ومع استمرارغياب الأمم المتحدة وعجزها عن القيام بواجباتها , خرجت عشرات الدعوات لوقف القتال , من جامعة الدول العربية ، ومجلس التعاون الخليجي ، ومنظمة التعاون الإسلامي ، ومصر ، والمملكة العربية السعودية ، والإمارات العربية المتحدة ، والأمم المتحدة ، والاتحاد الأوروبي ، والولايات المتحدة ، وروسيا , والصين , كذلك لم تثمر بعد محاولات الاتحاد الأفريقي بالتواصل مع طرفي الصراع , وكذلك لصعوبة وصول وفود السلام من كينيا وجنوب السودان وحيبوتي إلى مطار الخرطوم.
في الوقت الذي تتحدث فيه بعض وسائل الإعلام عن الإمكانيات العسكرية للجيش السوداني بقيادة البرهان , يتحدث اّخرون عن قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي , الذي يطالب بدمج قوته في الجيش السوداني خلال عشرة أعوام , يبدو أن كلا الجنرالين لا يملكان من أمرهما شيئاً , سوى القتال والسيطرة على المواقع الإستراتيجية , وهما يريان المواطنين السودانيين يهربون من منازلهم للنجاة من كثافة النيران , ويحاصرون دون طعام وأية إمدادات طبية , وسط انقطاع الكهرباء والمياه في عدة مناطق , وعجز المشافي عن تقديم خدماتها للجرحى والمصابين , مع تتالي الأخبار عن ارتفاع عدد القتلى إلى
500 سوداني , ناهيك عن أعمال السرقة والنهب والتخريب , في بلدٍ يعاني فيه أكثر من سبعة ملايين طفل , وستة عشر مليون مواطن من الجوع والفقر والعوز, والرعاية الصحية.
ويبقى السؤال عن طريقة كلا الجنرالين لإعادة الديمقراطية والسلام والأمن والإستقرار, وتسليمها لسلطةٍ مدنية , لن يكون فيها دور لكليهما حتماً , فالإنتصار العسكري لأحدهما سيكون صعب المنال , ومن المبكر الحديث عن حلٍ سياسي , في ظل معارك لم تكشف فيها الدول الحقيقية التي تقف وراء الصراع عن نفسها , وعن مخططاتها , وكيفية ربط واستغلال الصراع السوداني الداخلي بصراعات المنطقة والصراعات الدولية للقوى العظمى والكبرى حول العالم.
يبدو من الصعب على الدول العربية مجتمعةً , الإتحاد وراء تأييد حكم العسكر , أو السلطات المدنية في السودان , فالمؤامرة الغربية استطاعت تفخيخ المجتمع السوداني وتحويله إلى بيئة إخوانية متطرفة , وهذا بدوره انعكس على نواة الجيش السوداني , وجعله أكثرعرضةً لمحاولات التفكيك , في حين تبدو محاولات إيجاد سلطةٍ مدنية ديمقراطية , سودانية خالصة , تخلو من العناصر المرتبطة بدولٍ عربية أ غربية , وكذلك بإثيوبيا وبـ "إسرائيل" , سيكون أمراً صعباً للغاية في الوقت الحالي .
وعليه يبدو أن الحرب في السودان تشكل بيئة مناسبة لتحقيق مصالح جيو سياسية لأطرافٍ خارجية , كالسيطرة على منطقة القرن الأفريقي ، بموانئه وسواحله , وكل ما يضمن لها السيطرة على طرق التجارة والملاحة الدولية , ومن المتوقع ظهور وتزايد بعض النشاط الدولي الغربي , لدولٍ تحاول تثبت أقدامها ومصالحها ونفوذها في القارة الأفريقية , وأخرى تجد نفسها تُطرد منها , وسط إعلان السلطات الألمانية استعدادها لإرسال 1600 جندي ألماني بتفويض وزارتي الخارجية والدفاع الألمانيتين , بحسب صحيفة دير شبيجل .
ومن خلال ما بات معروفاً عن استراتيجية الدول الكبرى وسياساتها الخارجية , لن يكون من الصعب توقع الدول التي ستدعم وقف الحرب , ودعم استقرار السودان , والإنتقال إلى الحكم المدني , وتلك التي ستدعم استمرار حكم العسكر, واستمرار سياسة الإنقلابات , وتبقى الخشية الحقيقية من إطالة أمد الحرب وتطورها , ودفعها بإتجاه دعم تحالف الإخوان المسلمين وتنظيم "داعش" الإرهابي , ونقل الإرهابيين من غير ساحات إلى الساحة السودانية , بما سيشكل بوابة التدخل العسكري الغربي – الدولي , تحت ذريعة تشكيل تحالفٍ دولي لمحاربة الإرهاب في السودان , بما يعد بالمزيد من النتائج الكارثية والتداعيات الخطيرة , سيكون الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني.
ويبقى من المهم حالياً , ترقب ما يمكن أن تسفر عنه المبادرة السعودية – الأمريكية , وجمع الجنرالين المتقاتلين في جدة , على الرغم من مشاركة واشنطن فيها بفعالية وقوة , ومن المهم التعويل على دور المملكة العربية السعودية , وسعيها إلى حقن الدماء السودانية , ووقف المواجهات العسكرية في السودان , وبقدرتها على لعب دورٍ عربي وإقليمي ودولي , في ظل تزايد استقلال القرار السياسي السعودي , على أمل نجاحها بإنتاج توافق أطراف الصراع الدولي , المتمثل بواشنطن وحلفائها الغربيين من جهة , وكلٍ من بكين وموسكو من جهةٍ أخرى , بما يُخرج السودان من أجندات الصراع الدولي المتنقل من أوروبا واّسيا وصولاً إلى أفريقيا من بوابة الصراع السوداني الداخلي , وبخلق بيئةٍ مناسبة لإيجاد خارطة الحل السياسي , بما يستبق دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن "المتأخرين" , ويمهد الطريق لعقد جلسة مجلس الأمن القادمة , والمخصصة لبحث الصراع في السودان.