بقلم..
م, ميشيل كلاغاصي
منذ شباط العام الماضي حتى اليوم, لم تستطع كافة أشكال الدعم الغربي تعديل كفة التفوق العسكري والسياسي والإعلامي لصالح القوات الأوكرانية وسلطات كييف, كذلك لم تستطع إقناع أحد بإمكانية تحقيق أي إنتصار أوكراني واضح ومؤثر, بمن فيهم الولايات المتحدة وقيادة الناتو والإتحاد الأوروبي, والعالم الغربي عموماً, إنتصار يكون قادراً على منح الأمل بضرورة استمرار الدعم والقتال, واستمرار الرفض الأوكراني للحوار والتسوية والتفاوض, بضغوط وعراقيل غربية معلنة, لإنهاء المواجهة متعددة الأوجه والأهداف.
وبالرغم من ذلك, علقت حكومة كييف, وبعض الدول الأوروبية اّمالاً جديدة على ما أُطلق عليه "الهجوم المضاد", وبعد الإستعداد الجيد وتلقي كييف مختلف أشكال الدعم بما فيها الأسلحة النوعية, والأموال الباهظة, ناهيك عن الإصطفاف الغربي غير المسبوق ضد روسيا, وبالفعل بدأ الهجوم المضاد في 4 يونيو/حزيران, وتكبدت من خلاله القوات الأوكرانية الخسائر العسكرية والبشرية المؤلمة, ومع ذلك لا زال المشهد يتكرر بشكل يومي, وبدا وكأنه بلا نهاية, الأمر الذي يدفع للتساؤل, إلى متى سيستمر هذا الهجوم الفاشل, وعلى ماذا تراهن حكومة كييف ومن ورائها ؟.
لنعد قليلاً إلى عام 2022, وإلى الأشهر الأولى لبدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا, حيث تم رصد إلتفاف غالبية الشعب الأوكراني حول فكرة "الدفاع عن الوطن", ولم يواجه الجيش الأوكراني أية صعوبات لجلب المتطوعين وفي التعبئة لمقاومة "الغزو الروسي", نتيجة تأثر الشارع الأوكراني بالضخ الإعلامي المضلل, وبالتقليل من القدرات العسكرية الروسية, فضلاً عن المبالغة في التقديرات والتوقعات الغربية للتصدي والتحدي, بالإضافة إلى الخطاب عالي النبرة للرئيس الأوكراني وأركان حكومته.
وساهم التراجع الروسي المفاجئ في خريف عام 2022, وتقدم القوات الأوكرانية نحو خاركييف, بالتوازي مع انسحاب القوات الروسية من خيرسون، في دفع معظم المواطنين الأوكران للإعتقاد بأن روسيا وقعت في الفخ, وبأن العقوبات الغربية فعلت فعلها في استنزاف الإقتصاد والإرادة الروسية, الأمر الذي منحهم الشعور بإقتراب النصر.
لكن, ومع خلال الأشهر الأولى لعام 2023, أصيب المجتمع الأوكراني خيبة أملٍ كبيرة, تبخرت معها اّمال الإنتصار, ووجدت القوات الأوكرانية نفسها تخوض معارك دفاعية ضارية على تخوم باخموت, وسرعان ما انتقلت إلى ما بعد باخموت, وسط التقديرات الخاطئة للرئيس زيلينسكي, ووقع ما لم يكن بحسبانه, وأدخل قواته في أتون ما دعي بـ " مفرمة لحم", التي أدت إلى القضاء على أعداد كبيرة من جنوده, وإلى أسر عددٍ اَخر, وبموجة هروب جماعي لأهالي المنطقة بما فيهم الرجال والشبان, بالتوازي مع ارتفاع أصوات جنرالات زيلينسكي حول صعوبات التعبئة وتعويض خسائر الجنود في صفوف القوات الأوكرانية, وتم اللجوء إلى ملاحقة الشبان في الشوارع, وزجهم في المعارك بدون تدريب وأحياناً بدون زي عسكري موحد, في محاولة للتمسك ببعض المواقع على أطراف باخموت.
تبدو الضربة العسكرية القوية التي تلقتها القوات الأوكرانية في باخموت, قد نالت أيضاً من معنويات القوات الأوكرانية والشعب الأوكراني, لكن الإعلام المضلل الموجه, حاول التركيز إمكانية الإنتقام, وتحقيق الإنتصار في الهجوم المضاد, بعد تأمين الألوية المدربة وووصول دفعةً جديدة من الأسلحة الغربية النوعية والحديثة, بما يضمن إلحاق الهزيمة بالقوات "الغازية", وبأن الهجوم الصيفي سيشكل نقطة تحول في المعركة الميدانية, وسيكون واسع النطاق على طول خط المواجهة بكامله.
وبالفعل بدأ الهجوم المضاد في 4 يونيو/حزيران، لكنه سرعان ما تحول إلى مفرمة لحم أخرى، فاقت نتائجها مفرمة باخموت، بعد أن تقهقرت الكتائب والألوية التي عُلقت عليها الآمال، وبدأت تتبخر مع صور الأسلحة الغربية الحديثة المدمَرة, وخصوصاً الدبابات الألمانية الحديثة, التي بدت كعلب كرتونية متفحمة أمام خطوط الدفاع الروسية, الأمر الذي أدى إلى إنهيار الروح القتالية للقوات الأوكرانية وآمال الشعب الأوكراني في النصر, ومن خلال ردة الفعل الشعبي الساخطة, حاول البعض الإعتداء على الجنود العائدين, وانسحبت الشرطة في العديد من المدن الأوكرانية والتي كانت تشارك في عمليات التعبئة.
في ظل هذه الظروف، بات الرئيس الأوكراني في وضعٍ لا يحسد عليه, وسط مقترحات جنرالاته لوقف الهجوم الفاشل, وأقله للحفاظ على القدرات الإحتياطية, وحياة ما تبقى من الجنود، والتحول نحو استراتيجية الدفاع المرن والمناورة، لكسب الوقت لحين وصول الدفعة الجديدة من الدعم والمساعدات الغربية, بما في ذلك الطائرات الحربية المقاتلة، التي تضمن ظهوراً محدوداً للقوات الأوكرانية على خطوط التماس, وبما يضمن تأجيل صورة الإنهيار التام.
ومع ذلك, ولا يزال في أوكرانيا من يعتقدون بحدوث المعجزات, وبأن أوكرانيا ستنتصر، ومنهم من يراهن ضرورة استمرار الصمود والقتال, لحين عقد قمة الناتو القادمة, التي ستحدد النهاية "السعيدة" بقبول عضوية أوكرانيا, أو بالنهاية "الحزينة" للمغامرة الأوكرانية.
من الواضح, أن أوكرانيا لم تصل بعد لإكتشاف حقيقة الولايات المتحدة والناتو والإتحاد الأوروبي, وبأنهم مستمرون لأجل مصالحهم في مواجهة روسيا حتى اّخر أوكراني, وبأنه لن تصل جحافل القوات الأوروبية للدفاع عن أوكرانيا, أو لمؤازرتها في الهجوم المضاد, وبعدم استعدادهم لتدمير دولهم وجعلها ساحات قتال من أجل أوكرانيا, والأهم بأن بحث الأوروبيين عن السلام ووقف الحرب وقبول التفاوض, لا يعني قبول واشنطن بها, فأهدافها تتخطى أوروبا والأوروبيين, وعينها على إحتواء روسيا والصين بأي ثمن, وبمنع إلتقاء معارضي إدارة بايدن في الداخل الأمريكي مع المعارضة الأوروبية لسياساتها الخارجية, بالإضافة إلى أنها لن تمنح موسكو والرئيس بوتين فرصة النصر تحت أي ظرف.
فالولايات المتحدة أطاحت بحليفها بوريس جونسون, الذي جاهر بسعيه لتدمير روسيا وإقتصادها بشكل كامل, بالإضافة إلى علاقته مع الرئيس الأسبق دونالد ترامب ومجموعة النخب ومؤيديه في أمريكا, ولذات الأسباب نالت جورجيا ميلوني الحظوة الأمريكية على حساب غالبية الأطراف السياسية في إيطاليا, وتم الإحتفاظ بماكرون وشولتز مؤقتاً لمعاقبة أوروبا وتحميلها مسؤولية الهزيمة, لحين تبلور القرار الداخلي الأمريكي بتبرئة إدارة بايدن وتحميلها مسؤولية الفشل, وأن الرئيس زيلينسكي لم يظهر من القدرات بما يكفي لهزيمة روسيا, وبتهرب وهروب جنوده من التعبئة وساحات المعارك, ووبأنهم يختارون الأسر على التقدم والنصر, وكل ذلك يأتي على حساب الإستراتيجية الأمريكية لإطالة أمد الحرب, الأمر الذي يحلم به ترامب وكلينتون وبقية الجوقة الجائعة, التي فاتتها الموائد المفتوحة على حساب الأزمة الأوكرانية.
وما بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة, يبقى السؤال متى ستنتهي الأزمة الأوكرانية ؟.