جهينة نيوز-أحمد علي هلال
رجلٌ من زمن الحلم، الحلم بأن تكون السينما أسلوب حياة، كتابةً وعيشاً ونقداً وفكراً، ولعلّ ذلك المؤسّس والرائد والمؤرخ والناقد متعدد الخيارات كان نسيج وحده هويةً ثقافيةً ومن طراز خاص، إنه أحد أهم رواد السينما في سورية بعد خمسينيات القرن الماضي، ذلك المفرد بصيغة الجمع/ الاستثناء في مسيرة السينما في سورية.. صلاح دهني مؤسّساً لحركة سينمائية لافتة ومشبعة بالعلامات الفارقة، التي أغنت المشهد السينمائي في سورية على وجه الخصوص بقيم سينمائية جديدة راحت تجذّر منظوماتها في الحياة السينمائية لتضفي عليها تحولات وانعطافات وإرادة بالتغيير جديرة بالنظر.
المولع بالسينما والابتكار
كان لذلك الفتى آنذاك شغفه بالسينما وسحر صورها.. السينما كحلم داعبَ مخيلته طويلاً قبل أن تصبح له قدراً ليعيشه ذات طموح مضرّج بالصبر والتحدّي، ففي مجاز طفولته لم تكن السينما محض ألوان وحركات وشخصيات، بل أكثر من ذلك لتتصل سيرته بسيرة السينما في سورية وبداياتها المؤسسة، هكذا هي وجوه ومسارات سيرة لا تتكرر، سيرة صلاح دهني الذي أتمّ دراسة الإخراج في خمسينيات القرن الماضي كأول سوري عام 1950 في المعهد العالي للدراسات السينمائية (الآيديك) في باريس ليخوض بعدها مغامرة إنتاج فيلم سينمائي كأول تجربة لم تنل نصيبها من النجاح إلى جانب مغامرين عشاق هم (أحمد عرفان نزيه الشهبندر وزهير الشوا)، فذلك المولع بالسينما كان له أن يشقَ غير طريق وهو يواجه العديد من المصاعب والتحديات التي لم ينضج معها الواقع تماماً ليكون حاملاً لثقافة السينما، ثقافة التأسيس الأول للجماليات العابرة للصور والحكايات، ويذهب إلى باريس ويقنع مدير (السينماتيك) بمنح سورية 100 فيلم مجاناً لتأسيس سينماتيك سوري، ثمة إنجاز هنا ستظل الذاكرة تستدعيه نظراً لما واجه من تحديات جهر بها صلاح دهني في كتابه (سينما الحب الذي كان)، في غير إشارة إلى ضياع الكثير من الأفلام الوثائقية في فترة الانتداب الفرنسي، فضلاً عن أفلام ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي تعود إلى دمشق والقدس محفوظة في فرنسا.. لكنّ بداية التحوّل الحقيقي جاءت مع الوحدة السورية - المصرية عام 1958، حين أُحدثت دائرة للسينما والتصوير تولى صلاح دهني إدارتها لتتطور الفكرة إلى إحداث مؤسسة عامة للسينما، وبعد الثامن من آذار عام 1963 أُحدثت المؤسسة العامة للسينما التي اُعتبرت بداية المرحلة الثالثة والأغنى في تاريخ السينما السورية.
إرهاصات مؤسسة
لكنّ من اتجه إلى تحقيب تلك الفترة ذهب إلى القول: إن القطاع الخاص دخل مغامرة الإنتاج السينمائي مدفوعاً بالنجاح التجاري الذي حققته موجة الأفلام المصرية التجارية ليسبق نشوء المؤسسة العامة للسينما بإنتاج أول فيلم روائي طويل عام 1962، ثم تصاعد إنتاج القطاع الخاص حتى وصل إلى 12 فيلماً عام 1974، وهكذا تستعيد الذاكرة تلك النجومية الاستثنائية للفنانين دريد لحام ونهاد قلعي، ثم محمود جبر وزياد مولوي ورفيق سبيعي، حينما بهروا عشاق الشاشة الفضية بأعمال لافتة لا تزال في الذاكرة تنطوي على الكثير من الحكايات الشعبية والمفارقات الذكية، والتي أصبحت موروثاً شعبياً وفنياً سحَرَ متلقيه –آنذاك- من أمثال (مقالب غوار وصح النوم وملح وسكر) وغيرها، لكن أدوار تلك النجوم بدت في السينما كنوع من المغامرات الشيقة التي كتبت بحروف ذهبية فصولاً من تاريخ السينما السورية، لا سيما في بداياتها المؤسّسة وتحولاتها المدهشة، وكان عدد دُور السينما في دمشق وحدها 25 داراً، وفي سورية كلها 103 دُور، لكن ما فعلته المؤسسة العامة للسينما، لسينما القطاع الخاص، هو توفير القاعدة التقنية للإنتاج على الرغم من أن تلك الأفلام كان هاجسها جذب المشاهد فحسب، ومنها (عاريات بلا خطيئة، امرأة تسكن وحدها، امرأة من نار)، وغير ذلك من الأفلام التي عكست أفعال المغامرة السينمائية وإخفاقاتها بآن معاً، إلى أن دخلت المؤسسة العامة للسينما ميدان الإنتاج بأفلام قصيرة ووثائقية وتم إنتاج فيلم طويل عام 1968، هو (سائق الشاحنة) من بطولة الفنان الراحل خالد تاجا، ثم توالت إنتاجات المؤسسة ونالت أفلامها جوائز عديدة في مهرجانات دولية، ووصلت إلى ذروة إنتاجها بستة أفلام عام 1974. وفي هذا المسار التاريخي الذي عمل صلاح دهني على توثيقه وتحليله راحَ يجلو رحلته المثيرة في عوالم السينما وتعبير صورها وصيروراتها اللافتة منذ هبّتها الإنتاجية وإرهاصاتها المبكرة.
(الأبطال يولدون مرتين).. تلك العلامة
عام 1977، أخرج صلاح دهني فيلمه الروائي الطويل (الأبطال يولدون مرتين)، فضلاً عن أفلام وثائقية قصيرة منها (نزهات صيفية، الماء والجفاف، أخبار الثقافة، المعجزة الخالدة بصرى، الآثار العربية في سورية، زهرة الجولان)، لكنه في فيلمه الروائي الطويل (الأبطال يولدون مرتين) الذي يتحدث عن الطفل (بري) الذي يبلغ سن الحادية عشرة، وقد فقَدَ أمه وأباه في حرب 1967، وقضى حياته التالية في كنف رجل عجوز طيب في مخيم اللاجئين الفلسطينيين قرب غزة، ويصدم الطفل بمشهد هجمات قوات الاحتلال الصهيوني على المخيم والمداهمات والاضطهاد ونسف البيوت، فيقرر الانضمام إلى الفدائيين والمقاومين، ويصطدم بهم عبر المطاردات، وينجح (فؤاد بري) بالهروب والتخفي ويكتسب قوةً وصلابةً، ولعلّ الحادثة التي جعلت منه بطلاً حقيقياً هي حينما يترصد سيارة دورية عسكرية صهيونية ويلقي عليها قنبلة (المولوتوف). واُعتبر الفيلم البداية المؤسسة لمشروع صلاح دهني السينمائي واختياراته الفنية والأسلوبية، حيث الطابع المميز لهذا الفيلم بوصفه قضيةً يذكرنا بعشرات الأفلام السينمائية التي احتضنت القضية الفلسطينية، وسعت لأن تكون معادلاً سينمائياً لها بمعادلة الفن والرسالة، فيلم عاش في الذاكرة طويلاً وما لبث أن يكون علامةً فارقةً جهرت بهواجس صلاح دهني الإبداعية وسعيه لإنجاز رؤيا سينمائية تَسِمُ على الأرجح معظم خياراته السينمائية، ومنها سعيه لتنشيط فكرة السينما أمام الجمهور.
صوتٌ وصورةٌ
كثيرة هي العوامل الموضوعية والذاتية التي حملت المخرج صلاح دهني على الذهاب إلى الإذاعة، الرجل الذاهب إلى مشروعه غير مكترث بالعقبات والتحديات الكثيرة التي طالت الصناعة السينمائية واستحقاقاتها في مراحل التأسيس والبدايات وفورة الأحلام ليقدم العديد من البرنامج الإذاعية حول السينما، ولعلّ برنامجه (عالم السينما) الذي قدّمه عام 1989 هو استمرار لبرنامجه الإذاعي الذي قدّمه عام 1952 واستمر به إلى عام 1974 بعنوان (صوت وصورة) و(السينما في أسبوع)، وكان محمولاً على شغف إشاعة الوعي السينمائي وإعادة الاعتبار لفن السينما وأهميته في العملية الثقافية والإبداعية ليؤسّس عام 1978 مجلة الحياة السينمائية.
صورة الناقد
صلاح دهني العاشق للسينما وتأريخها وتوثيقها مدفوعاً بفكرة أستاذه المؤرخ والناقد السينمائي الفرنسي جورج سادول في باريس القائلة بأن السينما حالة شغف تحتاج إلى الحب أولاً، ليكتب في الرواية والقصة ويترجم مسرحية (المفتش العام) للكاتب الروسي غوغول، إضافة إلى ما كتبه في السينما، فضلاً عن فصول مسرحية وإذاعية، ذلك ما جعل منه ناقداً واسع الطيف بثقافة السينما، وإشاعة فنها ولكن لماذا أدار ظهره للسينما وانخرط في النقد؟ ثمة ما يتعلق بالفرجة السينمائية السورية وندرة الفرص وانتشار سينما المؤلف كما كان يراها هو ويجهر برأيه: لست ضد سينما المؤلف، ولكن أين معادل غودار أو فليني أو بيرغمان في سورية، وينتقل بعدها عبر سؤاله الكبير هل يواكب النقد الحالة السينمائية في بلدنا؟ ليميّز بين الناقد والناقل في حقل الكتابة عن السينما، ولعلّ كتابه (السينما السورية مكاشفات بلا أقنعة) الذي حمل خطاباً نقدياً سينمائياً متماسكاً سيُضاف إلى إنجازاته السينمائية والإذاعية والإبداعية في الأجناس المختلفة، وفيه يقول: (إن مرحلة تبني الدولة للسينما واعترافها بها كجزء لا يتجزأ من الثقافة الوطنية للشعب وتربيته لم تأتِ من فراغ، ولا كمنحة غير محسوبة أو مصادفة مبررة.. جاء هذا التبني بعد خيبات الماضي كتسلسل طبيعي للحراك الثقافي والاجتماعي الذي عرفته البلاد، وبلَغَ قمته في خمسينيات القرن الفائت)، ففي كتابه (قصة السينما في سورية) يسرد صلاح دهني مرحلةً خصبةً من عمر الفن السابع في سورية مع بداية تكوّن القطاع الخاص، وعن مرحلة التأسيس للمؤسسة العامة للسينما، حيث ركزت عملها ضمن خطة محددة ومدروسة على إنتاج أفلام قصيرة لزيادة خبرة الفنيين الشبان العاملين فيها ممن بدؤوا يعودون من البعثات التي أوفدوا بها وتُزود بعدها المؤسسة بمزيد من الأجهزة اللازمة لعملها، والسعي لإنتاج أول فيلم طويل للمخرج الراحل محمد شاهين حمل عنوان (زهرة من المدينة)، وفيلم آخر بعنوان (سائق الشاحنة) عام 1968.
ويمكن لصلاح دهني المؤرّخ التحدّث عن تجارب فيلمية شكلت مرحلة في السينما الجديدة في سورية عام 2008، ومنها (سيلينا، الليل الطويل، التجلي الأخير، روداج، مطر أيلول، نصف ملغ نيكوتين، دمشق مع حبي)، لكن صورته ناقداً ستأخذنا إلى جدليته الأثيرة، أي النقد السينمائي والسينما، والتي يكثّفها بالقول: إن السينما أو الحركة السينمائية هي التي تربي كتّاباً ونقاداً.. فالنقد السينمائي ازدهر في فترة السبعينيات والثمانينيات.. والنقد الحقيقي يحتاج إلى ثقافة سينمائية واسعة ومتابعة للحركة السينمائية في جميع أنحاء العالم فلا تنحصر مهمة الناقد في مراجعة قطعة فنية فقط بل يجب عليه إيجاد مناخ حولها من أجل تشجيع موقف تجريبي ليس فقط عند المؤلفين، بل عند الجمهور أيضاً، حيث إن ممارسة النقد السينمائي لا تعني توزيع القُبل أو الشتائم جزافاً، بل ينبغي الالتفات إلى إيجاد تزاوج محكم بين عمليتي الإبداع والنقد لإيضاح القيم الجمالية، مؤكداً أن النقد بحاجة إلى وجود ما يسمى (السينما تك) أي مكتبة الأفلام، فالنقاد من خلال هذه المكتبة يتعرفون إلى السينما ويرون كيف تطوّر هذا الفن ومن هم مبدعوه، وما هي الإبداعات الجديدة والأفلام التي شكلت مفاصل أساسية في الحركة السينمائية، فإذا كان ذلك ما قاله صلاح دهني لمحاوريه فذلك ما يحدّد منهجه النقدي وهو المخترق للإبداع ومدارسه وتياراته من السينما إلى الإذاعة إلى التلفزيون والصحافة والنقد، حتى تكتمل أقانيمه في التبشير بثقافة سينمائية مختلفة أرسى دعائمها فأخلص لمشروعه.. ذلك السينمائي العتيق في هواجسه المشروعة لصناعة سينمائية وطنية، ظلّ سادن أحلامٍ كبرى استمرت بما أنجزه عشاق السينما الذين حملوا توهج روحه وأبجدية شغفه في الراهن السينمائي.
ذاكرة السينما السورية
ظلّ صلاح دهني العابر لأزمنته ولغته صوتاً صارخاً في البرية، يعيدُ الألق إلى مجد السينما السورية وثقافتها في الوعي الجمعي السوري والذاكرة المستقبلية، لا بوصفه مؤسّساً فحسب، بل لكونه معلماً وملهماً للفن السابع من الصورة إلى الكلمة وما بينهما من أكوان فسيحة جعلت من أفعال السينما أفعال حياة ممكنة، وهي المحمولة أبداً على أحلام لمّا تزل طازجة، حتى يمكن القول عن مسيرته وعلاماتها الفارقة إنها صُنعت بشغف وسحر البدايات وبهاء الرؤى، التي مازالت تعيدنا إلى الزمن الجميل.
سطور وعناوين
• مخرج ومحرر وناقد ومؤرخ سينمائي، ولد في درعا عام 1925، وانتسب عام 1947 إلى معهد الدراسات السينمائية العالية في باريس، ودرس في جامعة السوربون ليكون من أوائل الأكاديميين السوريين السينمائيين.
• عمل محرراً وناقداً ومؤرخاً سينمائياً، ورئيساً لدائرة السينما والتصوير في وزارة الثقافة السورية، ومديراً لإدارة الشؤون الفنية في المؤسسة العامة للسينما، ورئيساً لاتحاد النقاد السينمائيين في سورية.
• قدّم صلاح دهني خلال أكثر من سبعين عاماً من مسيرته الفنية محتوى سينمائياً نقدياً وتثقيفياً في طليعة الرواد السينمائيين العرب.
• هو واحد من مؤسسي (رابطة الكتّاب السوريين) كأول جمع أدبي مستقل في سورية، وضمت الرابطة أسماء مثل حنا مينه وسعيد حورانية وفاتح المدرس وغيرهم.
• من أعماله في الأدب: ملح الأرض، حين تموت المدن، الانتقال.
• ومن كتبه في السينما: قصة السينما، دعوة إلى السينما، معجم ومصطلحات سينمائية، سينما سينما.
المصدر : مجلة جهينة
http://jouhina.com/magazine/article.php?id=4031