جهينة نيوز:
ارتفاع ظاهرة هجرة العقول.. واستغلال فاضح للكفاءات يفضح الإغراءات الملغومة
التعليم العالي: رغم حركة الهجرة.. الأساتذة متوفرون بالحد المطلوب عالمياً
البوطي عاتب على الإعلام لتقصيره في توعية المجتمع
الخروج من سورية في هذه المرحلة بالذات يعدّ فراراً من التصدي للعدوان الشرس الذي يستهدف البلاد
جهينة- وائل حفيان:
كثُرت الأسباب وراء ارتفاع حركة هجرة الكوادر العلمية والمهنية والحرفية، ولاسيما في ظل الهجمة العدوانية الكونية على سورية والأعمال التخريبية للبُنى التحتية والمؤسسات التعليمية الهادفة إلى عرقلة العملية التعليمية، فضلاً عن تراجع سوق العمل الخاص، والأخطر من ذلك عمليات اغتيال الكفاءات والكوادر العلمية والطبية من قبل المجموعات الإرهابية والتي سعت إلى "تصفية ممنهجة" راح ضحيتها أفضل الأطباء والعلماء، كما تعرّض بعضهم أو أحد أبنائهم للخطف بغية الابتزاز المادي، ما دفعهم إلى مغادرة القطر خوفاً على حياتهم وحياة أسرهم، في حين غادر البعض طمعاً بالإغراءات الملغومة والتي تبيّن فيما بعد أنه استغلال فاضح للكفاءات التي وصلت إلى بعض الدول الغربية والعربية.
ولا يخفي على أحد طمع الدول الغربية بالعقول السورية وخبراتها، فهي ليست وليدة اليوم، لتتفاقم خلال السنوات الخمس من عمر الأزمة معدلات الهجرة، سواء النزوح الداخلي أو الهروب إلى الخارج بحثاً عن الوطن البديل، فبعد هجرة شرائح كبيرة من السوريين العاملين وأصحاب الاختصاصات، خسرت سورية جزءاً كبيراً من الرأسمال المعرفي ومن العمالة المدرّبة، ما يؤثر سلباً على التنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والتقني الذي يرتكز على دعائم العلم والمعرفة، علماً أن الدولة تنفق ملايين الليرات السورية على إعداد العقول والكفاءات، وهو ما تؤكده العديد من أدبيات التنمية الاقتصادية التي لطالما شدّدت على دور رأس المال البشري المؤهل في تطوير اقتصاد البلاد.
عتب على الإعلام؟
في هذا الإطار لا يخفي عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق الدكتور توفيق البوطي بأن اندفاع الأعداد الكبيرة وراء الهجرة إلى أوروبا ليس عفوياً، وإنما كان بسبب ضائقة مالية، أو ظروف صعبة ظهرت مع الفترة الأولى للأزمة، لكن عندما سقط الرهان، وفشلت المجموعات المسلحة في مشروعها التدميري، بدأت الحرب الجغرافية والاجتماعية التي تستهدف التركيبة السكانية بطاقاتها البشرية، ومواهبها، فأوروبا تريد أن تغنم طاقاتنا البشريّة، وتجعلها في خدمة كيانها، وهذه الهجرة بأعدادها الكبيرة هي اتفاق الدول الأوروبية على استقبال هؤلاء المهاجرين، لغرض إنساني بحت؟!.
ويضيف البوطي: إن الهجرة هي جزء من الحرب التي تستهدف سورية، ولديّ عتب على الإعلام السوري وعلى الجهات المسؤولة عن توعية المجتمع بكل أشكالها، سواء كانت معتمدة على الوسيلة الإعلامية أو التواصل مع الجماهير من خلال محاضرات توعية، أو من خلال المؤسسة الدينية، وأنا شخصياً خصّصت أكثر من درس وخطبة جمعة لنشر التوعية بين الشباب، وكنت واضحاً وصريحاً فيها، ولاسيما أن هذا النوع من الفرار والزّحف هو تنفيذ للمخطّط الغربي في محاربة سورية بمواردها البشرية، قد يكون هناك ردود على هذا العتب، ومهما كانت الردود، فإنني أقول إنه حتى الآن لم نجد توعية أو معالجة تتناسب مع حجم الهجمة التي تُحارب بها سورية.
إن منع الجوازات -بحسب البوطي- لن يفيد، فالذي هاجر من سورية هو المقتدر مالياً وليس لعدم توفر فرص العمل، أو الفقر وغير ذلك من الأسباب، فبحسب الدراسات فإن تكلفة هجرة الشخص الواحد قد تصل إلى ثلاثة ملايين ليرة سورية، وقد يتذّرع (المعارضون) أن انعدام الأمان هو سبب هذه الهجرة، هذا الكلام غير صحيح، فأكثر الذين يفرّون، هم يهربون من مناطق (المعارضة) إلى حيث توجد السلطة السورية، ويجدون الأمان إلى حدّ بعيد في ظل الدولة ومؤسساتها، وقد سوّلت جهات معادية ومعارضة لنا أن الحياة في سورية فيها مذلة وقهر، رغم يقيننا أن الذين جنّدتهم تركيا لتهريب الناس بحراً إلى أوروبا هم تجار بشر أو للمتاجرة بأعضاء المواطنين الذين يقتلونهم بإغراقهم في البحار، أو بتشريدهم في العراء وإجبارهم على القيام بممارسات خسيسة.
ورأى البوطي أن كل مواطن في المؤسسة الأكاديمية العليا عليه البقاء في البلاد والمساهمة في تطويرها، وخروجه من سورية في هذه المرحلة بالذات يعدّ فراراً من التصدي للعدوان الشرس الذي يستهدف البلاد، والذي حصل أن أغلب الكفاءات مضت لتكون خادماً لمؤسسة معادية، في الوقت الذي يمكن الحدّ من ظاهرة الهجرة بإقامة الندوات التوعوية والمناقشات الصريحة للوصول إلى علاج المشكلات، الآن نحن نخرج للمحاصِر ونصبح خدماً له أم ندافع عن المحاصَر، أنا الآن في هذا البلد محاصر، فوق الحصار أتخلّى عن وطني؟ صحيح أنه يوجد مشكلات قد تكون اقتصادية، فنحن محاربون اقتصادياً، والليرة السورية تدهورت بسبب الحصار الاقتصادي، وهذا يؤدي بالتالي لضعف القيمة الشرائية لليرة، علماً أن الطبقة الأرقى والأفضل مادياً من بين موظفي بلدنا هي الطبقة الأكاديمية، فلو أنّنا نظرنا إلى مستوى المعيشة بالنسبة للأستاذ الجامعي ومن يعمل في المجالات الأكاديمية من أطباء ومهندسين وغيرهم، وقارنها ببقية الموظفين لوجدنا أن وضعها أفضل بكثير، والتخلي عن الوطن من أجل مزيد من الرفاهية، يعني أننا بحاجة لإعادة بناء ليس بيوتاً إنما مواطنين.
وحذّر البوطي من المخطّط الذي وضع لتحفيز هجرة الكفاءات والعلماء، ولكننا لم نرضَ أبداً، أنا أبقى في هذا الوطن الذي قدم لي كل شيء، ومستحيل أن أتخلى عنه في ساعة الشدة لأنه لم يستطع أن يقدم لي كل شيء وبات يقدم لي نصف الشيء، يجب الآن أن أقدّم لهذا البلد كل ما أستطيع.
وتابع البوطي: هناك قسم من الكادر الأكاديمي ترك وطنه لأنه خُدع بالشعارات البراقة للجهات المغرضة، وهؤلاء يمكن تصنيفهم بأنهم ضحية غبية، بينما الصنف الثاني جراء صعوبة المعيشة، لنكن واضحين ونقول: إن (المعارضة السلمية) الوديعة المخملية اللطيفة هجّرتهم من بيوتهم تحت النار وبكل وسائل القهر والإذلال، وتركوا بيوتهم وقراهم ومدنهم وأصبحوا مستأجرين، والأمثلة كثيرة على ذلك، الأجور ترتفع بمقدار تدني مستوى الليرة، كثرة الطلب والإلحاح، استهلاك أكثر من نصف راتبه، أجرة بيت، هذا بصفة عامة، وخاصة بالنسبة للأستاذ الجامعي الذي يسكن في منزل يحقق الحياة الطيبة بالنسبة للإنسان، يريد أن يكتب بحثاً، أو محاضرة أو ما شابه. البعض سعى في مناكبها من أجل تحصيل نوع من الحياة التي تكفل لهم أسباب متابعة عملهم، ولكن لا أعدّ هذا عذراً، بل يجب أن نصبر على مرّ الحياة في هذا البلد ريثما تستعيد عافيتها وأكون في خدمتها لأنها خدمتني كثيراً.
سفراء في الخارج
ويرى الدكتور أيمن ديوب المدرّس في كلية الاقتصاد أنّ هجرة الكفاءات تأخذ منحيين، منحى إيجابي ومنحى سلبي، المنحى الإيجابي أن نقول إنّنا سفراء لبلدنا في الخارج، وبالتالي كلّ سوري هو مطلوب، بدليل امتلاكه لمهارات وقدرات تفوق ما يمتلكه البعض في الخارج، أمّا الأمر السّلبي أنّ هجرة الكفاءات في ظل هذه الحرب الكونيّة تؤثّر بشكل كبير على أداء المؤسسات وخاصّة المؤسّسة التعليميّة، فوزارة التّعليم العالي، بجامعاتها المتعدّدة العامّة والخاصّة عانت خلال هذه الأزمة، وخاصّة الكفاءات التّعليميّة والكادر التّدريسي.
العامل المادي؟
ويمكن القول إنّ السّبب ليس مادياً كما يروّج البعض، لأنّ الأساتذة الجامعيين في سورية بعد قانون تنظيم الجامعات في 2006 أصبح وضعهم جيّداً، لكن القرارات الأخيرة المتعلّقة بزيادة الرّواتب أجحفت بحق أستاذ الجّامعة، لأنّ تعويضات التفرّغ، والعمل الإضافي الذي يقوم به، لم يتمّ أخذها بعين الاعتبار، وهنا يمكن القول إنّ العامل المادي لعب دوراً بسيطاً.
قرارات مجحفة في "التّعليم العالي"
وبرأي ديوب فإن السّبب الكبير والمهم هو القرارات المجحفة التي تُتّخذ في مؤسّسات التّعليم العالي، سواء كان ذلك في الكليّات أو الجامعات أو الوزارة أو مجلس التّعليم العالي، وكذلك هناك قرارات تشكّل ضغطاً إضافياً على الأستاذ، وعدم الاهتمام بفتح مجالات البحث العلمي والأكاديمي. فهناك أساتذة جامعات سافروا ليطوّروا أنفسهم، لأن أفق التّطوير العلميّ غير متاحة في بلدهم في أغلب الأحيان، المعايير المزدوجة التي يتمّ اعتمادها في وزارة التّعليم العالي تؤدّي لكوارث حقيقيّة، وتدفع العديد للسّفر.
الخسارة لمن رحل..
ويرى ديوب أنه وللمحافظة على الكفاءات ينبغي أن نتبع عدة استراتيجيات، أن نجعل الخسارة لمن رحل عنّا وليس من بقي لدينا، وأن تتحوّل منظومة الّتعليم العالي إلى جاذبة للكفاءات العلميّة، وذلك عن طريق المنح، والمكافآت، وتأمين كافة متطلّبات العمل الأكاديمي، لأن الكفاءات السّوريّة تحديداً مطلوبة بقوّة، لامتلاكها قدرات ليست موجودة لدى غيرنا. ويجب أن نميّز هنا بين المهاجرين، فالسيّد الرئيس بشار الأسد قال علينا أن نميّز بين الذين هاجروا، أي أن نعرف ظروف كل شخص، هناك من هاجر طلباً للمادّة، وهناك من هاجر خوفاً من الوضع في البلاد ولكن يوجد نقطة علينا أن ننتبه إليها، أنّ هذه الهجرة ليست فقط وليدة الأزمة، فقبل الحرب كان السّفر بأعداد كبيرة، إعارة أو ندباً، ولكن الذي اختلف الآن أنّ الهجرة قبل الأزمة كانت تقتصر على الإعارة والندب، وبعد الأزمة أصبحت دائمة ومن دون عودة!.
20% لا تؤثر على سير العملية التعليمية
نقيب المعلمين في جامعة دمشق الدكتور أحمد المنديلي قال: في الحيثيات التي أمامنا، مازالت نسبة الإعارة أو الخروج ضمن النسبة المسموح بها في تعليمات مجلس التعليم العالي، التي هي 20%، ولكن لدينا بعض الاختصاصات كالعلوم مثلاً يوجد أستاذان أو ثلاثة، حين يذهب أستاذ، فإنّ ذهابه يوّلد خللاً، إنّما في المجموع العام للكادر أو للأساتذة فلا يوجد خلل، في جامعة دمشق لدينا 2000 أستاذ، ولم تتجاوز نسبة الهجرة 20%.
وأشار المنديلي إلى أنه لا توجد إحصائيات دقيقة، ولكن حسب قرارات الإعارة أو الاستقالة التي تورد إلينا، أنّ نسبتهم لا تشكل أكثر من 20%، من الممكن أن يكون هناك حلول، وهذه الحلول تأتي بالمسابقات، والتوظيف، أن نفتح الأبواب للوظائف الجديدة، هناك كوادر لديها شهادات عليا كالدّكتوراه، وينبغي المحافظة على الكادر المؤهل والمدرب الموجود لدينا.
ويضيف المنديلي: إنّ نسبة الأساتذة الذين ثابروا وظلوا على رأس عملهم أكثر بكثير من نسبة المهاجرين، الذي سافر قد يكون لديه ظرف معيّن، أو فكر معيّن، ولكن من ظلوا على رأس عملهم أكثر من الذين سافروا، وقاعات التدريس مليئة بالطلّاب، وإصرار الطلّاب على متابعة الدّراسة يشجّع الأستاذ على المواظبة.
وبرأي المنديلي فإن الأستاذ الذي بقي في البلد ويعمل من أجلها، تحت القذائف، وصعوبة الطّرقات، لا يطلب أي حوافز، فحافزه موجود، وهو حبّه لوطنه، وخدمته له، والأمثلة كثيرة على ذلك.
بنية التعليم العالي متوفرة بالحد المطلوب عالمياً
وبحسب المعطيات المتوفرة لدى وزارة التعليم العالي فإن جودة بنية التعليم العالي في سورية، ما زالت متوافرة بالحدّ المطلوب عالمياً، ولاسيما في الجامعات الموجودة في المناطق الآمنة دمشق– حلب– تشرين– البعث– طرطوس.
وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة المعتبرين بحكم المستقيل والمفصولين من الخدمة والمستقيلين من أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات السورية كافة وفي جميع الكليات العلمية لم تتجاوز 16،3 %، إلا أن هذه النسبة تختلف من جامعة إلى أخرى ومن كلية إلى أخرى، علماً أن الأنظمة النافذة تسمح بغياب 20% منهم.
مستمرون في بناء القدرات
إلا أن بناء القدرات يبقى الهدف الاستراتيجي للتعليم العالي، وهو ما تعمل عليه منظومة التعليم العالي، سواء عن طريق الإيفاد الداخلي أو الخارجي، بالرغم من أن ظروف الأزمة أثرت بشكل سلبي على تلك الخطط ولاسيما مع تجميد البرامج العلمية والبحثية مع عدد من الدول الأوروبية من طرف تلك الدول ووقف إيفاد المعيدين إليها. لذلك وضعت وزارة التعليم العالي عدداً من الخطط البديلة التي من شأنها التخفيف من آثار الأزمة في إطار بناء القدرات، ومن تلك الإجراءات تشجيع الإيفاد الداخلي في الاختصاصات المتوفرة في الجامعات والإيفاد الخارجي للاختصاصات غير المتوافرة وإرسالهم إلى بلدان صديقة كروسيا والصين وإيران والهند، مستفيدين من المنح الدراسية المقدمة، وإمكانية السماح للمعيدين بتحضير المؤهل العلمي للتعيين في عضوية الهيئة التدريسية مستفيدين من المنح المقدمة من الجامعات العالمية واعتبارهم موفدين داخلياً حسب قانون البعثات.
قواعد جديدة لحملة الدكتوراه
كما ستقوم الوزارة بالتعاون مع الجهات المعنية بوضع قاعدة بيانات لجميع حملة شهادة الدكتوراه في كافة القطاعات الحكومية في سورية للاستعانة بهم والاستفادة من إمكانياتهم العلمية للتدريس في الجامعات وقت الحاجة، سواء بشكل مباشر أو استقطابهم من خلال الإعلان عن الحاجة لأعضاء هيئة تدريسية، ووضع آلية لتسوية أوضاع الموفدين الذين حصلوا على المؤهل العلمي المطلوب ولم يعودوا في الوقت المناسب، وتسوية أوضاع المعيدين المعتبرين بحكم المستقيل ثم عادوا لاحقاً ووضعوا أنفسهم تحت تصرف الجهات الموفدة.
خلاصة القول
يبقى أن نقول إنه وبغضّ النظر عن أرقام الهجرة ومعدلاتها التي يختلف عليها المعنيون في ظل الأزمة، إلا أنهم يتفقون جميعاً على أن سورية استُنزف جزءٌ من عقولها، وهي طاقات كبيرة يعوّل عليها للقيام بدور كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظل الظروف الراهنة، فهجرة الكفاءات خسارة ستحصد البلاد نتائجها في المستقبل القريب في مرحلة إعادة الإعمار والبناء.
وهنا يمكن القول أيضاً إن تهيئة المناخ المناسب للإبداع والابتكار تأتي من خلال دعم العمل والبحث العلمي، مع الإشارة إلى أهمية إعادة استقطاب (الأدمغة) التي أفرغت منها سورية بشكل أو بآخر، والتي بإمكانها أن تساهم مستقبلاً في إحداث تغييرات نوعية وجذرية في التنمية والتقدم.
---------
كادر:
كشف مصدر في نقابة أطباء ريف دمشق عن مغادرة 800 طبيب من أصل2000 جراء العمليات الإرهابية الممنهجة من قبل العصابات التكفيرية التي دمرت بيوت الأطباء وعياداتهم. في حين كشف نقيب أطباء سورية في وقت سابق أن الأطباء المغادرين خلال فترة الأزمة تجاوزوا الـ(7) آلاف منهم (382) طبيباً من دمشق لوحظ عودة عدد لا بأس به منهم خلال عام الـ2015.
16:29