جهينة نيوز:
منطقة “الشرق الأوسط” تشهد هذه الأيام عملية تغيير “جيوسياسي” ربما تصبح العنوان الأبرز في العقود القادمة، وبما ينسخ كل المعادلات، ويؤسس لنظام سياسي وامني جديد.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بات “زعيم” المنطقة، واستطاع في فترة وجيزة ان يملأ الفراغ الذي نجم عن الانسحاب الأمريكي على اكثر من جبهة، سواء كان نتيجة الهزائم، او طوعيا، بعد تراجع الاعتماد الأمريكي على نفط الشرق الأوسط بفعل النفط الصخري المحلي، او مصادر أخرى قريبة، وبروز قوى عالمية وإقليمية تنهي الاحتكار الأمريكي لسقف العالم.
حلفاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية، والامارات العربية المتحدة، وتركيا، والأردن، باتت تُظهر رغبة متسارعة لتوثيق العلاقات العسكرية والاقتصادية مع موسكو، والزيارة الأخيرة التي قام بها العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز على رأس وفد كبير، وكانت الاولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، لم تتمخض عن صفقات بعشرات المليارات من الدولارات فقط، وانما شكلت اول خطوة حقيقية نحو تحالف استراتيجي بين اكبر دولتين منتجين للنفط في العالم، واحدة داخل “اوبك” والثانية خارجها.
***
المثلث الأهم والابرز في المنطقة حاليا يتكون من ثلاث دول، هي روسيا وتركيا وايران، وهو مثلث يعكس خريطة الواقعية الجديدة، ويؤشر لبداية النهاية للهيمنة الغربية بزعامة أمريكا، فالزعامة الامريكية تتآكل، وتقترب من نهايتها، ويكفي الإشارة الى احد الفصول المهمة لزيارة العاهل السعودي لموسكو، وهو توقيع صفقة شراء وتوطين صواريخ “اس 400″ الروسية ذات القدرات فائقة الدقة في إصابة أهدافها، ورد الفعل الأمريكي المرتبك عليها، أي المسارعة بالموافقة على بيع الرياض منظومة “ثاد” الصاروخية الدفاعية، واسقاط الكثير من الشروط المرتبطة بها، وبعد أيام معدودة من هذه الزيارة.
الرئيس بوتين يريد إضافة ضلع جديد الى المثلث المذكور آنفا، وهو المملكة العربية السعودية، بحيث يتحول الى “مربع″، ولكن هذا الطموح لا يمكن ان يتحقق ويعطي ثماره، الا بعد اصلاح العلاقات بين اثنين من اهم اضلاعه، وهما المملكة العربية السعودية وايران، وإزالة التوتر في العلاقات بينهما.
وفي هذا الاطار لم يكن مفاجئا بالنسبة الينا ما اعلنه ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، اليوم (الأربعاء) حول استعداد بلاده للتوسط لاعادة العلاقات الإيرانية السعودية الى صورتها الطبيعية، وقوله “لقد حاولنا عدة مرات في السابق جمع البلدين على مائدة الحوار، ولكن هذه المحاولات لم تتكلل بالنجاح”.
انها مبادرة روسية ما كان الرئيس بوتين يقدم عليها لولا حصوله على ضوء اخضر من ضيفه السعودي (الملك سلمان) اثناء زيارة الأخيرة الى موسكو، او وجد قبولا مبدئيا لمثل هذا التحرك على الأقل.
هناك مصلحة للبلدين في تطبيع العلاقات ولو في حدودها الدنيا، ونزع فتيل التوتر في اكثر من مكان، فالعقبة الرئيسية التي وضعتهما في خندقين متقابلين متقاتلين، أي الازمة السورية، توشك على الانتهاء، ان لم تكن قد انتهت فعلا.
ايران في قلب “حرب باردة” مع إدارة ترامب التي تريد الانسحاب من الملف النووي، ويمكن ان تتحول (أي الحرب الباردة) الى ساخنة بل ملتهبة اذا ما قررت هذه الإدارة وضع الحرس الثوري الإيراني على قوائم الارهاب الامريكية.
المملكة العربية السعودية في المقابل تخوض حربا دموية بلا قاع في اليمن، باتت تكلفتها المالية والبشرية عالية جدا، وتسبب لها حرجا دوليا يهز صورتها في المنطقة والعالم، ولم تنجح مطلقا في حسمها عسكريا، ولم يعد امامها من خيارات غير طرق أبواب عدة من بينها الباب الإيراني الداعم الأبرز للتيار الحوثي، وهناك جهات عديدة، من بينها السيد إسماعيل ولد الشيخ المبعوث الدولي، نصحت الرياض بهذه التوجه، وقد زار السيد ولد الشيخ طهران اكثر من مرة، فاذا كانت ايران ليس لها علاقة بهذا الملف فلماذا يزورها؟
***
القيادة السعودية بدأت تجري مراجعات مهمة للكثير من سياساتها ومواقفها في الأعوام الثلاثة الماضية، بسبب خيبة املها من الحليف الأمريكي في اكثر من جبهة، وآخرها الخلاف مع دولة قطر، وانعكست هذه المراجعات على صعيد السياسة الخارجية بزيارة العاهل السعودي لموسكو قبل واشنطن، وشراء أسلحة روسية، والانفتاح الأولى المتوقع على الوساطة الروسية لتطبيع العلاقات مع ايران.
لا نريد التسرع واطلاق احكام جازمة تجاه هذه المبادرة الروسية الجديدة لان اطرافا خارجية، وامريكا على وجه الخصوص، سارعت باجهاض مبادرات مماثلة، تمثلت آخرها في الاتفاق على تبادل الوفود الدبلوماسية بينهما لتفقد السفارات، وجاءت في اطار انفتاح سعودي على حلفاء ايران في العراق وقيادات الطائفة الشيعية تحديدا.
حرب اليمن هي المأزق الأكبر الذي تعيشه السعودية حاليا، وطوق النجاة ربما يوجد في موسكو التي ترتبط بعلاقة قوية مع ايران واطراف الصراع الأخرى في اليمن، فهل تفعلها؟ وتلتقط هذه اللحظة التاريخية، وتتحلى بالبراغماتية السياسية المطلوبة؟
نترك الإجابة للايام والاسابيع المقبلة انتظارا للردود الإيرانية والسعودية على هذه المبادرة الروسية “غير المفاجئة”، وربما المدروسة جيدا.
المصدر رأي اليوم
03:38
09:58