جهينة نيوز
" لا تفقدها لروحك... وتمسك بالرجاء.. فكل واحد منا وهو يسجد لله... لا يقهر... فنحن من حركنا وجوه التاريخ... ونحن من دفعه للأمام.. ونحن من يوحون له بمستقبله!!! "
إن كل نداء إلى التاريخ ينتج مورداً رمزياً قوياً يتجلى بشكل متناقض فيمكن أن يلهم اللجوء إليه شخص ما لتغيير حياته الخاصة وتعزيز الثقة والمعاملة بالمثل وخلق رأس المال الاجتماعي وتعزيز المصالحة والحوار والتفاهم المتبادل والتضامن وحتى يتم التحويل إلى التنمية الاقتصادية في ظل ظروف معينة، كم يمكن إن يثير اللجوء إلى التاريخ النزاعات ويبرر العدوان ويغرس الإيمان في عدالة همجية الحروب ويبرر تجاوزات الإرهاب ويحول نوبات العنف العفوية إلى إبادة منهجية لبعضنا البعض، مما يدفعنا وبحرص لنتسائل عن ماهية أسباب ذلك الموقف التعبيري تجاه التاريخ؟ ولماذا تتزامن النجاحات الواضحة في تطور وتطوير العلوم التاريخية مع إنتاج كل أنواع الأوهام والمفاهيم الخاطئة عن الماضي التاريخي؟ يتميز التفكير التاريخي للعصر الحديث بـالانعكاس التاريخي الذي يتجسد عبر الظروف المثالية للمجتمع المرتبطة بأساطير تتمتع بميزات الواقع كما لو كانت بالفعل في التاريخ أو ينبغي تحققها في المستقبل لذا يتم تقديم التاريخ كعملية تقودنا بعيدًا عن الحالات المثالية أو تؤدي إليها، ومن هنا تتجلى سببية تصادم إصدارات مختلفة من التاريخ مندمجة بالقيم المعادية للحياة.
وقد كان هذا التحول في التفكير التاريخي ممكنًا في ظل التجربة الخاصة للزمن التاريخي فلذا من الضروري بذل جهود مستمرة بحيث يبقى هذا الماضي في الماضي ولا يحدث مرة أخرى في المستقبل وايقاف نشوء ظاهرة جاذبية الجمهور للتاريخ المعني عبر تشكيل المجال العام فيأخذ التاريخ طابعًا عامًا ويصبح موضوع نقاش عام ويتم التلاعب بالمناقشات العامة والرقابية وحشو المنتجات المزيفة التاريخية، ويجب إن ندرك إن في عملية تحويل التاريخ إلى ظاهرة عامة هناك تزامن مع تشكيل الأمم المدنية كمجتمعات خيالية كبيرة، وعبره أصبحت الهوية التاريخية واحدة من أهم أسس الهوية الوطنية، ليأخذ التاريخ شكل الروايات الأساسية والروايات الكبرى الموجهة إلى المجتمعات وليحتوي كقصص كبرى على أفكار كبيرة ومشاريع بناء عالمية تقوم عليها الهويات المعقدة التي يمكنها دمج المجتمعات في المواقف الحرجة وتمكين حشدها.
وهنا أود أن أوضح واطرح أطروحة قد تبدو مثيرة للجدل والتي سيناقضني بها اساتذتي فعذرا لهم، وسيخالفني بها زملائي، فأستسمحهم جميعا، لانني اجد نفسي مجبرا على طرحها في ضوء ما توفر لي من رؤية تاريخية متواضعة، تتلخص في مسألة التاريخ الكبير المعني والذي ربما اعتدنا كتابته بأحرف كبيرة غير إني أرى انه قد فقد الوظائف التي كانت له ونفذها قبل عدة قرون وحتى قبل عقود، فاليوم يعتقد بعض الناس أن الأداة القديمة التي أثبتت جدواها سيمكنها من أن تحل مشاكل مماثلة في الظروف الجديدة والمعاصرة، وأن التمسك بالسرد التاريخي الكبير سيسمح بدمج وتعبئة المجتمعات الكبيرة، لكنني اناقض ذلك لأنه لا يحدث دائمًا فما إن يظهر السرد الكبير ويدمج في المجال العام فهو لا يوحد المجتمع بل إنه يجزمه !! وما هي أسباب فقدان الوظائف الفلسفية الحضارية والفكرية وهل حقيقة كان ذلك بسبب الروايات التاريخية الكبيرة؟ فلذلك أرى وجوب أن يتم السعي وراءها لفهم وادراك التحول الاجتماعي العميق الذي يحدث اليوم في جميع أنحاء العالم، كما إن الروايات الكبرى بمفهومها كانت توزع نسخًا مختلفة من تواريخ بديلة كتاريخ الخاسرين وتاريخ الأقليات والقصص المحلية المتنوعة وقصص الطبقات التي لم يكن لها صوت من قبل، مما يطرح تساؤلا في هل يمكن للرواية التاريخية الكبرى والتي تم إنشاؤها وطرحها من الأعلى أن تدمج هذه الروايات المتنوعة؟ وكيف ستكون طبيعة وقوعها وهي بحد ذاتها مختلفة اختلافًا أساسيًا؟ هنا يجدر بنا إن نقر إن أسس تنظيم المجتمعات الحديثة تغيرت وهي ألان في تغير مستمر، ونحن وحتى إن كنا منجذبين إلى الهياكل العقلية المميزة للمجتمعات الاستهلاكية غير إن التاريخ يتحول أيضًا إلى منتج استهلاكي لان الإنتاج عملية جماعية إلى حد ما بينما الاستهلاك هو دائما فردي الجانب والمحتوى، وهو ككائن للاستهلاك ينقسم إلى قصص فردية وبمجرد ظهور شبكات التواصل الاجتماعية أصبح من الواضح ادراك مدى رغبة الناس في سرد القصص لأنفسهم وحتى أولئك الذين لا يكتبون ببساطة لجئوا لتحميل الصور ونشرها فأصبحت عبرهم القصة التاريخية متعددة الوجوه!! ونتيجة للتحولات العالمية نلاحظ كيف تفقد الروايات التاريخية المألوفة اليوم مصداقيتها، غير إن الأشكال الجديدة للتصدي للتاريخ التي ظهرت اليوم لم تملأ بعد المساحة العامة ولم تتلق الشرعية الاجتماعية التي يمكن أن تبدو مقنعة، ونتيجة لهذه التحولات نلحظ أيضا وجود فراغ معين نشأ فيما يتعلق بالوضع الوسيط الغريب اليوم، وهذا الفراغ مليء بالشعبية والدعاية المستندة للحنين إلى الأوقات التي كان كل شيء فيها واضحًا ويمكن التنبؤ بها او المتناقضة مع ثقافة الخوف والمنتشرة اليوم في بلدان مختلفة ،فهذا هو أيضا نوع من ملء الفراغ مما يؤدي إلى إمكانية عودة بث وتطبيق القصص التاريخية الكبرى في ظل هذه الظروف غير إن ما يمنع هو إن طبيعتها تختلف مما يجرف بها لأمكانية أن يتخذوا منها شكلًا متطرفًا فلا يتطلبون من أتباعهم المعرفة بل الإيمان الأعمى عبر التحدث كثيرًا عن "القيم التقليدية" والتي يجب إرجاعها، ومن يتأمل بذكاء لتلك القيم فسيجد أنها من اختراع اليوم ولا تتعلق بالتاريخ الخيالي والذي لا يعرفه حتى المؤرخين المجتهدين.
فما الذي يمكننا الاعتماد عليه في هذه الظروف؟ أو ما هو مستقبل التاريخ؟ للأجابة عن ذلك وجدت إن الحل يتمحور بالأنظمة المؤسسية القائمة على الوصول المحدود والمفتوح إلى الموارد فأن كانت هي تهيمن على المجتمع معتمدةً على الوصول الحصري لمورد معين ذي قيمة فإنها ستدعم نظام الوصول المحدود إليه وتنشأ حالة مثيرة للاهتمام للغاية في ظروف الوصول المحدود إذ عادة ما يتم فهم المورد نفسه في منطق تناقص الغلة وكلما زاد عدد المشاركين سيقل عدد الأفراد الذين يحصلون عليه وهذه لعبة محصلتها صفر فالفوز بواحد يؤدي بالضرورة إلى خسارة الآخر ومع ذلك يمكن إنشاء موارد قيمة الوصول المفتوح، وهذا طرح لطيف لكن ما هي علاقته بالتاريخ؟ وكيف يرتبط به؟ نجد الترابط بينهما إذ كان التاريخ موردًا رمزيًا كبيرًا فيمكننا إذن وصف الوصول إليه في منطق مماثل، وذلك إن لن نسمح لأي شخص بإعادة كتابة تاريخنا وطرد المنافسة وإنشاء قصص تاريخية كبيرة في معظم الأحيان بمنطق الوصول المحدود، وذلك المنطق هو الذي ينهار اليوم إذ أن المعنى الرمزي لمورد التاريخ المحدود في ظل الظروف الجديدة قد استنفذ.
إن مستقبل التاريخ وأنا مقتنع، هو أننا سنتعلم التعامل معه في وضع الوصول المفتوح، وان المستقبل ينتمي إلى مشاريع التاريخ التشاركي هذه هي القصة التي أنشأتها المشاركة العامة، وفي الختام أود التأكيد ومن أجل تجنب الالتباس المنهجي فأن هذا هو نداء عام للتاريخ وليس عن التاريخ كعلم علمي على الرغم من أنه في العلوم التاريخية هناك أيضًا تغيرات خطيرة بظهور التاريخ الجزئي وإعادة النظر في الموضوعات الكبرى عبر مجموعات مصغرة وهذه ليست مجرد نظرة على القصة الكبيرة، لذا من الضروري فصل العلوم التاريخية عن المناقشات العلمية وعن كيفية عمل هذه الموضوعات في المجال العام وبالأداء العام للمعرفة التاريخية.