في مشهدٍ أعاد الذاكرة إلى ما تعرّض له جورج فلويد في الولايات المتحدة الأميركية على يد رجال الشرطة الأميركيين، لكنه هذه المرة مشهد باريسي حصري كرّره رجال شرطة العاصمة للمرة الرابعة عشرة منذ بداية العام وحتى اليوم ، حيث قام أحد رجال حاجزٍ مروري للشرطة الفرنسية في نانتير غربيّ باريس، بإطلاق النار من مسافة الصفر على رأس سائق سيارة أجرة ، تبيّن لاحقاً ، أنه الشاب نائل مرزوقي المراهق وصاحب الـ 17 عاماً ومن أصولٍ جزائرية، وادّعت أجهزة الشرطة أنه بقيادته المتهورة، صدم رجال الحاجز بسيارته المستأجرة، وحاول عدم التوقّف، وبأنه لا يحمل رخصة قيادة، وبأن إطلاق النار كان مشروعاً ودفاعاً عن النفس.
لكن ومع انتشار فيديو التقطه أحد السكان المحليّين، تمّ نسف رواية الشرطة، وتبيّن أن السائق كان متوقّفاً ويتحدّث مع رجل الشرطة، لكنه رفض الامتثال كغالبية الشبان، فهدّده الشرطي وقال له: "سأفرغ الرصاص في رأسك"، لكنّ الشاب حاول الانطلاق بالسيارة، فما كان من الشرطي إلا أن أطلق عليه النار وأرداه قتيلاً. وبمجرد انتشار الخبر والفيديو، تحوّلت عدة مناطق في باريس إلى ساحات معارك بمواجهة شرطة مكافحة الشغب، بعدما قام عشرات الشبان الغاضبين بأعمال شغب وبإحراق حاويات النفايات، وعدد من السيارات والمباني، وسرعان ما تسلّل الغضب إلى ضواحٍ أخرى..
لم يتأخّر وزير الداخلية الفرنسية بانتقاد الحادث، وبالإعلان عن توقيف الشرطيين المتورطين في الحادثة، ووضع مطلق النار قيد الاحتجاز، وكذلك بالإعلان عن إصابة 24 شرطياً على خلفية أعمال العنف التي اندلعت بين الشرطة والمحتجين عقب الحادث، وبفتح تحقيقٍ موسّع للوقوف على الحقيقة، واصفاً الصور والفيديوهات على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بأنها "صادمة للغاية"، وناشد المحتجين "التزام الهدوء" ، وحثّ الناس على "احترام حزن أسرة الشاب"، ومراعاة "فرضية براءة الشرطة". فيما أقرّ رئيس شرطة باريس، بأن تصرفات الشرطي "تثير التساؤلات"، ومن جهتها طالبت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، السلطات بالكشف عن الحقيقة الكاملة، "لفسح المجال أمام عودة الهدوء".
في الوقت الذي علّق الرئيس إيمانويل ماكرون على الحادث من مدينة مرسيليا التي كان يقوم بزيارتها، وأضاف بتعليقاته سخطاً وغضباً شعبياً جديداً وإضافياً على شخصه وكلامه الإنشائي، الذي رأى فيه الكثيرون محاولة للتنصّل من مسؤوليته الشخصية، فقد كان في مرسيليا ينظّر على الأهالي بكلام نظري بحت، في الحديث عن مشكلة البطالة، وأثبت لهم مرة أخرى من خلال تلميحاته عن الكسل، تحدّيه لشعبه ومحاولة إذلاله، وانفصاله عن الواقع الفرنسي خصوصاً ما يتعلق بطبقة الفقراء، والعاطلين عن العمل، ناهيك عن توقيعه مؤخراً قانون رفع سن العمل التقاعدي بعيداً عن رأي الأغلبية المعنية والمتأثّرة بهذا القرار.
ومن خلال عباراته المنمّقة، حول جريمة قتل الشاب اليافع نائل، صرّح الرئيس ماكرون بأن رجال الشرطة "ملتزمون يومياً بحمايتنا، وبخدمة الجمهورية"، وشكرهم على "أدائهم الأخلاقي، وضرورة احترامه"، واعتبر أن ما حدث بالأمس: "متروك للعدالة لتبيان الحقيقة وتحديد المسؤولية"، مؤكداً أن ما تحتاجه فرنسا في هذه اللحظات هو "الاحترام والهدوء". يبدو أنه لم يسمع عن حزن عائلة الشاب نائل، وكلام جدته، التي قالت للصحافيين: أنا ضد الحكومة، "قتلوا حفيدي، لن أسامحهم أبداً ما حييت".
يبدو أن مواقف ماكرون من مرسيليا، أثارت موجة انتقادات قديمة – جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فالفرنسيون اعتادوا على الرئيس ماكرون الذي يكثر الكلام، ولا يقرنه بالأفعال، ولا يبحث بجدية عن الحلول الجذرية، لكنه يتهرّب دائماً من المسؤولية الشخصية، ولا يتصرّف كرئيس ومسؤول عن حل الأزمات والمشاكل التي يواجهها الفرنسيون، إن سلوكه ومواقفه الأخيرة في مرسيليا، جعلته ينال نصيبه من انتقاد وتقريع ماتيلد بانو النائبة اليسارية، التي اعتبرت أنّ: "ماكرون أصبح صورة كاريكاتورية لماكرون".
تبدو مواقف وتصريحات وزير الداخلية، ورئيسة الحكومة، ورئيس شرطة باريس، أكثر توازناً واحتراماً لعائلة الشاب المقتول، وللمحتجين والغاضبين، من تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس ماكرون من مرسيليا، وسط تضاعف الغضب واتساع رقعته واجتياحه مدناً ومناطق واسعة في فرنسا، على غرار الغضب الذي عمّ شوارع عدد كبير من الضواحي والمدن الفرنسية عام 2005.
تطوّر المشهد بسرعة، وتحوّلت فرنسا إلى ساحة فوضى وعنف ومواجهات مع رجال الشرطة، وأعلنت وزارة الداخلية عن إصابة 249 شرطياً، واعتقال 667 شخصاً، كذلك تمّ الإعلان عن تضرّر 492 مبنى من جرّاء إشعال الحرائق، على وقع أعمال نهب المتاجر والمحال التجارية، وتمّ تسجيل إحراق نحو 2000 سيارة، وهذا يؤكد أن الأمور بدأت تفوق ما حدث عام 2005 بحسب وزارة الداخلية الفرنسية.
كذلك، يذكر أنه في عام 2021 تمّ تسجيل 27756 حالة رفض توقّف السائقين عند الحواجز ونقاط التفتيش وتمّ تسجيل 157 حالة أطلقت فيها الشرطة النار، وهذا يثير التساؤلات حول الرسالة التي أرسلها الشرطي من خلال إطلاق النار على الشاب نائل، مستغلاً سلوكاً أصبح عادياً في فرنسا.
لا يمكن اعتبار ما حصل للشاب نائل أمراً منفرداً ومنفصلاً عن أحداث مشابهة وكثيرة حصلت في فرنسا، فقد قامت الشرطة العام الماضي بقتل 13 شخصاً، تحت عنوان الذريعة نفسها، ورفضهم التوقّف على الحواجز المرورية، ولا يزال يواجه خمسة ضباط شرطة فرنسيون تهماً بالقتل، في وقتٍ تبرّر فيه الشرطة الفرنسية هذه الجرائم، بأنها "تواجه مجتمعاً يزداد عنفه يوماً بعد يوم".
من خلال ارتفاع منسوب العنف والعنف المضاد، وتعرّض رجال الشرطة وآلياتهم للقصف والحرق، هل يمكن الاعتراف بوجود أطراف مسلحة وسط فرنسا، هل يمكن المراهنة على غضب الجاليات الجزائرية والأفريقية والمسلمة، وانتعاش ذاكرتها بالمظالم الفرنسية، هل هو الانتقام؟ وهي عبارة انتشرت بكثافة على الجدران في الشوارع، أم هناك من أراد توجيه الأنظار في هذا الاتجاه؟
إن خطورة ما يحدث في فرنسا، دفع السلطات الفرنسية للإعلان عن تعليق حركة القطارات والحافلات في باريس يومياً اعتباراً من الساعة الـ9 مساءً ولأجل غير مسمى، ولزج أكثر من 40 ألف شرطي، ووحدات القوات الخاصة الحديثة RAID، GIGN ، BRI، للمرة الأولى منذ إنشائها، على وقع نفاد الرصاص المطاطي لدى وحدات الشرطة، والخطر الذي بدأ يحيط بالشرطة وآلياتهم...
إن دعوات "العدالة" و"الانتقام"، التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي والجدران في الشوارع على حدٍ سواء، وخطورة الأوضاع، والتهديد الذي تعرّض له رجال الشرطة والصحافيين الميدانيّين، دفع كلاً من التجمّع الوطني لمارين لوبان، والجمهوريين من يمين الوسط، للمطالبة بإعلان حالة الطوارئ، في وقت ألمح ماكرون عبر موقعه على تويتر بإمكانية تعليق أو تقييد وسائل التواصل للحد من الانتشار السريع للعنف، الأمر الذي لا يليق بفرنسا، وبالحريات التي لطالما ادّعتها.
تبدو فرنسا اليوم بحاجة إلى قائد حقيقي وحكومة قوية، وليس إلى غباء إليزابيث بورن، ونفاق وتعالي ماكرون، خصوصاً مع انتشار خبر حضوره ليلة الأربعاء حفلاً موسيقياً للبريطاني الشهير إلتون جون، وإدارة ظهره للعاصمة باريس وهي تحترق، يا له من اختيار "موفّق" لموسيقى بريطانية ليلة احتراق فرنسا.
بات من الواضح أن الرئيس ماكرون يفقد السيطرة على البلاد، وأنه منذ انتخابه رئيساً عام 2017 تسبّب بعدة أزمات، أهمها أزمة السترات الصفراء عام 2018، واحتجاجات إصلاح المعاشات التقاعدية عام 2019، وطريقة تعامله القاسي مع جائحة كورونا، وتصدّره عام 2022 مشهد العداء لروسيا ومواجهتها بالوكالة في أوكرانيا، وإقراره مؤخّراً قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، إضافة إلى جريمة قتل الشاب نائل، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتردّي ومشكلة البطالة والتضخم والطاقة وغيرها من الأزمات.
قد يستغرب البعض وجود الرئيس الفرنسي بغالبية أوقاته خارج فرنسا، وقيامه بزيارات ولقاءات، وحضوره أو اقتراحاته لعقد قمم تبدأ ولا تنتهي، ألا يشعر الرئيس ماكرون بضرورة تكثيف وجوده داخل بلاده، واهتمامه بمشاكل وصعوبات حياة الفرنسين، ومستقبلهم، وقد استمع أمسِ الأول للكثير الكثير منها في مرسيليا، ووعد المواطنين بتغيير بعض القوانين لحل هذه المشاكل والصعوبات، يا له من وعد!
اليوم، وقد حدث ما حدث، وفقد الشاب نائل حياته، يبقى من المهم أن تُجرى التحقيقات بمهنية وشفافية وبالسرعة الكافية، وبتحليل الفيديو "الشاهد"، وأن تتحلّى فرنسا – ماكرون بالمسؤولية، وبالعدالة، لجهة اتهام الشرطي بجريمة القتل العمد، أو لجهة تأكيد أو نفي فيما إذا كان الشرطي وزميله قد شعرا بالخطر، وبضرورة الدفاع عن النفس، بالدليل القاطع، وهذا يبدو مستحيلاً.
من المعروف أن فرنسا تعاني كغيرها من الدول الأوروبية، من خلافات وصراعات سياسية داخلية، وصعوبات اقتصادية، وبطالة وغير ذلك، لماذا يجد الرئيس ماكرون نفسه واحداً من جوقةٍ أوروبية وأطلسية، تبحث عن التدخّل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، إضافة إلى شراسته في دعم نظام كييف النازي في مواجهة موسكو، وبدعوته لتسريع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، بدلاً من صبّ جهوده على التفاوض لوقف الحرب، وما الذي يدفعه لدعم تغيير أنظمة الحكم في دول أخرى بالقوة العسكرية، بذريعة حاجة تلك الدول والشعوب إلى الحرية والديمقراطية.
ألم تصطف فرنسا وراء البروباغاندا الإعلامية المزيّفة، لاتهام رؤساء بعض الحكومات حول العالم بقمع شعوبها، وبإفقارهم، وبتهجيرهم وبقتلهم، لماذا لا يجري ماكرون المقارنة مع عهده الأول والثاني الحالي، ويجد الإجابات حول انخفاض نسب تأييده الشعبي، ولو فعل هذا لأصبح الرئيس الأقوى في القارة العجوز، ولأبعد عن شرطته تهمة التمييز العنصري، والاستهتار، بحياة قاطني الضواحي من الفقراء والمهاجرين الأفارقة، وكذلك لأبعد
بلاده عن تهمة التبعيّة والحكم بالوكالة والصبغة العنصرية الأميركية.