جهينة- علي الجندي:
هل أسقطت الأزمة والحرب منظومة القيم الأخلاقية لدى الشعب السوري، أم إن ما يفعله ويمارسه السوريون من سلوكيات هو عكس مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم، هل الحاجة والضغوطات النفسية التي يتعرض لها المواطن هي التي تدفعه لمثل هذا السلوكيات، أم هي مورث اجتماعي ظهر للعلن بسبب الفوضى التي تعصف بالبلاد؟!.
في هذا التحقيق التي أجريناه تناقش "جهينة" مظهراً من المظاهر الاجتماعية غير الأخلاقية وهي سرقة بيوت الناس وما يرافقها من عمليات بيع وشراء ضمن سلسلة مستغربة لا يرضى بها أي إنسان، حيث حاورت من يقوم ببيع المسروقات وشرائها، والأسباب التي تدفعهم للقيام بمثل هذه الأعمال دون رادع أخلاقي، وتجاهلت من يقوم بعملية السرقة لكون هذا الموضوع أصبح مكشوفاً للجميع ومن يقوم به لا يحتاج لرادع أخلاقي بل لرادع قانونيّ!!.
في سوق عمره من عمر الأزمة جالت "جهينة" في سوق حي كشكول، الواقع بين الدويلعة وجرمانا وبالقرب من منطقة الدخانية، أكبر وأشهر سوق لبيع وشراء المسروقات وسألت الباعة والمواطنين عن أسباب شراء المسروقات وبيعها فكان التحقيق التالي:
عفش بيت كامل بالمفرق والجملة!
في سوق كشكول للمسروقات تجد كل ما يخطر في بالك من حاجيات، وتستطيع من خلاله أن تجهّز منزلك من أصغر إلى أضخم المفروشات. فهناك أناس متخصصون ببيع المفروشات من سجاد وموكيت وغرف نوم، وهناك من يختص ببيع الأواني المطبخية وصولاً إلى الكهربائيات بجميع أحجامها وأنواعها، وتجد أيضاً الكتب والألبسة، وقطع غيار السيارات. ولا يوجد عمر ولا جنس ولا حتى جنسية معينة للباعة، أطفالاً وشباباً، رجالاً ونساء وعجزة، سودانيين وصوماليين.
أبو علي بائع مختص بمستلزمات المطبخ يقول: يوجد لديّ كل ما يحتاجه مطبخ بيتك من طناجر إلى كاسات وصحون، ويؤكد أنه لا يوجد بائع في السوق يقوم بسرقة أي شيء، فهناك بحسب حديثه أشخاص يأتون بسيارات كبيرة محمّلة بعفش بيت كامل وسعر حمولة السيارة نحو 100 ألف ليرة وقد تصل إلى 200 ألف. ويضيف أبو علي: بعض الباعة لديهم رأس مال كبير يشترون السيارة بكل حمولتها ثم يبيعوننا البضائع، وأحياناً أصحاب السيارة يقومون ببيع الحمولة بالمفرق، فنقوم نحن الباعة ذوو الرأس المال الصغير بشراء ما نختص ببيعه. أنا شخصياً أشتري من السيارة أواني المطبخ وليس هناك سعر محدّد لأي شيء نشتريه أو نبيعه، التقدير يحدّد بالنظر إلى عمر القطع والخبرة في معرفة ثمنها، أشتري مثلاً كامل الأواني المطبخية من السيارة بـ 10 آلاف ليرة ثم أبيعها وقد يصل مربحي إلى 5 أو 7 آلاف ليرة.
الشاب (أحمد. ع) المختص ببيع السجاد قال: أنا أحضر المفروشات من منطقة السيدة زينب ويكون لديّ ورقة من المختار بأني اشتريت هذا البضاعة وأصبحت ملكاً لي، حيث يوجد في السيدة زينب سوق لبيع المفروشات المسروقة أو المستخدمة، لكن بسعر أرخص مما يباع من السيارات، أشتري أكثر من سجادة بالجملة ثم أبيعها هنا، وسعر السجادة بحسب طولها ونوعها، فقد يصل إلى 7 أو 8 آلاف ليرة وسطياً.
في السوق يوجد باعة من جنسيات مختلفة عندما سألناهم عن جنسيتهم وعملهم رفضوا الحديث، فقال لنا الباعة بأنهم سودانيون وصوماليون لا يختلطون بأحد، ربما هم لاجئون أو فقراء لكنهم قليلو الحديث مع الباعة هنا، حيث يبيعون فقط الأحذية.
بيع المسروقات أفضل من السرقة!!
معظم من قابلناهم من الباعة أكدوا أنهم لا يقومون بالسرقة، فالبضاعة تصل إليهم وهم يقومون بشرائها بمالهم، ثم يعرضونها للبيع. يقول أحد الباعة: صحيح أنني أبيع مسروقات لكن ما دفعني لذلك الحاجة وندرة العمل، وهذا أفضل من السرقة.
البائع أبو علي يقول: نحن لا نسرق، إنما نعمل ونعيش من تعبنا، عملنا كله حلال بحلال لأننا لا نسرق أحداً ولو سرقنا أحداً لما عملنا في وضح النهار وبلا خوف، وإذا كان هناك من يجب محاسبتهم فليس نحن، بل من أجبرنا على الخروج من بيوتنا وسرقتها وإيصالنا إلى هذه الحال.
أبو فيصل وهو بائع عجوز يقول: يزعجني ويؤلمني جداً أن أقوم ببيع أغراض مسروقة، فأنا بالنهاية إنسان.. لكن الواقع صعب، في الحقيقة أتأثر جداً عندما تأتي سيدة وتقول لي هذا من منزلي وأقول لها "هذا من منزلك خذيه مجاناً" وكثيراً ما يحدث ذلك!.
ويضيف أبو فيصل: يأتي أناس لا يملكون ثمن القطعة التي يحتاجونها فنقدمها لهم مجاناً، هنا سوق للدراويش.. عندما أجمع قوت يومي ويوم أولادي أستغني عن البضائع، لأن عملنا هنا ليس للاستغلال والسرقة، إنما لكي نعيش فقط، أنا أعمل هنا منذ 3 سنوات لم يزد رأس مالي عن 10 آلاف ليرة، هذا إن اعتبرته رأس مال.
بائع في الـ 40 من عمره رفض الإفصاح عن اسمه، دافع عما يقوم به دفاعاً قوياً مؤكداً أن الذي أجبره على هذا العمل هو الوضع الصعب والحرب الدائرة منذ 5 سنوات، مضيفاً: نريد أن نعيش وأن نأكل، إيجارات البيوت تصل إلى نحو 30 و40 ألف ليرة، وأنا من الأشخاص الذين دفعتهم الحاجة إلى إخراج أولادي من المدرسة فلا أملك مصاريف دراستهم، رأس مالي لا يتجاوز الـ 5 إلى 6 آلاف ليرة، ومربحي في اليوم 600 أو 700 ليرة أشتري طعاماً للعائلة، فلدي 5 أبناء أحتاج إلى 2500 ولا تكفينا مصروف يوم واحد.
وعن مهنته في السوق يقول: يصعب عليّ كثيراً أن أبيع مواد مسروقة، لكن أريد أن أعيش ماذا أفعل هل أتسول أنا وعائلتي؟، صحيح أتاجر بالمسروقات لكن يبقى أفضل من السرقة، إضافة إلى أني لا أملك عملاً الآن ولست موظفاً في الدولة، ولديّ إيجار بيت، من أين آتي بالمال، وهذا ما يدفعني لبيع أغراض مسروقة.
قصص مضحكة ومؤلمة؟
امرأة عجوز تقوم ببيع خردوات وأشياء غير واضحة الاستخدام تقول: الحمد الله لا شيء هنا مسروق، أنا الوحيدة التي أعرف مصدر بضاعتي، لديّ 5 أبناء يعملون معي.. يقومون بجلب الأغراض من القمامة، من أمام محلات الخردة، أو "يشحدونها" من الناس، المهم كل شيء لديّ له مصدر وليس مسروقاً، وأبيع أي قطعة بـ 10 ليرات.
هي إحدى القصص التي تراها وتسمعها في السوق، يقول البائع أبو فيصل: كثيرة هي القصص الغريبة والمضحكة أو المبكية التي تحدث في هذا السوق، بعض الباعة أصبحوا أغنياء عندما وجدوا ذهباً أو نقوداً كثيرة في بعض الكهربائيات أو المفروشات.
ولدى سؤالنا: كيف تعرفون بأن البائع وجد ذلك، يرد أبو فيصل: عندما لا يعود ذلك البائع إلى السوق وبعد فترة نسمع بأنه وجد ذهباً في البضاعة وسافر أو انتقل للعيش بمدينة أخرى.
البائع أبو علي يروي بأن جاره البائع اشترى جهازاً على أنه مايكرويف بسعر 3 آلاف ليرة، ولكن جاره الذكي على حسب تعبيره، شك بأن هذا الجهاز يشبه إلى حدّ ما المايكرويف لكن ليس مايكرويف، ويتذكر أبو علي أن جاره اشترى هذا الجهاز من سيارة لم يرها، لكن سمع بعد فترة بأن الجهاز الذي اشتراه جاره هو جهاز تعقيم حديث باعه بـ 2 مليون ليرة.
البائع (أحمد. ع) يشير إلى أن بعض البضائع التي يبيعها يتفاجأ بأنها قادمة من دير الزور أو حمص، ويقول: كثيراً ما تأتي إليّ سيدات ويقلن بأن هذه السجادة لي من منزلي وهن مهجرات من دير الزور، أختلف معهن بأن هذا ليس معقولاً فيثبتن لي ذلك فهن يحفظن كل قطعة بالسجادة سواء كانت مضروبة أو سليمة، حتى إنهن يحدثنني عن باقي ألوان السجادات التي كانت في بيوتهن فأجدها بين بضاعتي.
سوق الفقراء والأموات!!
عند التجول في السوق ترى كل فئات المجتمع من شباب ورجال ونساء وفتيات وعجز وأطفال، الكل يريد أن يشتري غير آبهٍ بكون ما يشترونه مسروقاً أو لا، ولدى سؤالهم عن سبب قيامهم بشراء مواد مسروقة، يجيبون بغصة: نعرف أنه خطأ، لكننا فقدنا كل شيء ومن ضمنها ضميرنا!!.
سيدة تحمل أواني مطبخ (طناجر، ملاعق، صحون) تقول: نحن من العائلات السورية الكثيرة التي عانت وخرجت من بيوتها بسبب الإرهابيين دون أن تُخرج أي شيء بيدها، الآن أسكن أنا وزوجي وطفلان في بيت غير مكسي ونحتاج إلى مواد أساسية لكي نعيش، من فرش وحرامات وأغطية أو أواني مطبخ، نحن لا نتحدث عن عفش كامل نتحدث عن المواد الأساسية للحياة، لذلك آتي إلى السوق لشراء هذه الأدوات بأسعار زهيدة جداً، فمثلاً هذه الطنجرة الجديدة لا تجدها في السوق بأقل من 8 آلاف اشتريتها اليوم بألف ليرة. وتضيف: قد تكون مسروقة نعم لكن لا أبالي بذلك كيف أطبخ وأطعم أولادي، وما هي الجريمة الأكبر، هل يبقى أولادي جائعين أم أشتري المسروقات لأقضى حاجاتي، على الأقل أنا أشتريها بمال حلال، حاسبوا من دفعني لذلك، فأنا ضحية ولست مذنبة.
أبو محمد يزور السوق أحياناً للبحث عما قلّ ثمنه وكثرت حاجته، سألناه عما يريد شراءه وكيف يرضى بشراء أغراض مسروقة، ليقول: أريد أن أشتري سجادة بأي قياس.. لا يهمني المصدر، المهم أن أفرش بيتي المستأجر، أما عن سبب شرائي من هذا السوق فهو الحاجة إلى الاستقرار في بيت ولو كان مؤقتاً، مضيفاً: خرجت من منزلي واستأجرت بيتاً صغيراً لا يكاد يسعني أنا وعائلتي وأعمل براتب لا يصل إلى 25 ألف ليرة، فكيف لي أن أفرش منزلي هل أسرق؟!.. ما أريد شراءه الآن ربما قد يصل إلى 4 آلاف ليرة وهذا سيجعلني مكسوراً في مصروف البيت لأكثر من 3 شهور، فقدت الأمل بالعودة إلى منزلي السابق لذلك أنا أشتري أغراضاً لبيتي الجديد وعلى دفعات.
أبو فؤاد يقول: أنا شرطي مهجّر من الحجر الأسود استأجرت منزلاً بسعر 20 ألف ليرة ولا وأملك دخلاً سوى راتبي، وعندما استأجرت المنزل لم يكن فيه شيء، معظم حاجياتي اشتريتها من هذا السوق من مفروشات وأواني مطبخ، ما يؤمّن لي ولعائلتي استمرارية العيش. ويضيف: سابقاً كانت الأسماء بسمياتها، الآن اختلطت الأمور فسوق الحرامية الكائن في شارع الثورة كانت الناس تخجل من الذهاب إليه لمعرفتها أن ما يباع فيه مسروق ولم تكن الناس بحاجة لشراء أشياء مسروقة، الآن الحاجة تبرر الوسيلة، هذا السوق ليس سوقاً للحرامية هذا سوق للفقراء والمعدمين والأموات، أنا آتي إلى هذا السوق بشكل مستمر وكثيراً ما تسقط قذائف الهاون هنا والناس يستمرون بالبيع والشراء ولا يبالون، فما الذي يدفع الناس لشراء أشياء قديمة ومسروقة وتحت خطر الموت، إنها الحاجة من دفعتهم لذلك بالتأكيد، لا أعتقد أن أحداً ما يشعر بتأنيب الضمير ولو قليلاً لما يفعله.. أنا لديّ زوجة وأطفال وهم بحاجة لهذه الأعراض.. أعتقد بأن الله سيغفر لي على ما أقوم به الآن.
الشاب سامر يغرد في سرب آخر بالقول: لا حاجة لي لشراء المسروقات أبداً لكن أنا هنا أبحث عن فرص لشراء أشياء غالية في الأسواق أو لم تعد موجودة، فلديّ محل لبيع الموبايلات آتي إلى هنا أشتري إكسسوارات للموبايل وشواحن وقطع صيانة لأجهزة الكمبيوتر المحمول قد تكون معطلة فأصلحها في محلي. ويضيف: ما أقوم به هو لكي أستطيع الاستمرار بعملي، فقطع صيانة الكمبيوتر والموبايلات غالية جداً ورأس المال لا يكفي لشرائها.
السؤال الجدلي؟
هذا التحقيق هو نقاش جدلي عميق لن تجد جواباً شافياً لسؤالك هل يصح ما يحدث أم لا، فلا تستطيع أن تلوم من يشتري فرشة لولده كي لا ينام على الأرض، حتى وإن كانت مسروقة، ولا تستطيع أن تغفر له إن علمت بأنها سرقت من تحت طفل آخر. ولا تستطيع أن توبخ سيدة تشتري ثياباً مسروقة لأطفالها خوفاً من برد الشتاء القارس، وهي تجرّ وراءها أطفالاً تقيس الثياب عليهم في العراء، ولا تستطيع أن تغفر لها بأنها ثياب أطفال ماتوا أو ربما يموتون من البرد. لكن ما يواسيك قليلاً بأن كل من يبيع أو يشتري ترى في عينه نظرة خجل مما يفعله، فهو يدرك أن ذلك خطأ لكن الحاجة تدفعه لذلك، ما يبشّر بأنه إن ذهبت الحاجة بطل الخطأ ربما، فعلى من أوصلهم إلى ما هو عليه، أن يُحاسب ثم يتم تعويضهم بطريقة ما وهي مسؤولية جميع وزارات الدولة، من تأمين عمل تأهيل مسكن وصولاً إلى حياة كريمة منشودة
01:40
01:46
01:50
01:53
00:25