جهينة نيوز:
استطاع المايسترو ميساك باغبودوريان أن يقدم أنشودة /الأم الحزينة/ للمؤلف التشيكي أنطونين دفورجاك بقيادته لأوركسترا وكورال طلاب المعهد العالي للموسيقا وبمشاركة كل من الفنانين غادة حرب.. ميرنا قسيس.. جوزيف طرطريان.. وبيير الخوري وذلك مساء أمس على مسرح دار الأوبرا السورية بدمشق.
وتعتبر مقطوعة الأم الحزينة من القصائد التعبدية حول سهر السيدة مريم العذراء بقرب المسيح المصلوب حيث تستخدم هذه القصيدة ترنيمة في طقوس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية منذ عام 1727 حيث أن مؤلف هذه الأنشودة غير معروف لكنها تنسب عادة إلى /جاكو بون دا تودي/ الذي توفي عام 1306 وهو راهب إيطالي فرانسسكاني قام العديد من المؤلفين بعده بتلحين/الأم الحزينة/ وكان أبرزهم/ جوسكان باليسترينا.. لاسو.. بيير غوليزي.. هايدن.. شوبرت.. روسيني.. فرانز ليست.. دفورجاك.. فيردي.. ستانفورد/.
وتمكنت الفرقة السورية بقيادة باغبودوريان من أداء مؤلف دفورجاك المكون من أصوات سوبرانو ألتو تينور باص وأوركسترا حيث يتكون هذا العمل الطويل من عشرة أقسام إذ ان نص العمل مليء بالإعادات سواء في الكلمات والجمل أو المقاطع الشعرية الكاملة حيث يكمن جوهر تلحين العمل ليس في معالجة الكلمات المنفصلة أو أفكار النص بل في التعبير عن الجو العام الأساسي للقصيدة التي يصفها بعض النقاد بأنها مزيج من الأشعار السيمفونية والأوراتوريو الألماني والأوبرا الإيطالية ولهذا هو عمل نابع من القلب.
/الأم الحزينة/ أو/ستابات ماتر/باللغة اللاتية مقسمة الى عشرة فصول حسب النص الشعري وتبرز في النص الموسيقي نوازع دفورجاك العاطفية ودوافعه التي لا تخلو من بعد شخصي لكن العمل الموسيقي يطمح في النهاية الى ان ينتفع من كل هذه ثم يتجاوزها الى أفق أشمل من حدود التاريخ الديني وحدود الظرف الشخصي وهذا ما تمثل في رائعة الموسيقي التشيكي الذي رحل عن هذا العالم عام 1904 مخلفاً وراءه إرثاً موسيقياً عظيماً.
وتعتبر/الأم الحزينة/ لدفورجاك عملاً خلاقاً حيث أنه جاء نتيجة إبداع استثنائي في عام 1875 بعد أن عايش المؤلف التشيكي فقدان ابنته الطفلة جوزيفا وهذا ما انعكس على رائعته /ستابات ماتر/ التي وضعها اثر الحادثة كي تصبح هذه القصيدة السيمفونية نار أسى شاءت الأقدار في مرحلة التأليف الأوركسترالي أن تفجع دفورجاك بموت ابنته الأخرى روزينا وموت ولده الوحيد أوتاكار ولذلك نصغي منذ الجمل الموسيقية الأولى الى طبيعة تراجيديا ملحمية في تفتح الافكار الموسيقية المتتالية.
الصرخة القلبية المفاجئة التي تجسدها الأم الحزينة توحي بارتفاع وجه الأم الباكي الى ابنها في نزعه الأخير والحركة الأولى الطويلة بصورة فريدة بين مد وجزر يقودانها الى الذروة أما الحركة الثالثة فعبارة عن لحن درامي شديد الاتساع على وقع مارش يذهب قدما وبتهدج مؤثر ليأخذنا الى مشارف لا تخلو من إضاءة روحانية كون ذائقة دفورجاك تنطوي على ايمان ديني عميق وعفوي يرى في الألم طريقا يقود الى الفرح وهذا ما يحدث مع بناء العمل الذي يستبدل المقام الصغير المرتبط بالمزاج الحزين بالمقام الكبير الحيوي المبهج في الفاصل بين الحركات الأربع الأولى والأربع الثانية.
في هذا العمل الذي قاده ميساك باغبودوريان تشترك أربعة أصوات سوبرانو وميتسو سوبرانو بأصوات أنثوية وتينور وباص بحنجرة رجولية مع الكورس حيث يوصف النص اللاتيني الأصل تأثر دفورجاك بموسيقا باليسترينا من عصر الباروك كونها موسيقا موضوعية خالية من البعد الشخصي لكن هذا البعد لم يتجلى في عمل دفورجاك ولذلك جاءت غنائيته المعهودة غاية في العذوبة خالية من الاحتدام والدراما حتى لو حاولها قائد الاوركسترا ستظل مستسلمة لفيض أحزان المصائر البشرية ولفيض الرضا الذي تمليه العناية الالهية على الكائن.
وعكست الأم الحزينة تأثرات ملموسة بموسيقا فاغنر وبعض من هاندل إذ كان دفورجاك كثير التردد على انكلترا وكذلك من لمسات موسيقا برامز الخريفية وكان هذا الأخير بمثابة استاذ مباشر لم يكف المؤلف التشيكي عن الاعجاب به إلا ان الطابع القومي يظل هو الأبرز وخيط الأسى في موروثه لا يخفى عن أذن مستمع.
يذكر أن باغبودوريان تخرج من المعهد العالي للموسيقا باختصاص بيانو وقيادة أوركسترا ثم أتم دراسته في إيطاليا وأكاديمية هامبورغ وفيينا كما قاد عدة أوركسترات حول العالم وهو حالياً قائد الفرقة السيمفونية الوطنية السورية وكورال المعهد العالي للموسيقا.