جهينة نيوز - ألكسندر نازاروف
شيء مشترك يجمع بين رؤساء فرنسا في الآونة الأخيرة، وبين العقيد الراحل، معمر القذافي: لا توجد قضية عالمية بصدد التعقّد أو الحلّ، إلا ورغبوا بالتدخل فيها...
لقد حافظت بريطانيا العظمى على كافة عاداتها الإمبراطورية، حتى عقب خسارتها لوضع القوة العظمى، حيث بقي توجّه سياساتها الخارجية إجمالا كسابق عهده، باستثناء أن لندن تحاول الآن تخمين موقف واشنطن قبل الأوان، حتى تتخذ مواقف أكثر راديكالية منه، لذلك ظلت السياسة البريطانية قابلة للتنبؤ، بينما تعرف بريطانيا مكانتها ولا تصبو إلى ما هو أعلى من ذلك.
أما فرنسا، فإنها حزينة لخسارتها اللمعان الإمبراطوري على نحو مؤلم، ولم تدرك بعد ما الذي تستطيعه، وما الذي يخرج عن إطار قدراتها في الواقع السياسي الراهن الذي يحكم العالم. لهذا السبب يصعب التنبؤ بشخصية السياسة الخارجية الفرنسية التي كثيرا ما يغيب عنها المنطق. عفوا، ربما كانت السياسة الخارجية الفرنسية قابلة للتنبؤ، لكن في إطار واحد فحسب، وهو أن فرنسا تكون في البداية معترضة، لكنها في الوقت ذاته قابلة للإقناع، بينما تبذل فرنسا جهدا فائقا كي يكون صوتها مسموعا، بدرجة كان العقيد القذافي نفسه ليحسدها عليه.
يتجلى ذلك واضحا في تصرفات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي ملأ الدنيا صخبا بزيارته إلى واشنطن، ثم تجوّل مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ممسكا يده بحميمية، في الوقت الذي أصبح فيه ترامب يمثل ألما مزعجا لأوروبا بأسرها، ليضع ماكرون نفسه بذلك في مواجهة أوروبا بأسرها، وليصرّح حينها بعلاقات خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية... وقفت أوروبا مشدوهة، وحبس العالم أنفاسه.. لكن الجبل تمخض فولد فأرا، ولم يتبع ذلك أي شيء يذكر...
ثم جاء الرئيس، إيمانويل ماكرون، فجأة إلى بطرسبرغ، ضاربا هو والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية عرض الحائط، وشارك بكل دفء وصداقة إلى جانب بوتين في جلسات المؤتمر الاقتصادي ببطرسبرغ، ومرة أخرى تجمّد العالم مراقبا لما يمكن أن تعنيه تلك اللقاءات؟ لكن موقف فرنسا توقف عند هذا الحد وكفى...
ثم دارت ساقية الإعلام تنشر تصريحات إيمانويل ماكرون النارية حول ضرورة إنشاء جيش أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية لحماية أوروبا من روسيا! حتى أن تلك التصريحات تسببت في شجار علني مع الرئيس ترامب، وبالطبع لن يكون هناك أي جيش أوروبي بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية، لأن تكلفة إنشاء جيش كهذا أكبر بكثير من المبالغ التي يطالب بها ترامب لرفع مساهمة أوروبا في الموازنة العسكرية للناتو، وهو ما ترفض أوروبا الانصياع إليه، وهو ذات الموقف الذي تبناه ماكرون نفسه بضراوة... جعجعة أخرى ولا طحين هذه المرة أيضا.
ثم جاءت بعد ذلك بعض المواقف الفرنسية التي تذكّرنا بوجود شاحب لفرنسا في أفريقيا وسوريا.
الآن يدخل مشروع "السيل الشمالي-2" مراحل التنفيذ النهائية، بينما خفتت الأنباء بشأن الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية، التي تريد إيقاف المشروع، وألمانيا التي تحتاج للغاز الروسي، وكان وقوف المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، حجر عثرة أمام الرغبة الأمريكية، سببا في وقوع القفازات الأمريكية الصغيرة في أوروبا تحت سيطرة ألمانيا، وفقدانها القدرة على النطق، فظهرت قوة غير متوقعة لأوروبا أمام الضغط الأمريكي المستمر.
وفي الدقائق الأخيرة بينما كانت القضية على وشك الانتهاء، خرج علينا ماكرون ليلعب دور الذراع الأخير لواشنطن، متخوفا من أن يمثّل فائض الغاز الروسي الرخيص تهديدا لقطاع الطاقة في أوروبا، ولمحطته الأخيرة ومستهلكه الأساسي ألمانيا...
لكن فرنسا، وبعد يوم واحد فقط، تركت الباب مواربا لتقتنع بحل وسط يضع قيودا أوروبية على "السيل الشمالي-2"، لكنه يستثني ألمانيا، بشرط موافقة اللجنة الأوروبية، أي أن ألمانيا سيتعين عليها دائما أن تطلب الإذن من باريس.. ولكن النتيجة أن مشروع "السيل الشمالي-2" سوف ينفذ.
هناك انطباع عام، بأن الرئيس ماكرون إنما يصرخ فجأة من ركن بعيد، فيرتعد الجميع خوفا، لكنه يبادر بعد ذلك بالابتسام، ثم يقول شيئا لطيفا، فيدرك الجميع كم هي فرنسا بلد طيب ووديع، كل ما هنالك أنه يتعيّن على الجميع سؤالها قبل الإقدام أي شيء…
يملأني الآن فضول لمعرفة ما ستنفجر به فرنسا عشية تنفيذ "البريكست"، أو حينما يبدأ العدوان ضد فنزويلا أو إيران، أو بشأن "صفقة القرن". عموما إذا لم ألاحظ رد الفعل الفرنسي لهذا السبب أو ذاك، فلا أظن سيفوتني الكثير.. وكما قال القذافي يوما: "إلى الأمام..والكفاح مستمر"!
الصحافة الروسية – ترجمة RT
10:36