جهينة نيوز
على الدوام كانتْ الأممُ والشعوبُ تحتفي بتضحيات أبنائها وعطاءاتهم العظيمة، وتخلّدُ بكثيرٍ من الفخر والاعتزاز بطولات الشهداء والجرحى الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم في سبيل الدفاع عن سيادة أوطانهم وحرية وكرامة شعوبهم، وتخصّصُ مناسباتٍ وأياما لاستذكار هذه التضحيات، فكيفَ ببلدٍ مثل سورية التي تتعرّضُ منذ سبع سنواتٍ وحتى (اليوم) لأقسى حربٍ وأبشعَ عدوانٍ شهدَتُه البشريةُ، وتقدّمُ يومياً الأمثولة تلوَ الأمثولة من بطولات أبنائها وشجاعتهم، وتزفُّ شهداءها وتستقبلُ جرحاها بالزغاريد لا بالدموع، لأنها تؤمنُ بأن الوطن يسمو ويتحصّن بالدماء الزكية المبذولة من أجْله.
لقد سطّر شهداءُ الجيش العربي السوري أنصعَ الصفحات، ورسموا بدمائهم طريق النصر العظيم الذي نشهده (اليوم)، وتباروا وتسابقوا في الوصول إلى قمة العطاء كي يكونوا كما قال عنهم القائد الخالد حافظ الأسد: “الشهداء أكرم مَنْ في الدنيا وأنبل بني البشر”. وفي الوقت نفسه كانتْ دماء جرحى الجيش والقوات المسلحة من المصابين والشهداء الأحياء نبراساً يهتدي به من يعشقُ ترابَ هذا الوطن، ويزهو ويفتخرُ بالانتماء إليه، ولعلّ إصابة الزميل وسيم عيسى الجندي والمراسل الحربي وفي ذكرى عيد الشهداء، والذي كان يعملُ بصمتٍ ويؤرّخُ لبطولات رفاقه في الجيش العربي السوري، وينقلُ أخبار المعارك من مختلف الخطوط والساحات بعيداً عن الاستعراض والمباهاة، هي الصورةُ الأبهى عن هذا العطاء اللا محدود، وتأكيد أنّ راية الشهادة التي رفعَها الضبّاطُ القادة وصفُ الضبّاط والأفراد من بواسل قواتنا المسلحة، ستظلُ خفّاقةً تشقُّ عنان السماء لتكون دائماً خطوةً جديدةً على طريق النصر الموعود.
على أنّ سؤالاً كبيراً نعجزُ عن الإجابة عنه ونحن نستذكرُ قامات الشهداء والجرحى، ونستعيدُ مشاهِد بطولاتهم وبسالتهم في الدفاع عن قيمِ الحق وتحدّيهم لظروف الحرب مهما اشتدتْ أو قستْ: ما الذي أنجزتْهُ دماء هؤلاء الشهداء والجرحى، وبينهم بالتأكيد الجريحُ وسيم عيسى خلال السنوات السبع الماضية؟
نجزمُ بأنه، وبخلافِ ما كان متوقعاً ومرسوماً من قوى العدوان وعصاباتها الإجرامية أن تكونَ العاصمةُ بوابة المخطّط لـ«تدمير» سورية و«تفتيتها» خدمةً للمشروع الصهيو- أمريكي كما جرى في بعض عواصم وبلدان المنطقة، ها هو الجيش العربي السوري وبعد سبع سنواتٍ من الحرب على البلاد يقلبُ التوقّعات كلها، ويُفشلُ المخططَ وأهدافه الخبيثة، ويؤسّسُ لمرحلة جديدة تنهي فصول هذه الحرب وتدقُّ المسمارَ الأخيرَ في نعَشِ من أشعلها، وليؤكدَ الحقيقة الكونية الثابتة أن دمشقَ، التي تقهقرتْ على أسوارها كل حملات الغزو، وانكفأ عن تحدّيها أعتى وأقوى المعتدين، وقاومتْ بكلِّ ما تملكُ من إرادةٍ جبارةٍ لشعبها، وقدّمتْ، كما المدن السورية كافة، قوافل الشهداء والجرحى لتطردَ “الانتداب” الفرنسي وقبله الاحتلال العثماني، ها هي تسجّلُ في أسفار التاريخ ووقائعه وأحداثه أنها كانتْ وستبقى البوابة التي تُحدّدُ منها خارطة المنطقة برمتها.
لقد شهدتْ دمشق خلال السنوات السبع الماضية أكثرَ من هجومٍ، وتعرّضتْ لأقسى وأبشعَ الحملات الإعلامية التضليلية الكاذبة، وتسلّلتْ قطعان الإرهابيين إلى بعض أحيائها الذين «سيطروا» على عدد من الضواحي والبلدات والقرى في غوطتيها الغربية والشرقية، واتخذوا الناس دروعاً بشرية.. وبهدف إرهاب المدنيين ودبّ الذعر والفوضى بين سكان العاصمة والوافدين إليها، أمطرتْ العصابات التكفيرية المدينةَ بمختلف أنواع القذائف والصواريخ والرصاص المتفجّر، وشنّت عدداً من الهجمات الانتحارية بالسيارات المفخّخة والأحزمة الناسفة، لكنّ العاصمة المحصّنة بإرادة السوريين وإيمانهم المطلق بقوة وطنهم وحكمة قيادتهم وشجاعة جيشهم وبتضحيات الشهداء والجرحى، كانتْ تواجه أشكالّ العدوان ببسالةٍ وصمودٍ أسطوري، وظلّت تقاومُ حتى (اليوم) إرهاب الجماعات المسلحة، وها هي تؤرّخُ لانتصارٍ موعودٍ معمّدٍ بدماء الشهداء وتضحياتهم.
كما يمكن القول إن ما أنجزه الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة خلال الأسابيع الأخيرة باستئصال البؤر الإرهابية واقتلاع خطرها المُحدِق بالعاصمة، هو إجهاضٌ تامٌ للمشروع الصهيو-أمريكي بـ«إسقاط» النظام، ودَفعْ سورية إلى أتون فوضى تحدّدُ فيها ما يسمّى “المعارضة”، بمختلف صورها وأقنعتها ومرجعياتها السياسية والإعلامية والمالية في «تل أبيب» وأنقرة والرياض والدوحة، الشكلَ المنتظرَ لـ”سورية الجديدة” التي يريدونها تابعاً وملحقاً على غرار تلك المشيخات والممالك والإمارات التي لا تملكُ تقرير سياساتها بعيداً عن مظلة البيت الأبيض وأهدافه الخبيثة في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه أثبتَ هذا الإنجازُ الكبيرُ أنّ ما تريده دمشق وعشّاقها الشهداء والجرحى، هو الثابتُ الوحيدُ والحقيقةُ المؤكدةُ، وأنّ خارطة المنطقة التي حُلَمَ الأعداءُ برسم حدودها لا يمكن أن تتحققَ ما لم تكنْ تحت خيمة المحور الذي تشكّلُ سورية عموده الرئيسي ورأس القاطرة فيه، أيْ محور المقاومة.. وعلى هذا، فإن الصبر والصمود الذي أبداه السوريون في الدفاع عن وطنهم، ها هما يتكلّلان بالنصر العظيم الذي يستكملُ ما بدأته قواتنا المسلحة في حلب وتدمر ودير الزور والرقة وريفي حمص وحماة وغيرها، ويمهدُ لمعارك أخرى لتطهير الأراضي السورية من دنس الإرهاب في إدلب وريفي درعا والقنيطرة، ومواجهة أيّ مشروعٍ يسعى إلى اقتطاع جزءٍ من هذه الأراضي لإقامة جيوبٍ وكياناتٍ تشكّلُ أداة ضغطٍ على سورية لتغيير تحالفاتها ومواقفها نحو الكثير من قضايا المنطقة.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أن شكل التحالفات والمحاور وخارطة المنطقة إنما ترسمُها دمشق لما تملكه من ثقلٍ وإرثٍ حضاري ومكانةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، بلْ يمكن القولُ والاعترافُ بأن النصر السوري على الإرهاب، والذي تبدأ بشائره (اليوم) من دمشق، هو نصرٌ للإنسانية جمعاء التي تواجهُ فكراً ظلامياً ونهجاً تكفيرياً يدعو إلى التفرقة والقتل، وهذا باعتقادنا ليسَ نبوءاتٍ أو توقعاتٍ، إنما هو حقيقةٌ راسخةٌ ثابتةٌ بأن دمشقَ كانتْ وما زالت وستبقى، بفضل دماء شهدائها وجرحاها، البوابةَ التي يُكتبُ منها تاريخُ المنطقة كلها.
المصدر: مجلة جهينة عدد 105
20:54