جهينة نيوز
لكل مواطن سوري مهنتان، مهنته الأصلية، والإعلام، مقولة ربما تنطبق على الحالة الإعلامية الراهنة في سوريا. هكذا أصبح الإعلام مهنة من لا مهنة له في بلد المليون إعلامي، وانتشرت «مهنة المتاعب» كالنار في الهشيم في صفوف السوريين من كل الأعمار، ولدى سؤال أي سوري عن الهواية التي يرغب في ممارستها يقول بلا تردد إنها «الصحافة»، ويؤكد أنه كان يرغب بدراسة الإعلام، ولكن الظروف حالت دون ذلك.
عجزت كلية الإعلام في جامعة دمشق عن استقبال الكم الهائل من الطامحين إلى الالتحاق بركب «السلطة الرابعة»، وهنا تكاثرت مراكز التدريب الإعلامي، التي لعبت على «وتر» حب الشهرة والظهور لدى معظم هؤلاء.
أصبح أمراً مألوفاً في دمشق أن يعطيك أحد الشبان على الطريق إعلاناً لدورة تدريبية بـ 50 ألف ليرة سورية، لإتباع دورة في أحد مجالات الإعلام، والتي تتنوع حسب الـ menu بين الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وتصل قائمة الرغبات إلى أدق التفاصيل في التقديم التلفزيوني وعمل المراسل.
تركز هذه المراكز على الأسماء اللامعة من الإعلاميين والإعلاميات لجذب أكبر عدد من المتدربين، وعلى مبدأ تعلم اللغة الإنكليزية في خمسة أيام، فإن أقل 100 دولار فقط، قادرة على تحويل «ربة منزل» تحمل شهادة إعدادية إلى إعلامية في ليلة وضحاها. يوحي المشهد الرسمي الأخير لتوزيع الشهادات في هذه المراكز وابتسامات «الثقة» المتبادلة بأن أصحابها أحدثوا نقلة نوعية في حياة الملتحقين بهذه الدورات السريعة، وأن هذه الشهادة المصدقة من وزارة الخارجية كافية لخوض غمار سوق العمل الإعلامي في سوريا والعالم!
وكدليل على مستوى الانحدار التجاري في هذا المجال، انتشر إعلان لإحدى الدورات مؤخراً في دمشق بنحو 500 ليرة (أقل من دولار واحد) لتعلم أصول الإعلام الإلكتروني!
وبعد افتتاح قسم الإعلام في ثمانينيات القرن الماضي وتحوله إلى كلية مستقلة بأربعة تخصصات قبل نحو 10 سنوات، تخرج المئات من الطلاب، وبعضهم يحملون شهادة الماجستير، وبسبب محدودية عدد وسائل الإعلام في سوريا بقي معظم هؤلاء جالسين في منازلهم ينتظرون أي فرصة للعمل في تخصصهم، بينما فقد آخرون الأمل واتجهوا إلى مجالات أخرى.
وخلال السنوات الماضية، أضيف إلى هؤلاء، آلاف الخريجين من مراكز التدريب الإعلامي، الذين تعرضوا لصدمة سوق العمل، وشعروا بأنهم اشتروا شهادات في «الوهم»، فيما شكل التحاق بعضهم بالعمل الإعلامي «كارثة» مهنية.
وكنتيجة مباشرة لدخول هؤلاء مجال الإعلام، ازدادت انتهاكات المهنة على نحو غير مسبوق، واختلط عمل الصحافي بـ «المحلل» وأصبح رأيه أهم من الحدث، وانحدر الصحافة الفنية إلى مستوى «فانز» الفنانين، وأصبح أقصى طموح الصحافي التقاط «سيلفي» مع فنان أو فنانة.
وتحول الصحافي الميداني إلى مقاتل على الجبهة، وهبط خطابه من الإنسانية إلى دعوات «الإبادة» والتطهير العرقي، من دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه حياة المدنيين.
أما صحافي المحليات، فقد تحول إلى «معقب معاملات» يلمع صور المسؤولين لتسهيل «البزنس» الخاص به، في حين نزع محرر الشؤون الاقتصادية ثوب الموضوعية وارتدى ثوب «سمسار العقارات».
يقول مصدر في وزارة الإعلام السورية لـ «الأخبار» إن الوزارة منعت هذه الدورات وحصرتها بموافقتها، واشترطت أن يكون المدرب معتمداً من قبل وزارة التنمية الإدارية، وأنها تعتمد معايير دولية بالنسبة لاختيار المدربين، والمدرب من دون شهادة لا يعد مدرباً.
ولكن المصدر يعترف بأن هذه القرار لا يزال «حبراً على ورق»، وهذه الدورات خاضعة الآن للمحسوبيات وقرارات «المتنفذين»، وهي في الغالب لا تهتم بمستوى المدرب ولا المحتوى الذي يقدمه وأصبحت نشاطاً تجارياً بحتاً.
في الألفية الثالثة، باتت البيئة الإعلامية مفتوحة للجميع، ليس فقط في سوريا، بل في العالم كله بسبب سهولة استخدام التكنولوجيا وانتشار مفهوم «المواطن الصحافي» خصوصاً في فترات الحروب التي يكون فيها الجمهور متعطشاً للمعلومة من أي مصدر كان، وهذا ما يفسر ظهور كم هائل من الأشخاص الذين يدّعون ممارسة العمل الصحفي.
ويرى أصحاب هذا الموقف أن فوضى الدورات أمر طبيعي مع ديمقراطية انتشار وسائل الإعلام، وكسر جميع الحواجز بين الإعلام التقليدي والجمهور عبر السوشال ميديا، ما أدى إلى استسهال اتخاذ قرار الدخول إلى عالم الصحافة من كل شخص لديه الرغبة في قول شيء ما. من يسمح لشخص لا يملك شهادة في الطب مثلاً بإجراء عملية جراحية، مهما بلغت درجة موهبته، فما بالك بمن يتوجه لملايين البشر؟، ويمكن القراءة في مجزرة رواندا التي تسببت بها مذيعة قرأت خبراً يتضمن خطاب كراهية عبر الراديو، وأدت إلى مقتل مليون إنسان!
المصدر: جريدة الاخبار