جهينة نيوز:
أصدرت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش تقريرها النهائي المتعلق بأكبر صفقة فساد تتعرض لها الخزينة العامة، والخاصة بمشتريات وزارة التربية خلال السنوات الثلاث الممتدة من العام 2016 ولغاية العام 2018.
التقرير انتهى إلى جملة توصيات تضمنت طلب تحريك الدعوى العامة بحق عدد من مسؤولي الوزارة وموظفيها، ورفع الحجز الاحتياطي المفروض بحق بعض الموظفين، الذين أثبتت تحقيقات البعثة التفتيشية عدم مسؤوليتهم عن أي مخالفات أو تجاوزات.
أهمية التقرير وخطورته لا تأتي من كونه تضمن تحريك الدعوى العامة بحق وزير التربية الأسبق الذي ربما يدينه القضاء أو يمنحه صك البراءة، أو حتى من حجم المال العام المكتشف نهبه والذي تجاوزت قيمته ما يقرب من 72 مليار ليرة (مع الغرامات يصل المبلغ لحوالي 90 مليار ليرة)، وإنما من طبيعة المخالفات والتجاوزات والتي تجاوزت كل منطق، ووصلت إلى حد “الوقاحة”، في وزارة يفترض أنها اليوم البوابة الرئيسية في إعادة بناء منظومة القيم والأخلاق، والنهوض بالمجتمع السوري.
*ظاهرة “الواجهات”!
في 63 صفحة، يستعرض كتاب الاعتماد الموجه مؤخراً للمحامي العام الأول بدمشق، وبإيجاز، نتائج التحقيقات التي أجرتها البعثة التفتيشية وشملت 19 نقطة يرتبط معظمها بشكل مباشر بمشتريات وزارة التربية خلال ثلاث سنوات 2016-2017-2018، وما ظهر من نقاط خلال مجريات التحقيق.
يبدأ كتاب الاعتماد، الذي حصل موقع “أثر برس” على نسخة منه، مفاجآته بالإشارة إلى أنه بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء في 5/8/2019 تم تشكيل لجان تدقيق فرعية للتدقيق في مشتريات وزارة التربية خلال أعوام 2016-2017-2018، وقد قدمت تلك اللجان 35 تقريراً تناولت تدقيق 591 عقداً وقفت من خلالها على جملة من الملاحظات تمثلت في النواحي التالية: ارتفاع كبير في الأسعار المتعاقد عليها، خلل في عمل اللجان، خلل في تحديد احتياجات الوزارة من المواد والمستلزمات، خلل في عمل مديرية المحاسبة، خلل في عمل مديرية التخطيط، وملاحظات أخرى.
ويضيف كتاب الاعتماد أن عمليات الجرد الأولية لأسماء العارضين خلصت إلى وجود 136 عارضاً تم التعاقد مع كل اسم بمعدل مرتين في العام الواحد غالباً، فضلاً عن التعاقد مع عارضين لمواد ذات طبيعة مختلفة، وهو برأي البعثة يؤكد عدم وجود تخصص لدى المتعاقدين، وتالياً فهم مجرد وسطاء بين الجهة العامة والمتعهد الفعلي، لاسيما وأن العديد منهم يعمل بأعمال حرة بسيطة (سائق سيارة أجرة- بقال-حرفي- طالب جامعة-مزارعين- كبار في السن….). وحسب إفاداتهم فهم لم يكن لهم أي دور فعلي بالعقود الموقعة، وإنما كانوا عبارة عن واجهة شكلية لغيرهم بموجب وكالات قانونية نظمها هؤلاء للمتعهد الفعلي، وذلك مقابل حصولهم على مبالغ مالية تتراوح تقريباً ما بين 100 إلى 150 ألف ليرة سنوياً، وأحياناً كان المبلغ يزيد أو ينقص. وهو ما أقر به المتعهد الفعلي، وأنه المنفذ الفعلي لعقود التوريد الموقعة في وزارة التربية خلال السنوات الثلاث المذكورة والبالغ عددها 591 عقداً، وبناء على ذلك تم إجراء تسوية صادقت عليها الجهات المعنية، وقامت بموجبها الجهة المتعاقدة بتسديد الفروقات السعرية المحددة والبالغة قيمتها حوالي 72.899 مليار ليرة، ومع إضافة الفائدة القانونية بلغ المبلغ المطلوب تسديده حوالي 90 مليار ليرة.
وفيما يتعلق بمشتريات الوزارة خلال العام 2019، فقد بين كتاب الاعتماد أنه تم العمل على تدقيق حوالي 218 عقداً نفذت من قبل 104 متعاقدين منهم 79 متعاقداً وردت أسماؤهم ضمن قائمة المتعاقدين خلال السنوات الثلاث السابقة للعام المذكور. وبحسب نتائج التحقيقات الأولية فإن الفروقات السعرية لعقود العام 2019 بلغت حوالي 31.4 مليار ليرة (وبذلك يمكن القول: إن إجمالي فروقات الأسعار في عقود وزارة التربية لأربع سنوات تصل إلى أكثر من 101 مليار ليرة من دون الفائدة القانونية التي قد ترفع الرقم ليتجاوز مبدئياً 122 مليار ليرة/ كاتب المقال زياد غصن).
*آخر الزمان!
تظهر سرديات كتاب الاعتماد حدوث مخالفات وتجاوزات ليس لها من مدلول سوى أن وزارة التربية تعاني من خلل عميق سمح لمجموعة من الموظفين على اختلاف تسمياتهم الوظيفية من تنظيم شبكة فساد واسعة استباحت المال العام والتلاعب بالقانون خدمة لمصالحها المباشرة، أعمال وممارسات كانت تبدأ بتلقي الرشاوى المنتظمة إلى تمرير المخالفات الصريحة في العقود، فالتواطؤ على مصلحة الوزارة في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى توظيف كل ليرة وكل جهد لتجاوز هذه المرحلة.
فمثلاً سجلت لجان التدقيق حوالي 15 ملاحظة على الاحتياجات المطلوبة من قبل الوزارة ومديرياتها، والتي جرى استجرارها خلال السنوات الثلاث المذكورة آنفاً، منها أن احتياجات المديريات المطلوبة كانت أكبر من الكميات التي تم شراؤها، وجود تجهيزات فائضة وأخرى غير مستثمرة، وتوزيع مواد خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة على جميع المديرية رغم وجود مديريات لم تطلبها.
في سلوكيات الموظفين الذين حصلت البعثة التفتيشية على إفادتهم، يتطرق التقرير إلى حوادث فساد واضحة تتمثل في قبض رشاوى كبيرة شهرية من قبل بعض الموظفين الكبار، إقرار بعض الموظفين باستلام مبالغ مالية تحت ضغط أوضاعهم المعيشية والاجتماعية الصعبة، تسريب معلومات عن احتياجات الوزارة للجهة المتعاقدة وحتى قبل الإعلان عنها، التدخل في عمل اللجان، القيام بعمليات تزوير تواقيع لعاملين على بعض محاضر اللجان والمناقصات، القيام بأعمال صرف مخالفة… الخ.
وقد انتهت البعثة إلى جملة طلبات ومقترحات جرى اعتمادها من قبل رئاسة الهيئة وتتضمن تحريك الدعوى العامة بحق 62 موظفاً في وزارة التربية ومديرياتها استناداً إلى مواد مختلفة من قانون العقوبات الاقتصادية وقانون العقوبات العام، ومن أبرز هؤلاء وزير التربية الأسبق الذي أكد التقرير أنه على الرغم من نفيه كل ما نسب إليه وعلمه بكل الوقائع المثارة، إلا أن البعثة رأت أن ذلك لا يعفيه من المسؤولية “لأن كل القرارات التي اتخذها خدمت الجهة المتعاقدة ومصالحها وأضرت بالمقابل بالمصلحة العامة”. ومن المحالين إلى القضاء كذلك معاون الوزير لشؤون التعليم الفني سابقاً، والمدير الساق لمديرية التعليم الفني والمهني ومعاونه كذلك، محاسبي الإدارة للأعوام 2016-2017-2018، ورئيس شعبة العقود… وغيرهم.
كما تضمنت الطلبات والمقترحات دعوة وزارة المالية إلى رفع الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لحوالي 28 موظفاً في الوزارة و12 متعاقد مع الوزارة، فرض عقوبة الحسم 5% لمدة ستة أشهر بحق 22 موظفاً في الوزارة ومديرياتها، كما طلبت من وزارة التربية العمل على معالجة 19 ملاحظة ونقطة هامة تم استخلاصها من نتائج التحقيقات التي استمرت لعدة أشهر أبرزها التأكد من ملاءة المتعهدين وقدرتهم وإمكانياتهم الفنية وخبرتهم في تنفيذ الأعمال، إيلاء موضوع اختيار أعضاء جميع اللجان كل الاهتمام بحيث يتم اختيار أصحاب الاختصاص والخبرة، لاسيما وأن معظم العاملين في اللجان الخاصة بالمناقصات وطلبات العروض كانوا يفتقدون للمعرفة والخبرة بإجراءات التعاقد.
*ما هو أبعد!
والسؤال… ماذا ستفعل الحكومة بعد أن صدر تقرير فيه من المؤشرات ما يخيف فعلاً؟ هل ستكتفي فقط بالمبالغ التي جرى استردادها وانتظار كلمة القضاء في الدعاوى التي طلبت الهيئة المركزية تحريكها؟ أم أنها ستحيل التقرير إلى لجنة خبراء تكون مهمتها اقتراح خطوات عاجلة لمنع تكرار ما حدث في هذه الوزارة أو غيرها؟
لا أعتقد أن الحكومة بوضعها الراهن ستذهب أبعد من احتمال الاكتفاء بالإجراءات الحالية، لكن المنطق يقول إن الحاجة تفرض في ضوء ما حمله التقرير الحالي، وما سوف يتضمنه التقرير القادم المتعلق بمشتريات العام 2019، أن تتحرك الدولة لوضع وتنفيذ خطة إنقاذيه تحد من الفساد الهائل الذي يجري تحت عباءة المناقصات وطلب العروض، تحصين العاملين في مختلف المؤسسات والجهات العامة ضد محاولات الإفساد وزيادة معارفهم وخبراتهم في المجالات التي يعملون بها، وهذا استناداً إلى ملاحظة هامة سجلها أعضاء البعثة التفتيشية وفحواها أن من اعترف بتلقي مبالغ مالية كان العمال العاديون، وتحديداً من كان منهم يعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية فضلاً عن أن المبالغ التي حصلوا عليها كانت بسيطة مقارنة بما حصل عليه الموظفون الكبار، والذين حاولوا إنكار ما نسب إليهم.
ومن المهم كذلك أن تعمل الدولة على إلغاء ظاهرة الاحتكار وتقاسم المتعهدين لمناقصات الوزارات والمؤسسات العامة، فتح نقاش حول إمكانية وضع مسودة لمشروع قانون متطور خاص بالمشتريات الحكومية، إعادة هيكلة شاملة وجذرية لآليات عمل وزارة التربية تعيد لها دورها الفعال والمؤثر في هذه المرحلة، وغير ذلك من إجراءات تساعد على وقف التدهور الحاصل في عمل مؤسساتنا واستباحة الفساد لها…
"زياد غصن - أثر برس"