جهينة نيوز:
ثمة «فيدلان» اثنان في شخص كاسترو: الأول هو الثائر الذي ألهب مخيلة جيل كامل وتحول إلى رمز من رموز اليسار المقاوم للولايات المتحدة والرأسمالية، والثاني هو الحاكم المستبد الذي أطال البقاء في السلطة والذي عطّل عقول معجبيه طالما كان الأول محتلاً للخيال.
أحببت الأول ولا ازال. وستبقى خطبته في الأمم المتحدة التي قرأ فيها رسالة صديقه غيفارا الذي قرر أن يبقى وفيا لذاته وللثورة هاجراً السياسة وسراديبها، وثيقة تشهد على التناقض الكبير بين السلطة والثورة، وتعلن عن البون الشاسع الذي يفصل أحلام الثائر وواقع السياسي. وكان خيار كليهما واضحاً: أن يبقى التشي شاباً يحتل مكانه في الذاكرة، وأن يشيخ الثاني في الحكم مستبدلاً بزة الثوري برداء الحاكم. والواقع أن كاسترو لم يتوقف عن أن يكون مزيجاً غريباً من الاثنين، فلا هو ينطبق عليه تعريف الثائر ولا الحاكم.
ليس من العدل تقديس فيديل كاسترو. ليس من العدل أيضا شيطنته وتحميله وزر عالم يساري كامل لم يعرف كيف يجدد نفسه. وقد تكون غلطة اليسار الجوهرية هي عدم تمكنه من تقييم رموزه وقياداته وعدم مراجعتهم و «محاكمتهم» بالشراسة نفسها التي حارب بها أعداءه.
حصل ذلك مع الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ومع ستالين وزعماء الاتحاد السوفياتي الآخرين كافة. لم يتقبل سوى جزء يسير من اليسار وحتى وقت متأخر من القرن العشرين مثل هذه المراجعة. النتيجة هي فقدانه مصداقيته شيئاً فشيئاً على نطاق واسع. ليس هناك يساري عايش هذه الحقبة إلا ويتحمل جزءاً من مسؤولية صعود اليمين في صيغته الراديكالية في العالم كله.
اليوم، بعيد موت الزعيم الكوبي، ترتفع أصوات تدعو إلى محاكمة كاسترو. جيد. لكن هذه «المحاكمة»، عدا عن كونها متأخرة، يبقى شرطها الأول أن تكون عادلة. وإلا فالأجدر تسميتها بـ «تصفية حساب». والعدالة تقتضي محاكمة، ليس كاسترو وحده، إنما جزءاً من العالم عزل كوبا وحاصرها في مأكلها ومشربها. لم يكن الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا عادلاً ولا جائزاً. لا يمكن مقاربة حقبة كاسترو المديدة من دون التطرق إلى هذا. صحيح أن تلك الأصوات تهدف إلى النيل، عبر كاسترو، مما تبقى من «اليسار المتعفن»، وهو عفن في جزء لا بأس به منه، لكنها تبقى، ككل تصفية حساب، عاجزة عن بلورة تصور نقدي يتناول إرث كاسترو من دون تشنج.
في ستينيات القرن الماضي، عرضت تلفزيونات العالم جسد صديقه ورفيق نضاله تشي غيفارا وقد سجي نصف عار بعدما اخترقته رصاصات منفذي مهمات وكالة الاستخبارات الأميركية. كان يُراد حينها قتل الفكر الثوري اليساري الذي مثّله التشي في حقبة الحرب الباردة. لم يحصل ذلك. ما حصل هو أن اليسار انطفأ شيئاً فشيئاً في ظروف مختلفة، وخسرَ أغلب معاركه على امتداد العالم. المفجع هو أنه لم تحل مكانه عدالة من أي نوع، وها هوالعالم وهو يودع كاسترو متشفياً أو متحسراً، يخطو بخطوات متسارعة نحو يمين متوحش منفلت من كل عقال: ترامب ، فيون، أردوغان، بوتين وطابور اليمين الأشد عفناً في أغلبية دول أوروبا وفي مشيخياتٍ وممالك نفطية.
سيُحرقْ جثمان الزعيم فيديل كاسترو تنفيذا لوصيته، ولن يُعرض جسده على غرار رفيقه الثائر. لا ضرورة لتوظيف الصورة، فقد شاخ الرفيق كاسترو كثيراً. بقي منتصباً برغم انحناء قامته الطويلة، كأنه رافق بشيخوخته شيخوخة عهد وشيخوخة يسار يتهاوى. غداً، لن يُحرق الرفيق فيديل وحيداً، سترافقه بقايا حقبة دمغت نصف العالم، وبقايا أحلام يسارية بعالم أفضل، لم يعرف حالموها الوصول إليه.
المصدر السفير اللبنانية
07:00