جهينة نيوز:
كنت في يوم من الايام سواء سئمت أم يصبني السأم أحب ان أتجول في شوارع دمشق .. مسحورا بالشمس و بالظلال و مبهورا بذلك التنوع البديع الذي لاينتهي في كل شيء .. أعراق وأديان ومساجد وكنائس وبارات وملاه وآثار أوابد وفن عصري .. بيوت قديمة وبيوت حديثة .. و فقر وثراء .. و أشكال من الفاكهة لا حصر لألوانها .. وأسواق لكل شيء في الوجود ..
ومنذ أن دخل الكومبيوتر حياتي أعلنت انسحابا تكتيكيا من رحلات الاستكشاف وصرت أهيم على وجهي في كل العالم.. الى ان دخلت سوق اليوتيوب .. بهرني السوق لكثرة مافيه من زحام وعروض لاحدود لها .. ولكن ماهي الا فترة إلا ووجدت أنني فجأة صرت من أولئك المشردين في شوارع اليوتيوب .. سبحان مغير الأحوال .. من متسكع يتشهى وجه دمشق من كل الزوايا ويطوف بالعيون والشفاه ويستريح فوق الحنجرة قبل أن يهبط كجلمود صخر حطه السيل من عل ليستقر فوق الكتفين .. الى متشرد في دنيا اليوتيوب وشوارعها .. وهنا في اليوتيوب ايضا أعراق وأجناس وكنائس ومساجد وملاحدة وشيوخ وفنانون وأدباء وطباخون وكل شيء في الوجود .. ويكفي أن تخطئ في العنوان وتدخل حيا من أحياء اليوتيوب حتى يتدفق كل من في الحي إلى شاشتك ويتطفلون عليك ويطلبون منك أن تستمع إليهم .. ولكن شتان مابين دمشق ومابين هذا المكان الذي استحال الى شارع للمجانين اسمه اليوتيوب ..
فرغم أن الأماكن الراقية منتشرة في كل مكان من اليوتيوب الى أن الغث يفوقها ويغطيها تماما ويغطيها .. وصرت كلما دخلت في ساعات سأمي الى شارع اليوتيوب أغادر فورا لأن شوارعه الكثيرة ومخازنه الكبيرة التي تعرض أفضل مالديها من اشياء لا تنتهي مليئة بالمتشردين ايضا والفضوليين .. ولكن على كل رصيف يقبع عشرات الباعة الجوالين لبضائع رخيصة .. باعة البسطات الرخيصة تتعثر بها في كل شبر وتكاد تتعثر وتقع وأنت تسير بينها ويعترضك أصحابها بأصواتهم القوية ونظراتهم التي تدعوك للتوقف عندهم .. الباعة المتجولون لا يعرضون الكتب ولا المجلات ولا أدوات الزينة .. بل يحاضرون وينظّرون ويؤلفون الكتب !!! .. ويحللون .. تنظر الى أحدهم فتجد له شكلا غريبا وهيئة غريبة ولسانا سفيها ويتحدث كـ فيلسوف غاضب .. وتسأل نفسك .. هل هذا يريد ان يحل مكان أبي العلاء المعري أو ابي حيان التوحيدي أو ايمانويل كانط أو سبينوزا أو المتنبي أو نزار قباني؟ .. وفيما انت تتفرس في ملامحه الغبية وعينية الفارغتين وهو يشرح لك الاستراتيجيات الكونية لأمريكا وأوروبا وهي تحاصر سورية وايران ونهاية عصر المقاومة .. وكيف ان الاحتلال الروسي والايراني يدير شؤون سورية والقصر الرئاسي .. يقفز أمامك بهلوان آخر ويشدك من يدك مثلما يفعل ذلك النوع من الباعة الثقلاء على البسطات ليريك بضاعته المهربة والموثوقة المصدر وهو يضع عنوانا خطيرا على المقطع الذي نشره .. وما إن يبدأ بالكلام والترويج لبضاعته الفريدة عن المفاوضات السرية بين سورية واسرائيل او ان روسيا واميريكا اقتسمتا سورية أو الاتفاق بين اسرائيل وايران على العرب هو حقيقة .. حتى تكتشف انه نصّاب ومهرب يريد أن يبيع بضاعة ليربح لا لبنشر رسالة .. وأن البضاعة التي يبيعها على الرصيف ليست بضاعة أصلية وأن البسطاء يتزاحمون حولها مصدقين ويتدافعون للحصول عليها وهم لايعرفون انها بضاعة فاسدة .. فتتركه وتلتفت يمينا حيث يصدح أحدهم ويعلو صراخه في أذنيك وتنظر مذعورا الى صاحب ذلك المقطع او صاحبته لتدرك انك أمام مجنون و مجنونة فرّت من العصفورية .. وهؤلاء يقولون لك أحاديث عن السياسة ويكلمونك وكأنهم وصلوا للتو من اجتماع في البيت الأبيض أو أن أصدقاءهم هم مجموعة الدولة العميقة في وول ستريت .. وأما افضل طريقة للاستدلال عليهم فهي إنهم وقحون وبذيئون ويحبون الهزء ويخلطون الكوميديا بالسياسة ..
وهناك دكاكين لإعلاميين مشهورين يعظون ويحذرون ويصرخون مثل خطباء يوم الجمعة وهم يبشرون بسقوط النظام السوري او تبعيته لإيران وروسيا واقتراب نهايته .. ويصبحون أحيانا خبراء في الاقتصاد ويفهمون على قيصر ويفهم عليهم .. ثم بعد أن يذموا السياسة السورية يهمسوا في اذنك ان لديهم بضاعة سياسية تركية من ماركة أردوغان لانظير لها في السوق .. ثم ينثر أخبارا عن أردوغان الذي كسر شوكة اميريكا .. فتعلم أن صاحب الدكان كان بائع بسطة في السياسة وربما بائع هوى ولكن الإخوان المسلمين استأجروه او استاجروها للعمل في دكاكينهم .. وفي منطق هؤلاء يتغلب الأصل وفهلوية بائع البسطة في سوق الحرامية ونكهة بيع الهوى والجسد .. وتفوح رائحة الفحشاء من أنفاسه .. هنا ماعليك الا ان تغادر بسرعة لأن هؤلاء سيسببون لك ذبحة قلبية او ضيقا في الأنفاس من كثرة النفاق العلني والوقح والتملق والافتراء حتى على الله ورسوله ..
تهرب وتسرع وأنت تغادر البسطات علك تجد مكانا راقيا ولكن هيهات .. فهناك الطباخون وهناك السماسرة وهناك السخيفين الذين يظنون ان دمهم خفيف رغم ان دمهم ثقيل ويبدون سمجين .. أحدهم يأكل برميلا من البطاطا والثاني يأكل طبقا يكفي ان ينهي المجاعة في افريقيا الوسطى .. وهو يتباهى بفعلته وجشاءاته ..
وعندما تتمكن من النجاة والهرب الى حيث الموسيقا الراقية والسيمفونيات وأحاديث السياسة الراقية والتحليل السياسي الذكي والواقعي واللقاءات الدسمة والثمينة والغنية في شارع راق بلا بسطات وطفيلي السياسة الكثر .. تقفز عليك اعلانات من غير ميعاد تقطع لك ذاكرتك ومتعتك وتواصلك مع الفكرة .. كما لو كنت تقبل حبيبة خلسة في ضوء الشموع قبلة رومانسية لانهاية لها واذ بك تسمع صوت ابيها حولك على بعد مترين مثلا ينادي غاضبا او يسعل وهو يدخن؟؟ .. حيث يقفز اعلان اليوتيوب في وجهك .. وتتوقف الموسيقا او الحوار او السياسة او القصيدة الادبية .. ويظهر أمامك مفك براغي وبراغي أو صمغ سحري يتلوى كالراقصة وهو يناديك ان تشتريه .. أو يظهر إعلان عن عجلات جرار زراعي .. أو طعام للكلاب ..
تتوقف فجأة عن قبلتك .. وتسوي جلستك .. وتهرب الحبيبة وتختفي خلف الاعلان .. وعندما تستأنف الاغنية او الحوار او المحاضرة .. وتعود حبيبتك إليك .. تكون فقدت اجمل لحظة .. وتبدأ من جديد .. حتى تقرر ان تغادر تلك الجلسة سواء رضيت الحبيبة ام لم ترض ..
ولذلك فلا شيء يعادل عندي تسكعا في دمشق .. ومرورا على كل شوارعها وأزقتها .. وتنوعها .. على الأقل لن تسمع مجانين الانترنت .. ولا المتطفلين على السياسة ولا تجار البضاعة المهربة والمسروقة و اللاهثون خلف الإعجاب ..
والحقيقة أنني كلما دخلت شارع السياسة على الانترنت وأجد حولي كل هذا الكم من المجانين أتذكر مشهد نور الشريف وهو في لحظة دخوله الى مشفى المجانين والاستقبال الحافل الذي لقيه .. وكان حوله يوتيوب حقيقي .. وماحدث هو ان المشفى فتح أبوابه وأطلق نزلاءه الذين اجتاحوا اليوتيوب كالطوفان وصرنا نراهم ونسمعهم .. الى أن أغرقوا العالم .. وصار مشفى المجانين هو الملاذ الآمن حيث لايوجد مجنون واحد .. فكل المجانين صاروا أحرارا على اليوتيوب .. ولم يبق إلا ان نبني مشفى للعقلاء عندما يكون كل من في الخارج مجنونا .. العقلاء صاروا يحتاجون الى مشاف تضمهم وتمنعهم من الخروج خارج حدود المشفى ..
الصفحة الرسمية لـ نارام سرجون
00:54
19:06