بين أيزنهاور وشي جين بينغ, من يملأ الفراغ؟
تعتمد مفاهيم الجغرافيا السياسية على مجموعة من الأطر والمفاهيم التي اعتمدتها الدول الكبرى لرسم معالم سياستها العالمية, وتوجيه هيمنتها الدولية, وبعد تلاشي الحقبة الاستعمارية برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة تملأ الفراغ الناتج عن التراجع الأوروبي حيث قادت القارة الأوروبية من خلال جملة من المبادرات والترتيبات الأمنية على رأسها حلف شمال الأطلسي, وقد أوجدت مجموعة من الكارتلات التابعة لها والتي من خلالها تدخلت في شؤون الدول إضافة إلى القواعد العسكرية والأساطيل المنتشرة في البحار, فكانت لها بمثابة شبكة أمان استراتيجي على امتداد القارات والمحيطات, فالأساطيل والشركات لعبت دور في تعزيز النفوذ الأمريكي فاستثمرتها لإنتاج سيناريوهات التدخل في شؤون الدول وإعادة رسم خارطة بعض الأقاليم والمناطق, وكانت من خلال رجالاتها المنتشرين عبر صيغ تجارية ودبلوماسية تقوم بطرح المبادرات والوساطات إلا أنَّها وبعد عقود من الحروب الطويلة والتدخلات المستنزفة للأموال وجدت نفسها أمام أزمات اقتصادية متتابعة, وديون كبيرة وهو ما دفع بالرئيس الأمريكي جو بايدن بعيد تسلمه السلطة لانتهاج سياسة تحمل العداء العلني لروسيا إلا أنَّها وبالسر قائمة على تطبيق مبدأ مونرو والعزلة عن الأزمات في العالم وتصدير الأزمات التي تعترضها للخارج وبشكل خاص الأزمات الاقتصادية التي جعلت من الدول الأخرى تخشى الاقتصاد الأمريكي فهو ملاذ غير آمن وبتوصيف الواقع الأوروبي يمكن استنتاج وجود نوعين من القوى في القارة الأوروبية:
1- دول أوروبية تعاني من أزمات اقتصادية وركود بفعل التأثيرات الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية, وفيها احتجاجات على الوضع المعيشي وباتت النقابات على طرف نقيض مع الحكومات.
2- قوى أوروبية تعمل على استثمار التراجع الحاصل في الدور الأمريكي, وأخذ دور في قيادة الأسرة الأوروبية التي تعاني من التفكك, وهي بدورها نوعين الأولى تحاول فك ارتباطها والاستقلال بقرارها عن الولايات المتحدة الأمريكية كفرنسا, والثانية مازالت تظهر بعض الارتباط بها كألمانيا.
الاختبار والفراغ:
مثلت الحرب الروسية الأوكرانية اختبار لفاعلية التحالف الغربي, وكانت نقطة تحول اقتصادي, فأوكرانيا غدت مركزاً للتجاذبات الدولية وباتت سوقاً للأسلحة البالية والمنسقة في أوروبا وأمريكا وكانت البوابة للقوى الكبرى لرسم معالم نظام عالمي جديد, فالتحولات والتطورات الدولية في العقد الأخير أفرزت قوى دولية لديها قدرات وامكانيات لكنها غير قانعة وترغب بلعب دور في السياسة الدولية, وقوى أخرى لا تريد التغيير في السياسة الدولية حرصاً على مصالحها, وتعمل على عرقلة دور القوى الكبرى الأخرى عبر المشاريع والمحاولات الرامية لإثارة نوع من الزعزعة الداخلية لضرب استقرارها, وقد عملت جمهورية الصين الشعبية على لعب دور في السياسة العالمية حيث وجدت في التراجع النسبي لأمريكا فراغاً وعملت على سده وملأه خصوصاً مع غياب الدور المعتاد للولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية ووسيط ذا مصداقية .
الصين والانقسام الدولي:
تعيد خارطة التقسيمات الدولية الراهنة إلى الأذهان عصر الممالك الثلاث في الصين القديمة التي كانت كل مملكة من ممالكها تسعى للسيطرة على العالم الصيني وإحلال السلام, فاستراتيجية الصين ومنذ قرون طويلة هي نشر السلام, وما الحرب إلا وسيلة للوصول إليه, ومازالت الاستراتيجيات الصينية القديمة تحكم صنع السياسة في امبراطورية مترامية الأطراف فالمحيط الهادئ اليوم يعيد إلى الأذهان نهر يانغتزي وصراع الممالك المتحاربة على ضفتيه, والصين اليوم ليست إلا التنين النائم الهادئ الذي يطرح مبادرات السلام لكنه يبقى متأهباً للحرب, ويلعب دور الدبلوماسي الحكيم متخطياً الحدود, حيث قامت الصين برعاية الاتفاق الإيراني- السعودي كوسيط حيادي ونزيه, كما طرحت مبادرة النقاط الاثنا عشر لإحلال السلام في أوكرانيا, وهو ما يلاقي رفضاً غربياً, وخصوصاً من الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى لتبديد الجهود الصينية في العلاقات الدولية وإضعاف دورها من خلال دعمها لتايوان, ومحاولة اشعال منطقة بحر الصين الجنوبي عبر تسليح الدول وتدعيم القواعد الأمريكية المنتشرة فيها, في حين تسرع بعض القوى الأوروبية لدعم الطرح الصيني لتجنب الأزمات الداخلية والدولية الكبرى.
إعادة التوازن في المحيط الهادئ:
تركزت الرؤى الاستراتيجية الأمريكية حول منطقة المحيط الهادئ من بداية القرن العشرين عبر سياسة الباب المفتوح, وتطورت في القرن الواحد والعشرين مع اكتساب هذه المنطقة أهمية كونها المتحكم بالتجارة الدولية في الشرق لوجود عدد كبير من المضائق والمواد الأولية التي تحرك عجلة الاقتصاد العالمي, وقد كانت الصين ولقرون طويلة المتحكم الرئيسي في هذه المنطقة سواء عبر أراضيها الشاسعة أم من خلال الجاليات الصينية في دول المحيط الهادئ, وهذه المنطقة محكومة بنزاعين ممتدين هما الصراع الكوري وقضية تايوان, وتمارس الولايات المتحدة الأمريكية نفوذاً كبيراً في هذه المنطقة من أجل إيجاد توازن في شرق آسيا, حيث عملت على نشر قواعد عسكرية متعددة في المنطقة فضلاً عن الدعم المقدم لليابان كقوة اقليمية ودولية من خلال دفعها لأخذ دور دولي مناوئ للصين وطروحاتها الدولية عبر دفع فوميو كيشيدا رئيس الوزراء الياباني لزيارة أوكرانيا في محاولة لخلط الأوراق في شرق آسيا ولعب دور موازٍ للصين في محيطها الاقليمي وإذكاء الخلافات الصينية- اليابانية التي تعود لحقبة الحرب العالمية الثانية, فضلاً عن استضافة الرئيس الأوكراني في قمة مجموعة السبع الأخيرة في اليابان.
انعكاس الوضع الداخلي على تماسك الدولة:
إنَّ الأزمات الداخلية التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية كثيرة ومتعددة, وتأتي الأزمات الاقتصادية على رأس القائمة من عجز عن سداد الدين العام ومحاولات رفع سقفه إلى إفلاس عدد من المصارف الكبرى وما تبعه من تداعيات اقتصادية, يضاف إليها محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب ومحاولته أن يصنع من نفسه رمزاً وأسطورة في مواجهة خصومه, وهو ما سيؤدي على المدى الطويل لانقسام الشارع الأمريكي خصوصاً مع احتمالات تشويه سمعته وسجنه قبل الانتخابات الرئاسية وهو ما قد يدفع بالولايات المتحدة الأمريكية لحرب أهلية قد تدمرها خصوصاً مع وجود أقليات تحدث عنها صموئيل هيتنغتون في كتابه "من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية", فالولايات الجنوبية تعاني من مشكلة الهسبنة وإمكانية انفصالها لأسباب لغوية عرقية ناتجة عن عدم الانصهار في الديمغرافية الأمريكية. إضافة إلى أنَّ الاستراتيجيات الأمريكية وكاريزما الرئيس جو بايدن تحمل الكثير من الانتقادات في الداخل وهو ما أدى لتراجع شعبيته لأدنى مستوى. وبمقارنة الوضع مع الصين يلاحظ أنَّ الرئيس الصيني شي جين بينغ هو الرمز الوحيد للبلاد وبالرغم من وجود أقليات من الايغور ودعوات انفصالية في التيبت إلى أن المنطقتين تفتقران للزعامات المؤثرة , فالدالاي لاما لا تأثير له داخل البر الصيني والجيش الصيني والحزب الشيوعي الصيني متماسكان وهو ما سيفشل أي تحرك ضد الصين في المدى المنظور, فضلاً عن التحالف مع روسيا والسعي لبناء نظام عالمي قائم على السلام والمفاوضات, مكان النظام الذي نتج عقب انهيار النظام الاستعماري, فالمجاراة الأمريكية للصين هدفها انهاكها وحرفها عن مسارها في تحقيق مكانتها كقوة عظمى تقود العالم, ويمكن استنتاج سيناريوهات مستقبلية قد تحكم العلاقات الدولية:
1- قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإثارة خلافات روسية- صينية بهدف تفتيت الجبهة المناوئة لها في شرق أوروبا ووسط وشرق آسيا, وإلهاء هذه الدول بخلافات داخلية عبر إيجاد شكل من أشكال التدمير الذاتي, فمصالح الدولتين كبيرة وهما مكملتان لبعضهما ومشاريعهما الكبرى قادرة على شل قدرة الاقتصاد الأمريكي خصوصاً بعد اللقاء بين الرئيسين الروسي والصيني وإبرامهما عدداً من الاتفاقيات, فالمصلحة القومية الأمريكية هي تدميرهما ذاتياً دون الانغماس في حروب جديدة.
2- اتباع سياسة الاحتواء مع كل من الصين وروسيا من خلال عزلهما عن محيطهما وانهاكهما اقتصادياً وهو ما قد يفشل نظراً للدور الكبير لكليهما في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية, ولنجاح ذلك لا بد من البحث عن بدائل للطاقة وإعادة التقسيم الدولي للعمل من خلال البحث عن موارد بشرية بديلة ومن المحتمل أن تجد فيه الولايات المتحدة الأمريكية ضالتها في القارة الافريقية التي تسيطر عليها الصين ما سيحولها لساحة صراع بين القطبين, كما يمكن أن تقوم بعرقلة تنفيذ مشروع الحزام والطريق عبر نشر الفوضى في الدول التي يمكن أن تدخل في فلك لصين ومشروعها. وهو ما ظهر في السودان, وحديث ايطاليا عن انسحابها من الاتفاق العام المقبل.
3- استنزاف الصين في تايوان واستنساخ الأنموذج الأوكراني لروسيا وتزويد تايوان بالسلاح لإطالة أمد الحرب وتحقيق أرباح مادية لسد العجز الأمريكي من الدول المحيطة بالصين عبر إثارة خشيتها من الأطماع الصينية.
إنَّ الصراع بمجمله هو صراع على الجغرافيا وعلى مناط النفوذ والمجال الحيوي الهام لاستمرار الوجود, وسيعمل الحليفان الروسي- الصيني على تحقيق أمنهما كما سيسعيان بجهود حثيثة لإعادة رسم معالم النظام الدولي والعلاقات الدولية على أسس من السلم والوفاق الدولي خارج حدود القارة الأوروبية والهيمنة الأمريكية لأول مرة منذ قرون.